“ملص” .. الروائية للتعبير عن البُعد التاريخي

حوار: نقولا طعمة – بيروت

“سلم إلى دمشق” آخر روائيات المخرج السوري محمد ملص، يثير جدلا حول الثورة ومآلها، وحول الحلم السوري وحقيقته وواقعيته. وُضع في ظل تطورات الأحداث السورية، ليعكس التمزُّق الذاتي بين الرغبة في التغيير والتحرُّر وبين العجز عن الوصول إليه، وذلك عبر روايات وحوارات الأشخاص الذين وفدوا إلى دمشق من أبناء الجيل الجديد، من طلاب سوريا من مختلف المشارب والانتماءات.

يطرح الفيلم جدلا حول أهمية الرواية في إظهار الأحداث، بالإضافة إلى مواكبته للتقنيات الحديثة التي فرضت نفسها على العالم، وتبنّاها ملص الذي لم يعد مضطرا لأن يحمل “بكرات الأفلام الثقيلة” لإيصال فيلمه إلى حيث يجب.

في سؤال لملص، وهو في لبنان للمشاركة في عرض فيلمه ضمن مهرجان “أيام بيروت السينمائية” الشهر الفائت، عن الظروف التي أحاطت بالفيلم، قال ملص لـ “الجزيرة الوثائقية” إن “القضية ليست قضية ظروف، بقدر ما أن هذا الفيلم هو الفيلم الروائي الذي أُنتج مع بداية الأحداث في سوريا 2012، حيث أن هذا الحدث الأولي الذي اختطف، والذي اُغتيل، شكّل في البداية محاولة للتقرب من جيل الشام في سوريا، والتعرُّف على عالمه الداخلي، صحيح من وسط الأحداث، ولكن ليس للتعبير عنها بقدر ما كان الهدف التعبير عن الحال الداخلي لجيل الشام حاليا، ومنذ ذلك التاريخ، وكيف يعايش ما يحدث، وما هو إحساسه، وموقفه مما يحدث. لذلك لا أستطيع الحديث عن شيء اسمه ظروف خاصة، بقدر ما كانت هي الظروف العامة الحادة والصعبة والقاسية والتي تحكّمت كثيرا بالطريقة التي كان يمكن التعبير من خلالها، وتحكمت بالبنية الدرامية العامة لهذا الهدف الروائي، وربما حتى اليوم يمكن القول بأنه يمكن أن يكون أول عمل روائي يتناول هذه الأحداث”.

عن الفيلم كفيلم روائي، تناول مفهومه للروائية باعتباره منتمٍ إلى سينما المؤلف، قال: “الروائية هي دائما محاولة للكتابة عن المشاعر الوجدانية للمؤلف بالعلاقة مع الواقع، ليس لصياغة فيلم مُتخيل، إنما لصياغة فيلم روائي يرتبط بالواقع، ارتباط حقيقي وعميق ومباشر”.

وعن متغيرات الشباب السوري في ظل تطور الأحداث بين 2011 و2014، قال: “ليس الموضوع هو التغيُّر الحدثي، بقدر ما أن الحدث شكّل حلما من الأحلام الصغيرة لهؤلاء الشباب. هذا الحلم هو الذي اختُطف، وسُرق، وتم اغتياله، وبالتالي أنا اعتقد أن الأمور اليوم تختلف عند هؤلاء الشباب وخاصة الذين صُدموا وخيبوا بما استطاع الحراك الشعبي أن يصوغه لنفسه كتوجُّه سياسي. تحول الحلم إلى استثمار سواء مما يمكن تسميته بالمعارضة الخارجية، وما يمكن تسميته بالقوى الداخلية التي استولت على هذا الحراك، وقادته بالتدريج نحو مواجهة غبية مسلحة، أدت إلى ظهور تيارات إسلامية متطرفة اليوم”.

عن تطورات سوريا، ورؤيته لمصيرها، قال: “من الأساس لدي قناعة كاملة بأن السياسة هي جزء من العمل السينمائي، وليست جزء من الخطاب الشخصي المباشر. على الرغم من ذلك، أعتقد أن الشباب اليوم كما لم يتوقع أحد حدوث ما يحدث، لكوننا نعايش هذ االواقع اليوم بكل قسوته وعنفه ووحشيته، فأعتقد أنه لا أحد يستطيع أن يرى الصورة برؤيا متفائلة، أو يتضح لنا إلى ماذا يمكن أن تؤدِّي”.

كنت تهتم بالفيلم الوثائقي، وفي “سلم إلى دمشق” ركزت على الروائية، ما الفارق بين الوثائقي وبين الروائي المستند إلى وقائع حقيقية كفيلم “الليل”، قال ردا على السؤال: “الليل فيلم روائي، لكن دون الدخول بالتعبيرات الأكاديمية، ودون إحداث أي جدل حول النوع السينمائي والروائي والوثائقي. أنا لدي وجهة نظرة خاصة تقوم على أن السينما، باعتباري المؤلف، السينما بالنسبة لي هي السينما، مهما كانت الصيغة أو الشكل الذي تتخذّه للتعبير. حين أكتب كتابا أحاول أن أُعطي الأدب مذاقا بصريا من خلال الكلمة، وكذلك في محاولتي للتعبير من خلال السينما بوصفها نزوع أدبي، لكون السينما بالنسبة لي هي سينما أولا وآخرا، ولكوني عبر الأربعين عاما لم أُفرِّق في الاحتياج التعبيري الخاص بي، بين هل أختار الوثائقي الآن، أم الروائي، كنت أختار ما كان يساعدني على تحقيق ما أريده سواء بالنزوع إلى شخصية وثائقية لأرسم لها بورتريه كما فعلت، أو اللجوء إلى موضوع وثائقي كما فعلت أيضا، وحاولت التعبير عنه بلغة وثائقية، وليس بلغة روائية”.

أضاف: “في مرات عديدة أخرى كنت ألجأ إلى الروائي حين أريد التعبير عن موضوع أشمل وأوسع، وأعمق وذو بعد تاريخي واجتماعي، في محاولة إعادة بناء عصر ومرحلة، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا عبر العمل السينمائي الروائي. حينما أردت أن أستعيد الخمسينات كما فعلت في فيلم “أحلام المدينة”، على سبيل المثال، فلم يكن أمامي إلا أن أعيد إنتاج المرحلة روائيا بالاستعانة بمكونات وثائقية مع الوفاء لتاريخية المرحلة، وليس لوثائقية السينما، تاريخية المرحلة من حيث التكوين، أو من حيث اللون أو الضوء أو الإيقاع. وهنا لا بد من اللجوء إلى البنية الروائية في التعبير عنه. لكن الفارق بالنسبة لي غائب، ولا أعتبر أن الأمر يخضع لموازنة القيمة أو القدرة أو الفعالية لهذا النوع أو ذاك. كنت دائما وفيا ومخلصا في عملي، سواء لجأت إلى مشروع روائي أم مشروع وثائقي”.

وفي ظل التطورات العربية، لابد من السؤال عن السينما الشبابية العربية في ظل آخر أربع سنوات من الأحداث، قال: “لا أعتبر أن هناك سينما عربية بل أفلاما عربية. البلد الوحيد الذي يمكن أن أعطيه هوية سينمائية، هو مصر، بمعنى الإنتاج والتوزيع والسيناريو، والصناعة. السينما المصرية، عريقة ومؤسسة على أسس واضحة، واستطاعت أن تخلق جمهورا عبر الزمن، محب لها، وإمكانيات إنتاج سواء على الصعيد التقني أو على الصعيد البشري. ما نزال في البلدان العربية الأخرى نحاول أن ننتج أفلاما، وربما ليس لدينا سينمات ذات سمة عروبية، بقدر ما نؤسِّس لسينما ذات بُعد وطني، لذلك أنا أثني، على الرغم من الزمن السيء، على السينما السورية التي حاولت أن تكون في كثير من المرات سينما وطنية، تستطيع التعبير عن الواقع في سوريا، وتتناول مشاكل هذا المجتمع سواء بما حققته حتى اليوم من أفلام روائية أو وثائقية، ونستطيع أن نقول أن السينما في سوريا صار لديها الآن ما يمكن تسميته شيء من التراث السينمائي الذي رسم المرحلة والواقع الاجتماعي في سوريا، وبنوعيها الوثائقي والروائي”.

محمد ملص – المصدر : AFP

وتابع: “لكن انطلاقا من كون كل المحاولات هي محاولات محدودة، ولم تتمكن من خلق جمهور مواظب ومستمر ودائم، تبقى هي محاولات لا بد من دعمها، وتقييمها من الجوانب الإيجابية التي فيها، والتأكيد عليها، في سبيل تطورها”.

ملص لاحظ أن “هناك الكثير من الأفلام الهامة التي تم تحقيقها، سواء في فترات السبعينات، أو في ما بعد، وظهرت أيضا أفلام مبدعة في عدد كبير من البلدان العربية، نستطيع أن نتحدث عن السينما التونسية أنها سينما مهمة، والأفلام التونسية ظهر منها عدد من السينمائيين المهمين والموهوبين، كذلك في لبنان، نستطيع أن نتحدث عن أسماء وأفلام تستحق التقدير، لكن هل نحن وصلنا إلى المرحلة المطلوبة؟ لا، لم نصل بعد، وربما التطورات السياسية والتقنية الحاصلة على صعيد وسائل التعبير البصري تلعب دورا اليوم على صعيد ضرورة إعادة النظر في الأمور، ورؤيتها بمعيار مفاهيم مختلفة عن المفاهيم التي نشأت عليها هذه السينما”.

عن أهمية التقنيات الحديثة، وكيف استفاد منها، قال: “الاستفادة الأساسية هي في التطور التقني الذي اقتحم الصناعة السينمائية بشكل كبير، وخلق قواعد بديلة قادرة على حماية المشروع السينمائي، وإتاحة الفرصة لتنفيذه بأساليب أبسط، وأسهل، ربما ليست أقل تكلفة، لكنها سهلت الكثير”.

وأوضح أنه “منذ سنوات عديدة، اضطررت أن أتجه إلى الديجيتال لتصوير الأفلام، وكان التحول ممتازا، فقد كانت الإرادة كبيرة، وليس على صعيد الانترنت فقط، بل على صعيد التطور التقني في الصناعة السينمائية. وعلى صعيد الانترنت، فبالتأكيد، قبل ثلاثين عاما، كنت أحمل فيلما مكونا من ست علب معدنية كبيرة يفوق وزنها الـ27 كيلوغراما، أما الآن فأنا أستطيع إرسال فيلمي عبر الانترنت إلى أي طرف يطلبه دون أن أحمل هذه الأعباء على كتفي”.