مهرجان وارسو السينمائي الدولي.. كمامة ومعقم وأفلام تتحدى الوباء

ندى الأزهري

علّقت مرافقتي البولندية ضاحكة على شرحي بأن ما حصل معي للقدوم من باريس إلى مهرجان وارسو السينمائي الدولي (من 9 وحتى 18 أكتوبر/ تشرين الأول) لم يسبق أن حدث خلال عقود من الأسفار لمتنوع البلاد والقارات. إغلاق طريق في باريس وزحام لم أشهده حتى في نيودلهي وطهران المشهورتين بازدحامهما الأسطوري. وقضاء أكثر من ثلاث ساعات للوصول إلى المطار، في حين أنه في الأحيان العادية لا يزيد عن أربعين دقيقة.

كنت اتصلت لأعلن عن تعذر قدومي لمهرجان “وارسو”، أو على الأقل في اليوم المحدد، لكن يبقى أمل ولو صغير مغلّف بكثير من يأس هناك في زاوية مضيئة في الداخل، أمر غريب لا نعترف به في حينه خشية نَحسٍ قد يطاله، لكنه يظلّ يدفعنا للإكمال. سنكمل الطريق للمطار وإن كان موعد إغلاق التسجيل انتهى.

ركضٌ في بهو المطار حتى تقطعت الأنفاس، ما زالت المضيفة هنا تلملم أوراقها لمغادرة المكان، حيث تسجل بأريحية هذه الواقفة أمامها آملة. يبقى المرور على الأمن وهو أمنان في زمن كورونا، لكن كل هذه الخطوط على الأرض التي تحثّ المسافر على احترام التباعد دُعستْ بلا رحمة أو اكتراث، فصفوف المغادرين أمام التفتيش طويلة، وقبل وصول الدور ربما تكون الطائرة غادرت وبلغت ربع المسافة، لكن البشر يبدون أكثر تفهما هذه الايام، حيث يوحد بينهم تضامن مدهش يسمح للمتأخرين باجتياز الدور.

ها أنا الآن في وارسو أخيرا، وهدية المهرجان الحقيبة القماشية المعتادة، هذه المرة فيها ما لم يعد من غنى عنه؛ كمامة عليها شعاره ورقة شجرة الكستناء الذهبية وسائل معقم. تخبرني المرافقة أن اليوم هو الأخير بدون كمامة في الأماكن المفتوحة، ومن الغد يجب وضعها في كل مكان، أخلعها وأتنفس الصعداء لساعات قليلة قبل الغد. في الفندق لا تنظيف يومي بسبب كورونا، وفي كل مكان يحترم الناس هنا الإجراءات، في السينما وأثناء العرض يجب وضعها، وقد جرى تخفيض عدد الحضور إلى 25% فقط من قدرة الصالة على الاستيعاب، إذ يجب ترك مقعدين بينك وبين جارك.

إحدى قاعات “قصر الثقافة” الذي عُقدت فيه فعاليات مهرجان وارسو السينمائي الدولي

 

قصر الثقافة.. هدية “ستالين” إلى وارسو بعد الحرب

يطل الفندق على قصر الثقافة، وفيه دور عرض مشاركة في المهرجان، وهو بناء من العهد السوفياتي أهداه “ستالين” لوارسو بعد تدمير معظمها في الحرب، ويكاد يكون المبنى الوحيد القديم بين ناطحات سحاب بلورية، ما عدا أبنية متفرقة أقل فخامة يطغى على طرازها المعمار السوفياتي كما بقي في الذاكرة من المركز الثقافي الروسي في دمشق، إنه إسمنتي تتوزع عليه شبابيك صغيرة لا تعرف ما خلفها.

القصر مكان أليف رغم برودته، ومن الصعب شرح هذه المعادلة الصعبة، لعله الحضور الروسي وحضور أوروبا الشرقية في الذاكرة، من طفولة بعيدة كان فيها سوريون يعودون دارسين من هناك بصحبة أوروبيات شرقيات يحملن معهن أجواء تلك البلاد.

تُسلّمني مرافقتي كتيبا صغيرا فيه معلومات مفيدة عن التجول في العاصمة ومتاحفها ومطاعمها، وبعض الكلمات البولونية، ويبدو أن هذا الكتيب يتغير كل عام، حيث يكتبه مدير المهرجان “ستيفان لودين” بأسلوب ساخر طريف، فيقول عن اللغة البولندية إنها صعبة جدا حتى على المقيمين في البلد، وحتى على أعضاء البرلمان، ربما سخرية من أخطائهم الإملائية، ويدرج لائحة بمفردات يومية قائلا عن بعضها مازحا إن من المستحيل لفظها.

يرى المدير أيضا بأن الأمر عائد لنا وللناس كي تعود الحياة إلى طبيعتها نسبيا، وبأن الشكوك راودتهم حول إقامة المهرجان، لكنهم سرعان ما قرروا بأنه يجب أن يقام، فصانعو الأفلام ما زالوا يصنعونها، وهم أرسلوا لوارسو أكثر من 3000 فيلما معظمها يعرض للمرة الأولى عالميا أو أوروبيا أو محليا، ومنها مشاريع ممتازة للإنتاج، حيث بات هذا جزء من برنامج المهرجان، وبعض الضيوف قرر الحضور بالرغم من الوباء.

المشاركون في مهرجان وارسو السينمائي الدولي، حيث يرتدي جميعهم الكمامات في ظل أزمة كورونا العالمية

 

مسابقات المهرجان.. مسرح الإبداع العالمي في وارسو

تتساوى المسابقات في عدد أفلامها، ففي كل منها 15 فيلما، وتطغى عليها الأفلام القادمة من آسيا وبلدان أوروبا الشرقية، بينما تغيب الأفلام العربية ويقلّ حضور الأمريكية.

في المسابقة الرئيسية الدولية أفلام من كازاخستان واليابان والصين وبولندا وهنغاريا والتشيك وسلوفاكيا وروسيا ورومانيا وأوكرانيا وإسبانيا وفرنسا وبريطانيا والنمسا.

وهناك أيضا مسابقة للفيلم الأول/الثاني ومسابقة “روح حُرّة”، حيث أفلام فانتازيا تتجاوز التقليدي، وتنطلق بحرية سواء في  موضوعها أو في أسلوب معالجتها معتمدة السرد المبتكر وغير الواقعي أحيانا، وقد جاءت هذه الأفلام من الصين وبلغاريا وكولومبيا وتايوان وصربيا وفنلندا وألمانيا وهنغاريا وآيسلندا وكازاخستان ورومانيا واليابان وروسيا والمكسيك.

كما توجد مسابقة للفيلم الوثائقي من 16 فيلما من بلدان أوروبا الشرقية في معظمها وأوروبا، ومسابقة للفيلم القصير من 22 فيلما، وأخرى خاصة بالفيلم البولندي القصير، إضافة إلى تظاهرات موازية منها عروض للأفلام البولندية الكلاسيكية، وقسم “اكتشافات” من 19 فيلما، كما يخصص المهرجان عروضا عائلية مع أفلام تحريك وأفلام قصيرة للأطفال في عطلة نهاية الأسبوع.

 

“القادم أجمل”.. 17 عاما كأنها اليوم

مع غياب المخرجين الآسيويين عن الحضور، فإن أفلامهم كانت هنا تغني الشاشات بمواضيعها المتجددة ولغتها السينمائية المبتكرة، أفلام تبدو غريبة أحيانا، لكنها معبرة عن عالم معاصر قلق، وتؤكد أن كل ما يحصل في مكان ما في هذا العالم متصل بنا بشكل أو بآخر، وذلك كما يقول بطل الفيلم الصيني “القادم أجمل” للصيني “ينغ وانغ” المشارك في مسابقة الفيلم الأول/ الثاني.

يعكس السيناريو المستوحى من أحداث حقيقية ما يدور في الصين في أعقاب انتشار وباء “السارس”، وذلك عبر قصة شاب كاتب موهوب ومتحمس وعنيد يتخلّى عن عمل ثابت في بلدته لتحقيق حلم في المدينة الكبيرة، إنه صحفي استقصائي غير متعلم باحث عن الحقيقة، حيث ينجح ويوازن بين الأخلاق وحبه للمهنة وللنجاح.

الإيقاع سريع والأداء مقنع في فيلم يتطرق إلى مشاكل حدثت منذ 17 عاما، لكنها تعكس الوضع الحالي للعالم، حيث تتعارض السياسات والتحيزات أحيانا مع مخاوف السلامة والصحة.

بوستر الفيلم الإيراني “القطة السوداء” للمخرج “كريم محمد أميني”، والذي يعرض فيه وجها لإيران لا يصلنا

 

“القطة السوداء”.. وجه آخر لا تعترف به إيران

يبين فيلم “القطة السوداء” للإيراني “كريم محمد أميني” وجها لإيران لا يصلنا، لقضايا يهتم بها الشباب الإيراني المعاصر مثل وسائل التواصل الاجتماعي والموسيقى، فيثير الفيلم موسيقى الراب التي تحظى بشعبية كبيرة بين الشباب اليوم، بينما الراب -وفقا للسلطات- تثير سلوكيات عدوانية، وتشكل تهديدا للتقاليد الموسيقية الإيرانية، مما يعني حظرا حكوميا لإصداراتها وحفلاتها.

لكن على الرغم من هذا -وربما كان أيضا نتيجة له- ازدهر المشهد الموسيقي غير العلني وزادته شهرة وسائل التواصل الاجتماعي. يجسد “بهرام رادان” في الفيلم دوره كما في الواقع كممثل إيراني شهير، ويستضيف برنامجا تلفزيونيا شهيرا يبث مباشرة، لكنه يواجه مشكلة تسببها مجموعة من الشباب مدمنة على الإنترنت تؤثر على حياته الشخصية والعملية.

إنه فيلم عن الجيل الإيراني الجديد الذي تغيرت آماله وأحلامه بسبب انتشار الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعية، لكنه لا يقف حياديا تجاهها وهو يبين مخاطرها وتأثيرها على شباب لم يعد له من انشغال غيرها، وذلك في أسلوب سينمائي طغت عليه ثرثرة الحوار وضجيج الحركة.

 

“عائلة أساداس”.. بحث تحت أنقاض الزلزال عن صورة

في “عائلة أساداس” للياباني “ريوتو ناكانو” -أحد أشهر المخرجين في اليابان- قصة مؤثرة في العمق مليئة بالأمل الذي نحتاج إليه في أيامنا، وهو مستوحى من قصة حقيقية لعائلة عادية يمتلك أفرادها قلوبا كبيرة وأحلاما بسيطة.

الابن الأصغر “ماساشي” مغرم بالتقاط الصور، حيث يبدأ من عائلته -والديه وشقيقه- ليلتقط صورا فريدة لهم، موضوع كل صورة منها إما مهنة أراد أحدهم امتهانها، أو شيئا رغب بالقيام به، حيث يتنكر فيها جميع أفراد العائلة كرجال إطفاء ومتسابقين وأبطال وأطباء ومنافسين في مسابقات الطعام، وقد بدأ في تلقي طلبات من العائلات في جميع أنحاء اليابان لالتقاط صور عائلية.

وعندما ضرب زلزال مروع شرق اليابان عام 2011 ، جاءت مرحلة التساؤل عن دوره كمصوّر يتطوع للبحث في الأنقاض والوحل عن ألبومات الصور العائلية المتضررة، ويغسل الصور ويعيدها لأفراد الأسرة الناجين، فبهذا يُذكر أولئك الذين ماتوا، حيث حينها بدأ يؤمن بقوة الصورة. وقد فاز الفيلم بجائزة “نتباك” لترويج الفيلم الآسيوي.

“18 كيلو هرتز”.. فيلم من كازاخستان يختطف الجائزة الأولى

كان الفيلم الفائز بالمسابقة الرسمية فيلما قادما من كازاخستان، وهو مستوحى من رواية مستندة إلى حقائق، إذ يقدم المخرج فرحات شاريبوف فيلم “18 كيلو هرتز”، وهو تردد صوتي لا يستطيع الكبار سماعه. إنها التسعينيات، حيث طفرة هيروين في ألماتي العاصمة.

يقضي الصديقان “سنغار” و”جاغا” الكثير من الوقت معا في الحلم بالحرية واكتشاف جميع الأماكن المحظورة، لكن الأمور لا تسير على ما يرام سواء في الخارج، حيث يبحث تجار المخدرات دائما عن المراهقين، أو في منزلهما حيث الروابط ضعيفة مع الآباء.

يدهش هذا الفيلم بأسلوب معالجته المبني على تداخل الخيال مع الواقع، وتصويره المتراوح بين لقطات علوية بعيدة وأخرى مقربة للغاية من وجوه الشخصيات.

“حبيبتي لن تصدقي كل هذا”.. قاتل مجنون يفسد رحلة الصيد

لا بدّ من الإشارة إلى اهتمام السينما الآسيوية بأفلام الفانتازيا والخيال، حيث شارك عدد منها في مسابقة “روح حرة” تعبيرا -كما أشرنا أعلاه- عن اهتمامها بلغة سينمائية مغايرة للسرد التقليدي في المحتوى والشكل. هي أفلام هزل ساخر أسود تنتمي للامعقول، ومنها فيلم من كازاخستان أيضا ممتع بطرافته، حيث نجح فيه المخرج بجعل هؤلاء الذين لا يميلون لهذا النوع السينمائي يتابعون الفيلم بكل سرور واهتمام.

إنه فيلم “حبيبتي لن تصدقي هذا” للمخرج “أيرنار  نورغالييف”، وهو مغامرة عبثية من طراز أفلام “تارانتينو” التي تجاوزت الإطار المحلي. حيث كل شيء يبدأ بشكل تافه مع شجار بين زوجين شابين ينتظران مولودهما الأول بكثير من التوتر، فمع اقتراب الموعد  لم يعد بإمكان “داستان” (الشخصية الرئيسية) تحمّل الضغط المستمر من زوجته، حيث يقرر الهروب ليوم واحد فقط في رحلة صيد مع صديقين، أحدهما رجل أعمال فاشل والآخر ضابط شرطة، وذلك للابتعاد عن كل شيء.

سلسلة من الأحداث غير المتوقعة تحوّل رحلتهم إلى مغامرة غير معقولة مع ظهور قاتل مجنون، ليتابع الفيلم في حيوية ساخرة ومضحكة  قصتهم، مبينا الترابط الذكوري الحقيقي والعلاقة الزوجية المليئة بالشكوك والاتهامات.

 

“اغرب إلى الجحيم”.. كوميديا عبثية ورعب وقتال في البرلمان

نشير أيضا إلى فيلم في هذه المسابقة يتماشى فيه السيناريو مع ما يحدث في العالم اليوم، وهو فيلم “اغرب إلى الجحيم” من تايوان للمخرج “آي فان يونغ”، حيث تتداخل السياسة مع تنظيم انتخابات فرعية للبرلمان يصبح فيها حارس الأمن نائبا، لكن في الجلسة الجديدة ينتشر فيروس قاتل داخل البرلمان، وقد بدا النائب الجديد الوحيد المُحصّن ضده.

كل الجحيم ينفجر في البرلمان في تهريج دموي وعبث مجنون عندما يحوّل الفيروس السياسيين إلى متحولات زومبي مفترسة، إنه فيلم كوميديا ورعب وفنون قتالية في آن معا، وذلك في إحالة إلى البرلمان التايواني الذي يشتهر بالمشاجرات الجسدية.

 

“الشمال الحقيقي” هو فيلم متحرك عن النظام المتسلط في كوريا الشمالية للياباني “أيجي هان شيميزو”

 

“في الشمال الحقيقي”.. جحيم على الأرض يلتهم المطحونين

في المسابقة الغنية نفسها بمحتواها فيلم تحريك سياسي بشخصيات المانغا عن كوريا الشمالية، وهو مأخوذ عن قصة حقيقية. في “الشمال الحقيقي” للياباني “أيجي هان شيميزو” حكاية مؤثرة لعائلة كورية مكونة من طفل وأخته ووالدتهما نقلوا إلى معسكر اعتقال، وذلك بسبب اتهام الأب بجريمة سياسية.

لكن كان من الممكن أن يكون ذلك بدون سبب على الإطلاق، هذا المكان هو الجحيم على الأرض، حيث يتقاتل الرجال والنساء الهزيلون على بقايا الطعام، ويضرب الحراس بلا رحمة السجناء حتى الموت لأدنى جريمة، وتنظم  إعدامات علنية واغتصاب وإجهاض قسري وأشغال شاقة وتعذيب وتجارب طبية؛ أي كل ما يمكن لنظام ديكتاتوري أن يرتكبه بحق الشعب.