الدورة الـ33 من إدفا.. الوثائقيات العربية تغزو المهرجان

محمد موسى

في سابقة على دورات المهرجانات السينمائية التي عقدت في زمن كورونا (كوفيد 19)، قرّر مهرجان “إدفا” السينمائي بدورته الـ33 المنعقد في أمستردام الهولندية، والمستمر من 18 نوفمبر/تشرين الثاني الجاري وحتى السادس من ديسمبر/كانون الأول؛ أن يعرض مجموعة كبيرة من أفلامه على شبكة الإنترنت في أوقات محددة كما تفعل الصالات السينمائية، لكن المتفرج الذي يدفع المال لأجل مشاهدة الأفلام لن يتمكن من مشاهدتها في أي وقت يشاء طوال فترة المهرجان، وكما هو الحال في مهرجانات سينمائية أخرى نُظمت في الأشهر الاخيرة.

وفسّرت إدارة المهرجان خطوتها هذه بأنها تأمل أن تمنح المشاهد شعور تجربة التفرج الجماعي، وذلك عبر إفساح المجال لمشاهدة الأفلام في أوقات معينة بذاتها، على أمل أن يعزز هذا من “إحساس” المهرجان السينمائي الذي يتضاءل كثيرا بدون عروض الصالات الحيّة واللقاءات الجماهيرية مع صانعي الأفلام.

وقد غلب الغموض على مستقبل هذه الدورة من المهرجان وحتى قبل أسبوع من بدايتها، فمن جهة كان المهرجان يذكر في بياناته الإعلامية بأنه لن يتخلى عن طقوس المشاهدة السينمائية في الصالات، ومن جهة أخرى كانت الدولة الهولندية قريبة من إغلاق الصالات السينمائية مجددا بعد زيادة عدد المصابين بفيروس كورونا في البلاد، وهو ما تحقق بالفعل قبل ثلاثة أسابيع من بداية المهرجان.

وعلى الرغم من أن الحكومة الهولندية عادت وفتحت الصالات السينمائية بعد انخفاض أعداد المصابين، فلم يكن واضحا من طرف إدارة المهرجان إن كان بالإمكان الاستجابة والتفاعل مع هذه الإجراءات الحكومية في وقت يعد قصير جدا.

وفي النهاية اختار مهرجان “إدفا” أن يمسك العصا من المنتصف، فالمهرجان الذي يعد الأكبر في العالم بالنسبة لعدد الأفلام التسجيلية التي يعرضها؛ قرر أن ينتخب أفلاما خاصة بعينها لتُعرض في صالات سينمائية، على أن تُعرض بقية الأفلام هذه العام عبر الإنترنت بمواعيد عرض ثابتة، ليشاهدها في الوقت نفسه العديد من الجماهير من مختلف دول العالم، وليس من هولندا فقط.

لقطة من فيلم “في زاوية أمي” للمخرجة الفرنسية المغربية أسماء المدير

 

أفلام الربيع العربي.. ازدهار سينمائي في هولندا

يعرض المهرجان هذا العام 229 فيلما موزعة على مسابقاته وبرامجه المتعددة التي تزيد كل عام تقريبا لتواكب الاتجاهات الإعلامية الجديدة وتفاعل الوسائط البصرية مع بعضها (وصل عدد برامج هذه العام إلى 22 برنامجا ومسابقة).

كما تواصل الدورة الأخيرة جذب عروض عالمية أولى بتوقيع أسماء إخراجية كرست حياتها للفن، جنبا إلى جنب مع التجارب الأولى لمخرجات ومخرجين، والأخيرة يوليها المهرجان أهمية خاصة، فمسابقته للأفلام الطويلة هي مخصصة للأفلام الأولى لأصحابها.

وتحظى أفلام المخرجين العرب والأفلام التي يخرجها أجانب وتتناول قضايا من الشرق الأوسط بمكانة ثابتة في برمجة المهرجان، وبالخصوص في العقد الأخير، إذ كان المهرجان الهولندي المنصة الأهم لعرض أفلام الربيع العربي.

واللافت في دورة هذا العام هو حضور الأفلام التسجيلية العربية الذاتية التي يتناول بعضها التاريخ العائلي لصانعيها، وحتى الأفلام التي اهتمت بحراكات شعبية في دول عربية، فقد فعلت ذلك بتسليط الضوء على شخصيات قليلة وأحياناً شخصية واحدة، لتبيّن هذه الأفلام مفاعيل الوضع العربي المتردي على الحياة الخاصة لشخصيات هذه الأفلام، وردود أفعال هذه الشخصيات على الأحداث العامة.

 

“جزائرهم”.. مخرجة تنبش تاريخ جديها في الغربة

إذا كان من الممكن اعتبار مهرجان “إدفا” كمقياس لحال السينما التسجيلية العربية، فدورة هذا العام تُعزز حضور المخرجات العربيات في هذه السينما عبر أفلام تسجيلية حميمية يعود بعضها إلى الماضي والتاريخ العائلي لشخصياتها، وأحيانا تحفر هذه المخرجات في تاريخ عوائلهن الشخصي.

كما لا تغفل هذه الأفلام أن تربط بين التاريخ الشخصي والعام، وتبين آثار الأحداث والتحولات والظواهر الاجتماعية على الحيوات الشخصية لعرب عاديين.

تنطلق المخرجة الفرنسية ذات الأصل الجزائري لينا سويلم في فيلمها “جزائرهم” (Their Algeria) -وهو من إنتاج الجزيرة الوثائقية، ويعرض في برنامج أفضل ما في المهرجانات- من حادثة طلاق جدّها وجدتها لجهة أبيها، لتتناول قضايا واسعة مثل الهجرة العربية إلى فرنسا والاستعمار الفرنسي للجزائر، والعلاقات الشائكة بين الماضي والحاضر.

تسجل المخرجة يوميات جدّيها مبروك وعائشة حين طلاقهم بعد 62 عاما من الزواج، حيث لم تشأ الجدة “عائشة أن تترك زوجها لمصيره، إذ ما زالت تعيش في شقة منفصلة قرب شقته، وما زالت تُجهّز الطعام له كل يوم.

تسأل المخرجة جدّيها عن ماضيهم، وتعود معهما إلى أيام هجرتهما الأولى من الجزائر واستقرارهما في فرنسا، حيث عمل الجد في معمل فرنسي لسنوات عديدة.

 

“الطريق إلى البيت”.. هجرة من المغرب العربي إلى أوروبا

في تجربة مشابهة لفيلم “جزائرهم” تغوص المخرجة البلجيكية ذات الأصل التونسي كريمة سعيد في تاريخ والدتها في فيلمها “الطريق إلى البيت” (A Way Home) الذي شاركت قطر في إنتاجه، ويُعرض في مسابقة العمل الأول.

هناك أمر ملحّ في فيلم المخرجة كريمة سعيد، إذ أن والدتها تفقد ذاكرتها تدريجيا بسبب المرض، ولن يكون من الممكن في المستقبل القريب استرجاع هذه الذاكرة. لكن عبر الكثير من المادة الأرشيفية العائلية تسترجع المخرجة تاريخ والدتها التي هاجرت إلى بلجيكا لتتزوج من والدها، وكيف أن هذه الوالدة تضطر بسبب الظروف للعمل وتربية أطفالها وحدها.

وكما في فيلم “جزائرهم”، فإن المخرجة كريمة سعيد أيضا تستذكر السنوات الأولى لهجرات عرب من المغرب العربي إلى الدول الأوروبية في ستينيات القرن الماضي، إضافة إلى الظروف الخاصة التي عاشها مهاجرو ذلك الزمن، والقطيعة النفسية والجغرافية وقتها التي تختلف كثيرا عن ظروف اليوم.

 

“في زاوية أمي”.. رُب صورة تأخذك في رحلة بالزمان والمكان

يكاد فيلم المخرجة الفرنسية المغربية أسماء المدير “في زاوية أمي” (The Postcard) -وهو من إنتاج الجزيرة الوثائقية، ويعرض في مسابقة العمل الأول الطويل- أن يندرج في نفس فئة الأفلام لزميلتيها السابقتين، فالفيلم هو رحلة في عوالم الأهل الذين هاجروا إلى أوروبا قبل عقود.

تعثر المخرجة على صورة فوتوغرافية لقرية صغيرة في جبال المغرب في متاع والدتها، وهذا سيكون الشرارة لهذا المشروع التسجيلي الحميمي، إذ تقرر المخرجة السفر إلى تلك القرية النائية، من أجل التحقيق في تاريخ والدتها وعائلتها من هناك.

يتطور سفر المخرجة إلى تجربة شديدة الثراء والعاطفية، خاصة بعد أن تقابل نساء من القرية هناك وتبدأ في تسجيل حياتهن وتخيل ما يُمكن أن تكون حياتها هي، لو لم تسافر والدتها إلى فرنسا.

 

“أُمّهات”.. معاناة الحوامل اللواتي لا بعول لهن

تُقارب المخرجة الفرنسية ذات الأصل المغربي ميريام بكير عبر فيلمها “أُمّهات” (Mothers) الذي يُعرض في مسابقة الأفلام المتوسطة الطول؛ قضية النساء العربيات اللواتي يحملن بلا زواج في المغرب، فترافق المخرجة عمل جمعية نسائية من مدينة أغادير المغربية، إذ تهتم هذه الجمعية بهؤلاء النسوة.

يركز الفيلم على مديرة الجمعية الناشطة النسوية “محجوبة أدبوش” التي تدير فريقا من النساء يتولى رعاية النساء اللواتي يلجأن إلى الجمعية هربا من عوائلهن ومحيطهن الاجتماعي.

يفتح الفيلم التسجيلي نافذة على العالم المعقد الذي أتت منه نساء الفيلم، ويمنح الكثير من وقته لهن ليشرحن ظروف حياتهن، وذلك مما تعين على فهم الحياة المعاصرة في المغرب اليوم.

 

“كان عندها حلم”.. مضيفة تونسية سمراء تحت سياط التنمر

يركز الفيلم التونسي “كان عندها حلم” (She Had a Dream) الذي أخرجته رجاء عماري على مضيفة الطيران التونسية السمراء غفران بينوس التي تصدرت الأخبار قبل أعوام بسبب تعرضها لتنمر على أسس عنصرية بسبب لون بشرتها.

يرافق الفيلم الذي يعرض في برنامج “فرونتلايت” الفتاة التونسية وهي تخوض معترك السياسة في بلدها، مُسلّحة فقط بتجربتها الخاصة والظلم الشخصي الفادح الذي تعرضت له.

ما بين تسجيل يوميات الشخصية الرئيسية ومرافقته لنشاطها السياسي، يتنقل الفيلم التسجيلي الذي يضع يديه على عدة قضايا شائكة في المجتمعات العربية، من العنصرية المبطنة إلى التعاطي مع النساء في المجال العام.

 

“الجنة تحت أقدامي”.. معركة النساء في لبنان من أجل الحضانة

اختار مهرجان إدفا السينمائي ثلاثة أفلام من لبنان، اثنان منها من توقيع مخرجتين، الأول هو “الجنة تحت أقدامي” (Heaven Beneath My Feet) للمخرجة ساندرا ماضي (يعرض في برنامج أفضل ما في المهرجانات)، ويهتم بالمعاناة الكبيرة لنساء لبنانيات للحصول على حضانة أولادهن بعد طلاقهن من أزواجهن.

في البلد المقسّم إلى الكثير من الطوائف، تحقق المخرجة في الطرق التي تسلكها ثلاث نساء منهن صديقة للمخرجة، وذلك للحصول على حقوقهن في حضانة أولادهن.

من شخصيات الفيلم امرأة قام طليقها بأخذ أولادها إلى ألمانيا، بينما لا تزال هي في لبنان، ولا تكاد تلتقي بأولادها إلا حين يأتون في الإجازات فقط.

 

“الصورة المثالية”.. مطبات العائلة والدولة في الأرشيف

وفي برنامج “مسابقة الطلبة” يعرض الفيلم التسجيلي القصير “الصورة المثالية” (The Perfect Picture) للمخرجة هالة الكوش التي تبدأ تجربة في التحقيق على أثر الأحداث العامة في البلد على والديها.

تنتقل المخرجة في فيلمها بين الأرشيف العائلي ومقابلة طويلة مع والديها في بيتهم، حيث تتعثر طوال وقت الفيلم بمطبات لم تتوقعها على صعيد النظرات المسبقة التي كانت تحملها عن عائلتها وعلاقتها بالشأن العام.

 

“الهبوط”.. استراحة في الصحراء خاوية على عروشها

الفيلم اللبناني الثالث هو “الهبوط” (The Landing) (يعرض في برنامج برودوك) للمخرج والمصور الفوتوغرافي أكرم زعتري، وفيه يواصل تجريبه المتواصل في الصورة وعلاقة الأشياء بالمكان، وإن كان المخرج في فيلمه الأخير يخرج عن محيطه اللبناني الفلسطيني المعروف، إذ يذهب في “الهبوط” إلى بيت مهجور في الإمارات بني كمستقر للبدو القريبين من المنطقة، لكن لم يسكنه أحد.

في هذا البيت المهجور يجرب المخرج على صعيد الصورة والصوت، ويربط بين البيت والمحيط الصحراوي الذي يقع فيه.

 

“القصة الخامسة”.. جراح العراق تحصد جائزة النقاد

يحضر العراق في فيلم “القصة الخامسة” (The Fifth Story) من إنتاج الجزيرة الوثائقية للمخرج أحمد عبد الذي فاز بجائزة “الاتحاد الدولي لنقاد السينما” في المهرجان.

يُقلّب الفيلم في صفحات من تاريخ العراق الدامي في العقود الأربعة الماضية، ويقدم بأسلوب شاعري الخراب والأثمان البشرية التي يدفعها عراقيون متنوعون في بلد لم يخرج أبدا من نفق العنف والحروب الطويلة.

 

سينما الهجرة والثورة والتاريخ.. باقة عربية متنوعة

يعرض ضمن برنامج “أفضل ما في المهرجانات” فيلم “أرض جيفار” (Gevar’s Land) للمخرج السوري قتيبة برهمجي الذي يتابع على مدار أربعة مواسم لاجئا سوريا يعيش في مدينة صغيرة في فرنسا، وهو يزرع الحديقة المشتركة الصغيرة في الحي الذي يسكن فيه وشرفة شقته الصغيرة. حيث تتحول النباتات الصغيرة -التي يتابع الفيلم نموها- إلى حياة جديدة كناية عن الحياة الجديدة للسوري، وما يشبه الوداع مع حياته السابقة في بلده.

ويتناول المخرج البرازيلي ذو الأصول الجزائرية كريم عينوز في فيلم “نرجس” (A.Nardjes) (يعرض في برنامج ماستر) الثورة الجزائرية الشعبية ضد الحكومة الجزائرية في عام 2019، وذلك بعد أن أشيع أن الرئيس الجزائري بوتفليقة سيتولى ولاية خامسة.

لم يكن المخرج يخطط لهذا الفيلم، فقد كان في زيارة لاكتشاف بلد الأب الجزائري، ليكون شاهدا بعدها على ثورة سلمية عُرفت بثورة الابتسامات. حيث يصور المخرج في يوم واحد وعبر هاتفه النقال يوميات ناشطة جزائرية تُدعى “نرجس”، وقد عاشت في عائلة كانت دائما في الطليعة للمطالبة بحياة أفضل عبر التاريخ الحديث للجزائر.

ويعود الفيلم التسجيلي المغربي “قبل أن يموت الضوء” (Before the Dying of the Light) للمخرج علي الصافي (يعرض في مسابقة الأفلام المتوسطة الطول) إلى المشهد الفني في عقد السبعينيات في المغرب، ليُعيد اكتشاف ذلك العقد عبر مواد أرشيفية متنوعة.

يستند الفيلم بشكل كبير على فيلم صُوّر في عام 1974 عن الحياة الفنية في المغرب وقتها، ويعيد الفيلم التسجيلي اكتشاف الفيلم السابق الذي كان يعتقد وحتى وقت قريب بأنه ضاع إلى الأبد قبل أن تكتشف نسخة منه في إسبانيا، ليجري ترميمها.

 

“سماء فوق الخليل”.. نمو البراعم في أكناف التضييق الخانق

من الأفلام التي تتناول منطقة الشرق الأوسط وأخرجها مخرجون أجانب؛ الفيلم الهولندي “سماء فوق الخليل” (Skies Above Hebron) للمخرجين “إستر هيرتوج” و”بول كينغ”، ويُعرض في مسابقة الأطفال في المهرجان، إضافة إلى فيلم “محافظ” (Mayor) للمخرج “ديفيد أوسيت” الذي يُعرض في برنامج “أفضل ما في المهرجانات”.

صُوّر فيلم “سماء فوق الخليل” على مدار خمس سنوات، وهو يتتبع ثلاثة صبيان فلسطينيين في مدينة الخليل يعيشون حالة الاختناق النفسي والجغرافي، إذ تحدد حركتهم وإلى حدود كبيرة قوانين المستوطنات الإسرائيلية القريبة.

يُربي أحد الصبيان الحمام الزاجل، وسيكون رمزا للحريّة المفقودة للصبي الذي كان ابن 11 عاما عندما قابله المخرجان للمرة الأولى، ويُصوّر الفيلم كيف يتعرض هذا الصبي إلى معاملة سيئة من الجنود الإسرائيليين القريبين من بيته.

يربط الفيلم بين نمو الصِبية الذين يرافقهم والأحداث العامة في محيطهم الضيق، ويُسجل ما يُمكن أن يُطلق عليه يوميات الاختناق.

 

“محافظ”.. يوميات رئيس بلدية رام الله

يسجل المخرج الأمريكي المعروف “ديفيد أوست” في فيلمه “محافظ” يوميات رئيس بلدية مدينة رام الله الفلسطينية موسى حديد الذي لا يبدو في مقدمة الفيلم أن يومياته تختلف كثيرا عن يوميات أي رئيس بلدية في مدن فلسطينية أخرى.

يملك المحافظ الفلسطيني روح الدعابة، وهذه تنتقل إلى الفيلم التسجيلي، بيد أن الفيلم سيأخذ تحويلة مهمة عندما تصل صدى الأحداث العامة الأخيرة إلى رام الله، فاعتراف إدارة الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بالقدس كعاصمة لإسرائيل ستُهيّج الرأي العام في المدينة، وستطلق احتجاجات كبيرة وتنهي السلام النسبي في المدينة الفلسطينية.