مهرجان الفيلم الفلسطيني بلندن.. أفلام فلسطينية لجمهور عالمي

عدنان حسين أحمد

المخرج رائد أنضوني لم يلجأ إلى سجن عادي ليصور فيه الأحداث، وإنما أعاد بناء سجن المسكوبية بديكور خشبي وحديدي مستدعيًا مكان الاعتقال نفسه

طوى مهرجان الفيلم الفلسطيني في لندن دورته الجديدة بعد انقطاع استمر سنتين، لكنه عاد بقوة هذا العام لينطلق برؤى وتصورات حديثة أضفت عليه مِسحة جديّة في اختيار الأفلام وانتقاء صالات العرض النظامية، ومحاورة صنّاع الأفلام من قِبَل نقّاد سينمائيين أو صحفيين مختصين بالشأن السينمائي الفلسطيني، ومتابعين لنتاجاته الجديدة والقديمة على حدٍ سواء.

استمرت فعاليات المهرجان من 16 وحتى 28 نوفمبر/تشرين الثاني 2018، وهي مدة طويلة نسبيًا قياسًا بالمهرجانات السينمائية الكبرى في العالم والتي تعرض كمّا كبيرًا من الأفلام الجديدة التي تتوفر في الأعمّ الأغلب على سويّة فنية عالية أو مقبولة في أضعف الأحوال. ولعل السؤال الأبرز الذي يتبادر إلى ذهن القارئ هو: ما الذي قدّمه مهرجان الفيلم الفلسطيني في لندن لجمهوره المتنوع الذي ينتمي إلى أكثر من مئة جنسية عالمية؟

ثمة معلومة خطيرة تشير إلى أنّ كل فرد من أربعة أفراد فلسطينيين قد ذاق مرارة السجن

عروض أفلام.. وكمٌّ كبير من الآلام

مَنْ يُلقي نظرة سريعة على برنامج المهرجان سيجد أن الأفلام الروائية والوثائقية والقصيرة التي عُرضت في المهرجان بلغت 31 فيلمًا، وهي قليلة قياسًا بعدد أيام المهرجان الـ13 التي تستوعب على الأقل مئة عرض سينمائي يُشبع رغبة المتلقين الذين يجدون في أنفسهم حاجة ملحّة لمشاهدة الأفلام الفلسطينية والاستمتاع بها، رغم الكمّ الكبير من الآلام والمحن التي تنطوي عليها.

ومع ذلك فقد ارتأى القائمون على المهرجان أن يقدموا يوميًا فيلمًا قصيرًا إلى جانب فيلم روائي أو وثائقي طويل، أو يقدّموا خمسة أفلام قصيرة دفعة واحدة، إضافة إلى مُحاوَرة المخرج كما حصل مع أفلام مهدي فليفل القصيرة أو أفلام الثورة الفلسطينية المحصورة بين عامي 1969 و1984، والنقاش الذي أعقبها مع المخرجة الفلسطينية عزّة الحسن ومهندس الصوت بشّار شمّوط والأكاديمية أناندي رامامورثي.

لا شكّ في أن الإمكانيات المادية للمهرجان ضعيفة؛ الأمر الذي انعكس سلبًا على منشورات المهرجان، وتأجير بعض الصالات غير النظامية التي تؤرّق المشاهدين، ومع ذلك فقد عُرضت أفلام المهرجان في ست صالات ومنابر ثقافية معروفة وهي باربيكان وكيرزن سوهو وفينيكس وريّو ومعهد الفنون المعاصرة وجامعة سواس، لكن ينبغي الإشارة إلى أن صالتي كيرزن سوهو وريو لا تصلحان للعروض السينمائية حصرًا.

استضاف المهرجان هذا العام أسماء فنية وفكرية لامعة أبرزها المخرجة مي المصري والمخرج كمال الجعفري والباحث والمهندس المعماري إيّال وايزمان والناشطة المعروفة بيلا فرويد، إضافة إلى شخصيات ثقافية أغنت المهرجان بحضورها وفاعليتها على صعيد النقاشات التي كانت تدور حول أفلام المهرجان خاصة، أو السينما الفلسطينية بشكل عام.

ثمة فعاليات موازية للعروض السينمائية مثل المحاضرات والحلقات النقاشية وترويج بعض الكتب السينمائية الصادرة حديثًا مثل كتاب “السينما الفلسطينية أيام الثورة” لنادية يعقوب رئيسة قسم الدراسات الآسيوية لجامعة نورث كارولينا في تشابيل هيل.

 

اصطياد الأشباح.. مرارة السجون الإسرائيلية

وبغرض إحاطة القارئ علمًا بأهم الأفلام التي عُرضت في المهرجان وتركت أثرًا طيبًا لدى المُشاهدين، نتوقف عند فيلم “اصطياد الأشباح” لرائد أنضوني، وفيلم “ديغراديه” لعرب وطرزان ناصر، وبعض أفلام مهدي فليفل القصيرة، إضافة إلى فيلم “بونبونه” لراكان مياسي، مع الإشارة الخاطفة إلى أفلام أخرى كلما دعت الحاجة إلى ذلك.

يبدو أن تتويج فيلم “اصطياد الأشباح” لرائد أنضوني بجائزة أفضل فيلم وثائقي في الدورة الـ67 لمهرجان برلين السينمائي الدولي وضعه في خانة الأفلام المطلوبة في معظم المهرجانات السينمائية العالمية، فلا غرابة أن يكون فيلم الافتتاح في هذا المهرجان أو غيره من المهرجانات السينمائية التي تراهن على الجانب الفني الذي يحفِّز المتلقين على مشاهدته والاستمتاع بمقاربته الفكرية للثيمة الرئيسية التي يتردد صداها على مدار هذا الفيلم، والذي يجمع بين الصيغتين الروائية والوثائقية، وربما نكون أكثر دقة إذا قلنا إنه يتحرك في المساحة الرمادية بين هذين النمطين السينمائيين من الإبداع البصري.

ثمة معلومة خطيرة تشير إلى أنّ كل فرد من أربعة أفراد فلسطينيين قد ذاق مرارة السجن، وهذا يعني أن ربع الشعب الفلسطيني قد خاض تجربة الاعتقال في السجون الإسرائيلية، وهي نسبة لم يشهدها أي بلد من بلدان العالم. وبما أن عدد السجناء الفلسطينيين كبير إلى هذه الدرجة، فإن المخرج أنضوني سيضع نفسه أمام تحديات كبيرة أهمها أن ثيمة السجن هي موضوع معروف لربع السكان الفلسطينيين، وأن الثلاثة أرباع الأخرى تعرف هذه الثيمة من خلال السجناء الذين يوجدون في كل بيت تقريبًا، وأن على المخرج نفسه أن يصنع من هذه الحالة السائدة والمألوفة فيلمًا غير مألوف، وقادرا على الإثارة والتشويق.

لم يلجأ المخرج رائد أنضوني إلى سجن عادي ليصور فيه الأحداث، وإنما أعاد بناء سجن المسكوبية بديكور خشبي وحديدي مستدعيًا مكان الاعتقال نفسه، كما طلب من المعتقَلين أنفسهم أن يستذكروا التجارب المؤلمة التي مرّوا بها سواء في زنازينهم الانفرادية أو في غرف التعذيب الجماعية، واستطاعوا من خلال الفيلم أن يصطادوا الأشباح التي ظلت ترافقهم حتى بعد خروجهم من السجن. ولعل النقطة الأهم في ثيمة هذا الفيلم هو أن السجناء قد تعرّفوا على أشباحهم في الأقل، وصاروا يتعاطون معها كواقع حال ينبغي التعامل معه من دون خشية أو وجل.

لم يعتمد المخرج على ممثلين محترفين باستثناء رمزي مقدسي، فغالبية المشاركين في الفيلم أناس عاديون لم يتقمصوا شخصيات السجناء لأنهم عاشوا تجربة السجن، وتعرضوا للاستجواب والتعذيب القاسيين، فلا غرابة حين يراهم المتلقي ويشعر وكأنهم ممثلون محترفون يؤدّون أدوارهم بإتقان شديد.

وبعد انتهاء الفيلم الذي مرّ سريعًا رغم قساوته وتأثيره النفسي المؤلم على المشاهدين، دار نقاش بين المخرجة عزة الحسن التي قدّمت أنضوني وحاورته في العديد من مفاصل الفيلم الأساسية، ثم أدارت الحوار مع عدد كبير من المشاهدين الذين تولدت لديهم أسئلة كثيرة أجاب عليها أنضوني بحرفية عالية وبلغة إنجليزية سلسة ومتدفقة، جعلته يعبّر عمّا يجول في ذهنه من أفكار غزيرة تتعلق بفكرة الفيلم وبناء “الموقع” (اللوكيشن)، وأداء الشخصيات التي جسدت أدوارها بطريقة منطقية أقنعت المشاهدين في أماكن مختلفة من العالم.

 

“قَصّة الشَعر المتدرِّجة”.. سخرية سوداء في غزة

يشكل فيلم “ديغراديه” أو “قَصّة الشَعر المتدرِّجة” للمخرجَين الشقيقين عرب وطرزان ناصر انعطافة أساسية لجهة مناصرة المرأة، فقد توزعت البطولة الجماعية على 13 امرأة يُحاصَرن في صالون تجميل تديره امرأة روسية متزوجة من فلسطيني في قطاع غزة، ويضطررن للبقاء فيه بسبب نزاع مسلّح اندلع أمام الصالون بين الأجهزة الأمنية التابعة لحركة حماس وإحدى العائلات الفلسطينية في حي الشجاعية، وذلك لاختطاف الأخيرة أسدًا من حديقة الحيوانات الوحيدة في المدينة.

تجمع ثيمة الفيلم نساء من خلفيات ثقافية واجتماعية مختلفة، فمنهن العروس والعاشقة والمطلّقة والحامل والثرثارة والمتدينة والمدمنة على الحبوب.. نساء ينغمسن في أحاديث ونقاشات متشعبة تبدأ من الجوانب الاجتماعية للحياة اليومية في القطاع، وتمتد إلى الجوانب الاقتصادية والعاطفية، لتنتهي بالسياسة بطريقة كوميدية ساخرة تُسنِدُ فيها واحدة منهن -في خاتمة المطاف- الحقائب الوزارية للنساء المُحاصَرات في صالون التجميل.

تدور أحدث الفيلم في يوم حار جدًا تنقطع فيه الكهرباء، فتتفاقم الحالة النفسية للنساء المحاصرات اللواتي يتحدثن عن كل شيء تقريبًا مثل إغلاق المعابر وانقطاع التيار الكهربائي وانقسام الفصائل والحروب الإسرائيلية التي تضع أوزارها لتبدأ من جديد.

إنه فيلم كوميدي بامتياز ينطوي على سخرية سوداء أضحكت المتلقين الذي شاهدوا الفيلم في سينما “ريّو” التي لا تتوفر -مع الأسف الشديد- على الاشتراطات القياسية للصالات النظامية الحديثة.

 

مهدي فليفل.. أفلام قصيرة لكنها كبيرة

حظيت الأفلام القصيرة في المهرجان بأهمية كبيرة حين خُصّص لها يومان منفردان، فقد عُرض في اليوم الثاني للمهرجان خمسة أفلام قصيرة بشكل متتالٍ للمخرج الفلسطيني مهدي فليفل (المقيم في الدانمارك حاليًا)، وهذه الأفلام هي “غريب” و”رجل يغرق” و”رجل يعود” و”وقّعتُ على العريضة” و”عشرون سلامًا للسلام”.

تتمحور الأفلام الثلاثة الأولى على موضوع الهجرة التي تنطلق من مخيم “عين الحلوة” في لبنان ومنها إلى سوريا وتركيا لتنتهي إلى اليونان، حيث يواجه المهاجرون مصاعب جمّة لا يمكن تصورها، الأمر الذي يدفع ببعضهم إلى التفكير الجدّي بالعودة إن توفر لديهم ثمن التذاكر، وإذا أفلح البعض منهم في العودة فإنه يعود محمّلاً بالانكسار والخذلان والإدمان على المخدرات.

بعض هذه الأفلام القصيرة يعرّي الأشياء المحجوبة أو المسكوت عنها مثل معاشرة العجائز، التي يضطر إليها الشاب المهاجر بغية تأمين لقمة الطعام، وهي فكرة غير مطروقة سابقًا بهذة الجرأة غير المعهودة في أفلام المخرجين المقيمين في المنافي الأوروبية.

يرصد فيلم “وقّعتُ على العريضة” حيرة أحد الشباب الذي لا يعرف تمامًا نتيجة ما أقدمَ عليه حين وقّع على عريضة تطالب بمقاطعة إسرائيل ثقافيًا، لكن وطأة هذه الحيرة ستخفّ شيئًا فشيئًا حين يوضح له صديقه على الطرف الآخر من الهاتف معنى هذه المقاطعة وتأثيرها النفسي على الإسرائيليين المتشددين.

أما فيلم “عشرون سلامًا للسلام” فيبنيه فليفل على مفارقة التقطها إدوارد سعيد وهو يتحدث عن عملية السلام في أوسلو، وذلك حين مدّ الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات يده لرئيس الوزراء الإسرائيلي إسحق رابين؛ الأمر الذي أثار غضب الفلسطينيين في كل مكان حتى إن والد الراوي نزع حذاءه وقذف به شاشة التلفاز.

وبعد عرض الأفلام القصيرة الذي استغرق 71 دقيقة حاور الناقد السينمائي كليم أفتاب المخرج مهدي فليفل، وأعرب عن إعجابه بهذا النمط من الأفلام الهادفة التي تنطوي على سخرية واضحة لا يغفلها المشاهد الحصيف.

جدير بالذكر أن المخرج مهدي فليفل حصل على عدد من الجوائز أبرزها “الدب الذهبي” عن “رجل يعود” عام 2016، كما تُوِّج “عالم ليس لنا” باللؤلؤة السوداء في مهرجان دبي السينمائي عام 2012.

"بونبونه" يحكي قصة امرأة فلسطينية تزور زوجها في سجن إسرائيلي لكنها لا تستطيع أن تختلي به

“بونبونه”.. ثيمة إنسانية حساسة

من بين الأفلام القصيرة التي رافقت الأفلام الروائية والوثائقية الطويلة نتوقف عند فيلم “بونبونه”، ويحكي قصة امرأة فلسطينية تزور زوجها في سجن إسرائيلي لكنها لا تستطيع أن تختلي به، فيضطر السجين الذي لعب دوره الفنان صالح بكري لممارسة الاستمناء وهي جالسة على الطرف الآخر من النافذة الزجاجية تستثيره وتذكّره باللحظات الحميمة بينهما، إلى أن يقذف سائله المنوي ويضعه في غلاف البونبونه مذكرًا إياها بضرورة إيلاج هذه الحيوانات المنوية في مهبلها قبل مرور ست ساعات عليها، فتضطر للقيام بهذة العملية المُحرجة داخل السيارة التي تقلّ عددًا من نساء السجناء وهنّ في طريق العودة إلى منازلهن.

أثار هذا الفيلم تعاطف المشاهدين الذين صفقوا له كثيرًا، وتفاعلوا مع ثيمته الإنسانية الحساسة، وأشادوا بدور المخرج راكان مياسي على التقاطته الذكية، وأثنوا على شجاعة الفنان صالح بكري وجرأة الفنانة رنا علم الدين.

وفي الختام لا بدّ من الإشارة إلى ملاحظة شديدة الأهمية، وهي ضرورة استقدام أكبر عدد ممكن من الأفلام الجديدة التي لم تُعرَض في مهرجانات سابقة أو على الأقل عُرضت في السنة الأخيرة، وذلك كما تفعل غالبية المهرجانات العالمية التي لا تجد حرجًا في عرض فيلم جديد أُنتج في السنة نفسها وقد سبقته في عرضها مهرجانات أخرى، أما أن يكون المهرجان خزّانًا للأفلام القديمة التي مرّ على عرضها سنة أو سنتان أو أكثر فتلك مسألة تستحق إعادة النظر، وذلك على الرغم من أن الجمهور البريطاني المتنوع أقبلَ على هذه الأفلام القديمة بعض الشيء بشهية كبيرة، وكأنه يشاهد أفلامًا جديدة وُضِعت عليها اللمسات الأخيرة قبل بضعة أيام.