أيام قرطاج السينمائية الـ33.. ألق فني يكسر تحديات الميزانية والواقع التونسي

على مدى أسبوع منذ التاسع والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول وحتى الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، جاء مهرجان أيام قرطاج السينمائية في دورته الـ33 هذا العام وسط همس بإمكانية إلغائه، وذلك بعد أن دعت نقابة وزارة الثقافة التابعة للاتحاد العام التونسي للشغل كل أعوان الوزارة المنخرطين بها إلى مقاطعة كل التظاهرات الثقافية قبل أقل من أسبوع من انطلاق المهرجان السنيمائي، وكان ذلك ردا على إحالة وزيرة الثقافة شكوى لتتبع موظفين بوزارتها.

عُرض خلال المهرجان أكثر من 500 فيلم، ووصلت أعداد الجمهور -بحسب الهيئة المديرة- إلى أكثر من 100 ألف شخص تابعوا الأفلام المعروضة، بينما شاركت في المهرجان 72 دولة عربية وأفريقية، وتنافس 44 فيلما روائيا ووثائقيا على جوائز المسابقة الرسمية للمهرجان.

مهرجان قرطاج.. ميزانية ضعيفة تقاوم ضعف الإمكانات

بميزانية ضعيفة تقدر بقرابة 960 ألف دولار، سار مهرجان أيام قرطاج السينمائية بخطى ثابتة، ليستعيد الروح الأولى التي نفخها فيه مؤسسه الراحل الطاهر شريعة، وهي أن يكون المهرجان مشتلا للأفلام العربية، وشاشة شاسعة للسينمائيين الأفارقة، وبالأخص أولئك الذين يقاومون ضعف الإمكانات ليصنعوا أفلامهم.

المخرج الكونغولي “كيفن مافاكالا” صحبة مديرة المهرجان

في تصريح للجزيرة الوثائقية يقول المخرج الكونغولي “كيفن مافاكالا” الحائز على جائزة “تكميل” الداعمة لمشاريع الأفلام، عن مشروع فيلمه “الحياة سكة حديد”؛ إن مهرجان أيام قرطاج السينمائية أتاح له ولأربعة مخرجين آخرين فرصة الحصول على دعم مالي، من أجل إنجاز فيلمهم المتكون من أربعة أفلام روائية قصيرة ترتبط أحداثها ببطل واحد.

ويقول: حتى تستطيع النجاح في إنجاز فيلمك، يجب أن تمتلك الإمكانيات لفعل ذلك، وأن تحصل على فرص للمرافقة، وكانت لدي فرصتان، الحصول على تمويل بقرابة سبعة آلاف يورو، والدعم والمرافقة خلال المسابقة غير الرسمية لمهرجان أيام قرطاج السينمائية، وأنا سعيد جدا بذلك.

جوائز الراحلين.. تكريم شخصيات سينمائية تركت بصمتها

استحضرت دورة أيام قرطاج السينمائية لهذا العام سينمائيين برقت أعمالهم في تاريخ السينما العربية والأفريقية، مثل المخرجة الجزائرية الراحلة يمينة بشير الشويخ التي شاركت في صناعة أفلام مهمة، مثل فيلم “الرياح الرملية” للمخرج محمد الأخضر حمينة، و”عمر قتلتو الرجلة” للمخرج الجزائري مرزاق علواش.

كما كرمت هذه الدورة شخصيات سينمائية عربية وأفريقية، مثل الممثلة الإيفوارية المبدعة “ناكي سي سافاني”، والمخرج المصري الكبير داوود عبد السيد صاحب الفيلم الشهير “الكيت كات”، إضافة إلى تكريم المخرجة التونسية الراحلة كلثوم برناز التي أخرجت فيلم “كسوة الخيط الضائع”، والممثل التونسي الراحل هشام رسم.

تكريم الممثل التونسي الراحل هشام رستم في مهرجان أيام قرطاج

ونال المخرج المغربي عبد الرحمن التازي شرف تكريمه صحبة شخصية فيلمه “السلطانة التي لا تُنسى”، وهي الناشطة النسوية المغربية الراحلة فاطمة المرنيسي.

كما استحضر مهرجان أيام قرطاج السينمائية ذكرى الناشطة الحقوقية التونسية الراحلة لينا بن مهني التي كانت لها جائزة خاصة باسمها في المهرجان للأعمال المدافعة عن حقوق الإنسان.

منى واصف.. نجمة الدورة بلا منازع

وكعادة كل دورة يدعو المهرجان جملة من ضيوف الشرف والنجوم وكبار السينمائيين، إلا أن بعض النجوم لم يلبوا الدعوة هذه الدورة، ولعل أبرزهم الفنان الكبير دريد لحام وغادة عبد الرازق، وفي المقابل كانت الممثلة السورية منى واصف أكثر من استحوذ على الأضواء من الجمهور وإدارة المهرجان.

الممثلة السورية منى واصف ضيفة شرف مهرجان أيام قرطاج

“الثوار”.. قصة حُب ونضال تحصد “التانيت الذهبي”

كان شارع الحبيب بورقيبة -عصب تونس العاصمة- يوم الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني في يومه الممطر عاديا كباقي الأيام، لولا الحركة المختلفة على حواشي الشارع الرئيسي، فقد أعلنت حواجز الشرطة المرصفة على طول حاشيتي الشارع وحركة الحشود أمام نزل أفريكا الذي تنطلق منه السيارات لتحمل الضيوف إلى مدينة الثقافة؛ عن موعد اختتام أيام قرطاج السينمائية.

في قلب قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي؛ انطلقت الموسيقى من بيانو العازف الإيطالي “ماريو مارياني” الذي أمتع الجمهور قبل يوم بعرض وسط الشارع، عزف خلاله موسيقى أفلام المخرج الإيطالي العبقري “فيديريكو فيليني”، وكأنه يُصرّ على التذكير بأن المهرجان ليس احتفالا بفساتين السجادة الحمراء، بل هو استحضار للماضي من أجل المستقبل، وهو شعار هذه الدورة.

يقول المخرج الفرنسي اليوناني “كوستا غافراس”: “لا يمكنك تغيير آراء الآخرين السياسية بواسطة فيلم، لكن يمكنك على الأقل إثارة مناقشة سياسية”. لذلك من المؤكد أن النقاش كان ساخنا داخل لجنة التحكيم التي يرأسها المخرج المغربي عبد الرحمن التازي، وتتكون من سينمائيين من مختلف المدارس، لعل أهمهم المخرج التونسي عبد اللطيف بن عمار صاحب فيلم “سجنان”.

وقد اعترف المخرج التازي في كلمته قبل الإعلان عن نتائج المسابقة الرسمية أن الاختلاف في آراء أعضاء لجنة التحكيم كان واضحا، لكن يبدو أن الإجماع كان حاسما في إسناد جائزة “التانيت الذهبي” لفيلم “الثوار” للمخرج التانزاني “إميل شيفجي”.

يروي الفيلم بإتقان شديد قصة شاب من زنجبار يدعى “بدينج” وشابة من أصول هندية تدعى ياسمين جمعت بينهما مغامرة الحب والسياسة، فـ”بدينج” هو ثائر ومناضل من أجل حرية بلده خلال السنوات الأخيرة من الاستعمار البريطاني لزنجبار، أما ياسمين فهي فتاة على وشك الزواج، وضعتها الأقدار في طريق الشاب المناضل، لتُنسج قصة الحب والنضال.

“شرف”.. نسخة من النظام الطبقي داخل أسوار السجن

حصل الفيلم التونسي “تحت الشجرة” للمخرجة أريج السحيري على “التانيت الفضي”، ويروي الفيلم قصة عمال يجمعون التين، لتتشابك قصصهم وتولد منها قصص أخرى، وقبل تتويجه حصد “تحت الشجرة” إشادة في وسائل إعلام عالمية بعد مشاركته في مهرجان “ملبورن” السينمائي، وعرضه في مهرجان “كان” الدولي، حيث اختير للمشاركة في مسابقة “نصف شهر للمخرجين”.

ونافس فيلم “شرف” للمخرج المصري سمير نصر 12 فيلما روائيا طويلا، واقتلع المركز الثالث في مسابقة تلك الفئة من الأفلام، وحصل على “التانيت البرونزي”، وعلى جائزة أفضل ديكور، وقد استوحى الفيلم قصته من رواية تحمل الاسم ذاته للكاتب المصري صنع الله إبراهيم، ويروي الفيلم قصة شاب يدخل السجن بعد ارتكابه جريمة قتل دفاعا عن نفسه، فيصطدم بعوالم مألوفة، حتى بدا له أن النظام داخل السجن هو استنساخ كامل للنظام الطبقي الذي يوجد خارج أسواره.

وكتب الممثل الفلسطيني الذي عاش فترة طويلة في تونس أحمد المنيراوي بطل فيلم “شرف”: لم أكن أتخيل أن يُعرض أول فيلم لي في تونس، لأن الحلم بدأ قبل ثماني سنوات من غزة. هي لحظة تاريخية لي، وسأحتفل مع عائلة “شرف” هنا في تونس بين أصدقائي هنا.

“فلسطين 87”.. كوميديا مقاوِمة تنال “التانيت الذهبي”

كانت فلسطين حاضرة بقوة من خلال أفلام فلسطينية وعربية تروي مقاومة الشعب الفلسطيني، وذلك في قسم مخصص لها بعنوان “فلسطين تحت المجهر”. وقالت سنية الشامخي مديرة المهرجان خلال افتتاحها لأيام قرطاج السينمائية: هذه الدورة أولت القضية الفلسطينية مكانة خاصة، من خلال الاحتفاء بالأفلام السينمائية التي تناولت القضية.

ورغم أن أغلب طواقم الأفلام الوثائقية والروائية الفائزة قد غابت عن حفل توزيع الجوائز، فقد كان من اليسير تبين أصوات الابتهاج في قاعة الأوبرا بمدينة الثقافة الشاذلي القليبي بعد الإعلان عن فوز الفيلم الفلسطيني “فلسطين 87” للمخرج بلال الخطيب بجائزة “التانيت الذهبي” في مسابقة الفيلم القصير. وتقول لجنة التحكيم إنها أسندت الجائزة بسبب قدرة المخرج على التعامل مع الاحتلال بشكل كوميدي، فكانت الدعابة شكلا من أشكال المقاومة.

يروي فيلم “فلسطين 87” قصة حب خلال انتفاضة 1987 رغم كل الأشواك التي زرعت في طريق الحبيبين.

“حارس العوالم”.. قصة من مقبرة الجلاز تتوج بجائزة “التانيت البروزني”

تنافس عشرون فيلما على المراكز الثلاثة لمسابقة أفضل الأفلام الوثائقية الطويلة والقصيرة، وكان من نصيب تونس جائزة “التانيت البرونزي” في مسابقتي الوثائقي الطويل والقصير.

والفيلم الوثائقي التونسي الحائز على “التانيت البرونزي” هو فيلم “حارس العوالم” للمخرجة ليلى الشايبي، ويروي قصة متفردة عن شخص يتوسد حافة أحد القبور في مقبرة الجلاز، إحدى أكبر المقابر بتونس العاصمة، وهو لم يُغادر المقبرة طيلة أربعين عاما قضاها يحرس الأموات والأحياء.