المهرجان الدولي لسينما المؤلف.. عرس سينمائي في الرباط يحتفي بعوالم المؤلفين

المصطفى الصوفي

كثيرة هي القضايا والمواضيع التي ترتكز عليها المهرجانات السينمائية المغربية، وتلك بعض المواصفات التي تضمن عدم تكرار المحتوى وتشابه التظاهرات والمهرجانات، وربما هي من شروط المركز السينمائي المغربي لحصول تلك المهرجانات على الدعم والتشجيع والمواكبة.

ولعل من أبرز تلك المهرجانات الدولية والوطنية مهرجانات السينما الأفريقية والهجرة وفيلم المرأة والمجتمع، وأيضا مهرجانات الذاكرة المشتركة وحقوق الإنسان والنقد والموسيقى وذوي الاحتياجات الخاصة، فضلا عن تظاهرات تختص بالسينما الوثائقية والتاريخ والأدب وسينما الشعوب والصحراء والبحر الأبيض المتوسط وغيرها.

تشتهر العاصمة الرباط بمهرجان سينما المؤلف، وهي تظاهرة دولية يشكل المخرج في أفلامها العنصر الرئيسي في إنتاج وصناعة الفيلم وفقا لرؤاه وأفكاره وثقافاته الفنية والإبداعية، ووفقا لمعالجته الإبداعية الشاملة على كافة مستويات التقنيات المستخدمة في مختلف مراحل العمل، فنجده مخرجا وكاتبا ومتحكما في الشخوص وكل أشكال العملية الفيلمية برمتها.

بوستر مهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف الذي انعقد خلال الفترة من 12 وحتى 18 فبراير/ شباط الجاري

 

في أفلام هذه التظاهرة لم يعد المخرج هو المايسترو المُكلف بكل صغيرة وكبيرة على مستوى فضاءات التصوير واختيار الممثلين ومراجعة السيناريو فحسب، بل أصبح أيضا مؤلفا ساحرا لكل مكونات الفيلم، من تصوير ومونتاج وأماكن وإضاءة وصوت وما إلى ذلك، وبهذا يصبح المسؤول الأول عن الفيلم وفق رؤيته الخاصة.

سينما المؤلف.. فضاء المُخرج الحامل لهمّ العالم

في سينما المؤلف يصبح النص السينمائي شكلا من أشكال الإبداع المُعبر عن هواجس المخرج ورؤيته للعالم والموجودات والأشياء، وكيفية طرح الأسئلة والبحث عن حلول لها، ولفت الانتباه إلى أحداث وقضايا وظواهر عبر السينما لفهم ما يجري في العالم والمحيط وحول الإنسان.

الكاميرا هنا تصبح أداة ولغة للتعبير عن هواجس الأنا والآخر، ويصبح المخرج هو المتحكم في هذا النسق الفني الجماعي من جميع النواحي، فهو المسيطر على الإبداع، ويتقوى إن كان هو كاتب النص أو مشاركا فيه، ليصبح العمل السينمائي ملكه هو، وهو الذي يتحكم فيه كيفما يشاء.

بهذا يتحول المخرج إلى مثقف حامل لهمّ العالم، ومدرك لما يدور ويجول في كنفه، مع معرفته الدقيقة وإحساسه بأحلام وهواجس وآلام وتطلعات الآخر، ليكون النص السينمائي الذي يشتغل عليه فضاء لإعادة تدوير هذه الأحلام والرؤى بصيغة رؤية نخبوية تتوخى طرح الأفكار سياسيا واجتماعيا وفنيا وإنسانيا.

فن التعبير عن الذات.. تجارب السينما التي لا تحب التصنيف

تتمتع أفلام المهرجان الدولي لسينما المؤلف بالرباط بكثير من التحرر، وهي نوع من السينما التي تعبر عن ذاتها وعن أصحابها، وعن المخرج بالذات ورؤيته للواقع والمعيش اليومي والحاضر المستقبل، فسينما المؤلف هي السينما التي لا تحب التصنيف، ويمكن أن تندمج في كل الأصناف، وأن تتحرر من ربقة النوع الواحد في السينما من تاريخي وكوميدي وتجاري وغيره.

المخرج المصري يوسف شاهين الذي تُعتبر أفلامه من أفلام سينما المؤلف في العالم العربي

 

تحيلنا أفلام هذه التظاهرة مباشرة إلى عدد من التجارب العالمية التي لامست هذا الإجراء الفني، وأثرت هذا المجال، ولعل من أبرزها أفلام “ألفريد هيتشكوك” و”لوتشينو فيسكونتي” و”إنغمار برغمان” و”برناردو برتولوتشي” والأشقاء “كوين وماركو بيلوكيو”، وفي العالم العربي نجد مثلا تجارب يوسف شاهين وصلاح أبو سيف وهنري بركات وغيرهم.

في هذا المضمار، استقبل المهرجان الدولي لسينما المؤلف بالرباط هذا النوع الإبداعي، وكرّم هذه التوليفات الفيلمية المتعددة والخصبة، حيث اختتمت مؤخرا فعاليات الدورة الـ26 التي انعقدت ما بين 12-18 فبراير/شباط الجاري.

“فلسطين الصغرى”.. نكبة ثانية في مخيم اليرموك السوري

لعل من أقوى برامج هذه الدورة تنظيمها لمسابقة رسمية للأفلام الروائية الطويلة، وقد تُوّجت بمنح جائزتها الكبرى التي تحمل اسم “جائزة الحسن الثاني” لفيلم “لا توجد إشارات معينة” لمخرجه الإسباني “فالديز فرناند”، وهو إنتاج مشترك بين إسبانيا والمكسيك.

كما حظي الفيلم الوثائقي الذي تُشارك الوثائقية في إنتاجه “فلسطين الصغرى” لمخرجه الفلسطيني عبد الله الخطيب (إنتاج قطري وفرنسي ولبناني)، بجائزة التحكيم الخاصة، لما يمثله هذا الفيلم المشوق من حس إبداعي قوي وراق، سواء من ناحية الموضوع أو المعالجة الخلّاقة لواقع الآلآف من الفلسطينيين وهم محاصرون في مخيم اليرموك في سوريا.

الفيلم في مجمله صورة تاريخية حيّة وشهادة إنسانية معبرة عن مأساة مخيم اليرموك الذي عانى فيه اللاجئون حصارا مؤلما وقاسيا فرضه النظام السوري ما بين عامي 2013-2015.

الفيلم هو أيضا وثيقة إنسانية جريحة صورها ووثقها المخرج عبد الله الخطيب بنفسه عن أحد أكبر المخيمات الفلسطينية في العالم، وأوضاعه الكارثية الناجمة عن الفقر والجوع، وأيضا عن تضامن أهالي المخيم للخروج من محنتهم.

 

هذا العمل الذي تُوّج في مناسبات دولية عدة قدّم بشكل مباشر معاناة ومأساة سكان المخيم، والقمع الذي تعرضوا له لكبح صوتهم وطمس هويتهم من قبل النظام السوري في ذلك المخيم الذي كان يضم أكثر من 160 ألف لاجئ.

“فلسطين الصغرى” هو أيضا اختزال لمعاناة شعب بكامله، وملامسة لأحاسيس ونفسيات سكان المخيم، وتعبيرهم عن الحزن والظلم والهوية المشتتة والتخلي عنهم، والحلم بالعودة إلى أحضان فلسطين سالمة ومتحررة من ربقة الاحتلال الاسرائيلي الغاشم.

جوائز الدورة.. سباق السيناريوهات والممثلين إلى القمة

مُنحت جائزة أفضل سيناريو للفيلم المغربي “ميكا” لمخرجه إسماعيل فروخي وبطولة صبرينا الوزاني وعز العرب الكغاط وزكرياء عنان، ويحكي قصة طفل فقير ينتقل من مدينة مكناس إلى الدار البيضاء مع عجوز تقوده الصدفة للقاء سيدة ميسورة، وتبدأ رحلة حياة جديدة لتغيير حياته إلى الأحسن.

عادت جائزة أفضل دور رجالي للممثل “تال بارتوف” لتألقه في الفيلم الفرنسي “أبو عمر” (Abu Omar) لمخرجه “روي كريسبل”، بينما تقاسمت جائزة أفضل دور نسائي الممثلة المصرية دميانا ناصر لأدائها اللافت في فيلم “ريش” لعمر الزهيري الفائز بجائزة النقد، ثم الممثلة الإيرانية “إيلناز شاكير دوست”، وهي بطلة الفيلم الإيراني “تيتي” الذي حصل على تنويه في المسابقة ذاتها.

 

وقد ترأس لجنة تحكيم هذه المسابقة المخرج والمنتج والسيناريست الأمريكي “جيروم غاري”، وضمت في عضويتها الممثلة المصرية داليا البحيري، والمخرج المكسيكي “أميليو ماي”، والمخرج اللبناني نهيج حجيج، والفنان التشكيلي المغربي عبد الحي الملاخ.

المسابقة الدولية.. 15 فيلما روائيا من أرجاء العالم

شارك في المسابقة الروائية 15 فيلما دوليا، وهي -إلى جانب الأفلام المتوجة- فيلم “أطلس” (Atlas) للمخرج السويسري “نيكولو كاستيلي”، و”فاصوليا” (Beans) للمخرجة الكندية “تريسي دير”، و”وش القفص” لمخرجته المصرية دينا عبد السلام، ثم “السهب الباكي” (The Crying Steppe) للمخرج الكازاخستاني “مارينا كوناروفا”، و”الحفرة” (The Pit) لمخرجه “داس بوس” من لتوانيا.

كما شارك في المسابقة فيلم “عرض جميل” (Cemil Şov) لمخرجه التركي “باريش سرحان”، وفيلم “فورتونا” (Fortuna) لمخرجه الإيطالي “نيكولانجيلو جيلورميني”، و”الظهر إلى الجدار” لمخرجه محمد أوس من سوريا، فضلا عن فيلم “جرادة مالحة” للمخرج إدريس الروخ من المغرب، وهو آخر أفلام الروخ، ويعرض حاليا في القاعات السينمائية بالمملكة العربية السعودية.

كما خصصت الدورة مسابقة لجائزة النقد التي آلت إلى الفيلم المصري “ريش” لمخرجه عمر الزهيري، بينما حصل فيلم “تيتي” لمخرجه “إيدا بناهنده” من إيران على تنويه خاص.

 

وقد حكمت هذه المسابقة لجنة تحكيم دولية خاصة ضمت النقاد السينمائيين نايلة إدريس من تونس، والمختار آيت عمر من المغرب، وناهد صلاح من مصر.

“رغوة”.. فرس السبق في مسابقة الأفلام القصيرة

إلى جانب مسابقة الأفلام الروائية الطويلة، فقد خصصت الدورة مسابقة أخرى للأفلام القصيرة، وشارك فيها 54 فيلما يمثلون 30 بلدا عربيا وأجنبيا، وتروم بالخصوص تشجيع وتكريم الكفاءات السينمائية الدولية العالية في مجال الفيلم القصير كشكل من أشكال السينما المختزلة والمركزة والمعبرة والقوية.

وخصصت أربع جوائز في هذا الصنف، أفضلها جائزة أفضل فيلم متكامل التي نالها فيلم “رغوة” من كندا للمخرج عمر حامي، ويحكي قصة العمال الذين يعملون في ورشات غسل السيارات، حيث إصرار أحد الشباب للاندماج في المجتمع بعد خروجه من السجن.

أما جائزة أفضل فيلم مغربي قصير فقد نالها فيلم “الخفي”، وهو عمل مشترك في الإخراج والكتابة والإنتاج بين حمزة مقدوم ورضا صبور، ومدته 16 دقيقة.

قامت ببطولة الفيلم إيمان زاهود والمهدي الجزاري وخالد المرابطي، ويسلط الضوء على حالة إنسانية تعيش النظرة الدونية والإهمال والإحساس بالخوف والوحدة، حيث تتنكر في لباس الرجل العنكبوت لإسعاد الناس في الشارع العام من أجل الحياة.

 

كان الفيلم الوثائقي حاضرا في هذه المسابقة، حيث آلت الجائزة في هذا الصنف إلى فيلم “أجنبي” لمخرجه عزيز زرونبا من كندا، وهو يعالج موضوع شاب يعيش العزلة، ونظرة المجتمع القاسية بسبب سلوكه، وتحديه الصعاب من أجل العودة إلى أسرته.

أما جائزة الأفلام الكرتونية أو أفلام سينما التحريك فقد عادت إلى فيلم “سقوط الملك أبو منجل” (Fall of the Ibis King) من إيرلندا، وهو إخراج مشترك للمخرج “جوش أوكايم” و”ميكاي جيرونيمو”.

احتفاء بالأفلام والمخرجين والنقاد.. تكريمات الدورة

نوهت لجنة تحكيم المسابقة التي ضمت السينمائية نيكولاي خابز من لبنان، والفنانة الفرنسية “إيما رجان”، والمغربية الفرنسية مخرجة الأفلام الوثائقية سعاد الكتاني بالفيلم الأندونيسي “أناه الجاويه” (Annah the Javanese) لفاطمة توبينغ، والفيلم الإيطالي “الحائط الابيض” (Il Muro Bianco) للمخرج “ماركو سكوتوتزي” و”أندريا بروزا”.

وقد تخللت الدورة أنشطة موازية تراعي البروتوكول الصحي للوقاية من كوفيد 19، ولعل من أبرزها ورشات سينمائية ومنتدى حواريا حول حقوق المؤلف والحقوق المجاورة، فضلا عن ندوتين تمحورتا حول الشباب وصناعة الأفلام المسؤولة ومهرجانات الأفلام القصيرة وإستراتيجية التوزيع.

 

وضمن فقرة التكريمات احتفت الدورة بالممثل السينمائي المغربي الراحل عزيز الفاضلي الذي توفي قبل ثلاثة أسابيع، واحتفت أيضا بالمخرجة والمنتجة الأمريكية “ويندي كيز”، ومن المكسيك “أميلوي ماي”، ثم المصرية داليا البحيري، والممثلين المغربيين نورة الصقلي وفريد الركراكي.

السينما المكسيكية.. صناعة عريقة في ضيافة المهرجان

حول هذه الدورة قال رئيس المهرجان الأستاذ عبد الحق منطرش في تصريح خاص إن هذه الدورة استثنائية بطعم خاص، وذلك بعد تأجيلها مرتين حرصا على سلامة الضيوف، مؤكدا أنها تتزامن مع احتفال الرباط عاصمة للثقافة الأفريقية لعام 2022.

وأشار منطرش إلى أن هذه الدورة حرصت على إدراج مخرجات تصور النموذج التنموي الجديد، كما ارتآه العاهل المغربي الملك محمد السادس من خلال الندوات والموائد واللقاءات التي أقيمت على هامش الدورة، وذلك حتى تُنير الشباب بأهمية الثقافة والفن والسينما في تحقيق التنمية، وتعزيز المزيد من الحوار والتواصل الثقافي والإبداعي العالمي.

وأثنى منطرش على الحضور الوازن للسينما المكسيكسة كضيف شرف للدورة، لما لهذه التجربة الأمريكية الجنوبية من تاريخ عريق، فضلا عن قيمة كتابها الذين أضافوا لمستهم الخاصة على الثقافة العالمية، مبرزا أن ما يميزها حصدها لـ30 أوسكارا خلال السنوات الماضية، وهو رقم يبرز قوتها وتألقها على الصعيد الدولي.

 

وأكد منطرش أن الدورة حرصت على عرض أجود الأفلام العالمية سواء الروائية الطويلة أو الوثائقية التي تعرض لأول مرة بالمغرب، مما يبرز القيمة الفنية والإبداعية لمهرجان الرباط الدولي لسينما المؤلف، والقناعة الراسخة بأن الجمهور المغربي له ذوق فني وسينمائي رفيع، ويستمد ذلك من الثقافة المغربية الأصيلة وإرثه غير المادي العريق.

وشدّد على أن الدورة المقبلة ستكون متميزة بكل المقاييس، ويرتقب تنظيمها ما بين 17-24 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، حيث ستتزامن مع الاحتفال بمدينة الرباط عاصمة للثقافة الإسلامية والأفريقية، وهو الاحتفال الذي سيشدّ أنظار العالم الإسلامي والأفريقي إلى العاصمة المغربية، ويتيح أيضا الاحتفال بالسينما عامة وسينما المؤلف خاصة، احتفال يليق بما للسينما من أهمية على المستوى الثقافي، ولتكريس مزيد من قيم التواصل والتسامح بين مختلف الثقافات والشعوب.