مهرجان بولونيا.. احتفاء بالسينما العربية وإحياء لتراثها العتيق

“أنا مدين لعشرات ومئات المخرجين باكتشاف كثير من الأشياء، لذلك علينا بذل كل جهودنا لترميم هذه الأفلام والحفاظ عليها. لأنها تراث إنساني، إنها ذاكرتنا”.

هكذا تحدث المخرج الكبير “مارتن سكورسيزي” إلى “تشيشيليا تشينشياريلي” الإيطالية الشابة المسؤولة عن مشروع الترميم، وهي تعد من المديرين الأربعة لمهرجان بولونيا الذي يحمل عنوان “إعادة اكتشاف السينما”، أو كما يُنطق بالإيطالية “إل تشينما ريتروفاتو” (Il Cinema Ritrovato)، وذلك أثناء زيارته إلى بولونيا قبل أيام قليلة من افتتاح الدورة الـ37 للمهرجان العريق الذي امتد تسعة أيام خلال الفترة ٢٤ حزيران/ يونيو وحتى ٢ تموز/ يوليو الجاري.

إذن السينما ذاكرة إنسانية. لكن لماذا لا تدرك كثير من الحكومات العربية أن السينما تراث وذاكرة إنسانية؟ أم أنها تُدرك ذلك وتخشى السينما، فتسعى لطمسها وترك أصولها (النيغاتيف) تتحلل؟ هذا ما كانت تشي به الكلمات التقديمية قبل عرض مجموعة من الأفلام العربية هناك، وكذلك ردود فعل الجمهور عقب عرض فيلم «المخدوعون” بتوقيع المصري الراحل توفيق صالح، في مهرجان بولونيا، وهي مدينة تقع في شمال إيطاليا، وتشتهر بأنها الأكثر يسارية وثقافة في إيطاليا.

“المخدوعون”.. نهاية مأساوية في أكناف الجمارك العربية

هذا أيضا ما تُؤكد عليه أحداث الفيلم، فقد أُنتج عام ١٩٧٢، لكنه ما زال قادر على التعبير عن قضية شائكة خطيرة حتى الآن، وهي إشكالية الهجرة غير الشرعية بحثا عن الرزق، ثم الموت في النهاية.

قد يكون هناك اختلاف ببعض التفاصيل لكن المقدمات والنتائج تظل واحدة، فإذا كان أبطال قوارب الموت يموتون غرقا اليوم، فإن أبطال “المخدوعون” ثلاثة من الفلسطينيين من ثلاثة أجيال يسافرون بشكل غير قانوني من العراق إلى الكويت على أمل أن يلحقوا بالطفرة النفطية، بعد تهجيرهم من أراضيهم على أيدي المحتل الصهيوني.

ماريان لوينسفكي أثناء مناقشة كتابها عن سمامة

ينتهي بهم المطاف متفحمين بداخل فنطاس المياه الجاف، الذي كان أشبه بأحد الأفران الملتهبة من شدة قيظ الحر في الصحراء، فقد صعدوا للاختباء داخل خزان المياه، وظلوا هناك عندما احتجز موظفو الجمارك سائق الفنطاس لبعض الوقت. وانتهت رحلة الهروب بحثا عن الرزق بالموت وإلقاء الجثامين في مكب للنفايات.

عرض الفيلم.. حلم تحقق في إيطاليا بعد طول انتظار

كانت المفاجأة حضور زوجة الروائي الفلسطيني الراحل غسان كنفاني بصحبة ابنها لتقديم الفيلم المقتبس عن رواية “رجال في الشمس”، وقد عُرض بإحدى أكبر وأهم القاعات هناك، قاعة “جولي”. في البداية تحدثت “تشيشيليا تشينشياريلي” عن عملية البحث الطويلة والعميقة عن نسخة النيغاتيف في أرشيفات عدة دول، وقد أسفرت عن نتائج مبهرة لم تكن متوقعة، ثم عملية الترميم ومحاولة الحفاظ على الألوان والأصل بقدر الإمكان، كاشفة عن أهمية الفيلم، وخطورة موضوع الآني والمعاصر، كذلك تعرضه للرقابة في العالم العربي ومنعه من العرض سنوات طويلة.

أما زوجة كنفاني فبدأت حديثها بشكر السينماتيك في بولونيا على جهوده لإعادة إحياء الفيلم الذي يُعد أحد كلاسيكيات السينما، ليست السينما الفلسطينية فقط بل العالمية أيضا، ثم أعادت للذاكرة حكاية الجلسات التي كانت بين توفيق صالح وزوجها عند الاتفاق على تحويل الرواية إلى السينما، وذلك أثناء فترة هجرة توفيق صالح إلى سوريا والعمل في المؤسسة العامة للسينما، مشيرة إلى أن المخرج رأى ضرورة تغيير النهاية لتكون مناسبة أكثر للسينما.

لكن كيف وصل فيلم “المخدوعون” إلى إيطاليا؟ هذا ما كشف عنه النقابَ المخرجُ التونسي محمد شلوف الذي تحدث قائلا: في أواخر الثمانينات كان المخرج يوسف شاهين لديه مستحقات مالية عند المؤسسة السورية العامة للسينما، فاشترى منهم حقوق توزيع الفيلم، لكنه لم يكن قادرا على توزيعه في إيطاليا. آنذاك كنت أنظم تظاهرات سينمائية عربية للمشاهد الإيطالي في عدة مدن، وعندما التقيت بشاهين طلبت منه توزيع الفيلم في إيطاليا فوافق. كنت مغرما بالفيلم. ذات يوم وعدت مخرجه توفيق صالح بترميمه، وأنا سعيد الآن بإنجاز الوعد.

محمد شلوف.. تكريم لمرمم الأرشيف العربي والأفريقي

المخرج التونسي محمد شلوف -الذي يعتبر أن الطاهر شريعة هو الأب الروحي له- لم يقتصر وجوده ودوره فقط على إعادة اكتشاف “المخدوعون” وتقديمه للجمهور الإيطالي، لكنه كرس حياته المهنية للأرشيف الأفريقي والعربي، ولذلك لم يكن غريبا أبدا تكريمه في ختام فعاليات المهرجان البولوني العريق، وذلك تقديراً لجهوده المخلصة.

محمد شلوف يلقي كلمة للحضور في حفل تكريمه

على صعيد مواز، يمارس شلوف دورا كبيرا، ويبذل جهودا مضنيا حاليا لتحقيق أفضل النتائج فيما يخص الأرشيف التونسي، خصوصا أن تونس تمر بأزمة اقتصادية مروعة، وفي ذات الوقت هناك احتفال بمئوية السينما التونسية بعد أشهر قليلة في مهرجان قرطاج السينمائي بدورته القادمة.

طوال فعاليات المهرجان ظل شلوف يحاول التواصل مع ضيوف المهرجان من المسؤولين في كافة أرشيفات السينما العالمية بحثاً عن أي أفلام تونسية، وبحث إمكانية تقديم مساعدات ليست فقط مادية، لكنه أساساً يبحث عن أصول الأفلام أو نسخ منها، إضافة إلى طلب الدعم الفني والتقني عبر توفير المعدات المناسبة لخلق أرشيف بظروف وشروط علمية صحيحة.

مئوية السينما التونسية.. احتفاء يليق بالبلد

انطلق الاحتفال بمئوية السينما التونسية من بولونيا أولا، فقد عُرضت فيها مجموعة أفلام وثائقية قصيرة من توقيع رائد السينما التونسية المخرج ألبير سمامة شيكلي، صُور بعضها في مدن مختلفة في أرجاء تونس، حيث وثق حياة الناس في البحر والبادية، وأثناء عمليات الصيد، وتربية الماعز، وحركة الجيش أثناء وجود العثمانيين، مثلما صور أجواء بعض عمليات الإعدام، لكنه رفض تصوير لحظة الإعدام ذاتها.

وقد صوّر بعض أفلامه في ليبيا، وهي تكشف عن تشابه المعمار هناك مع بعض المدن التونسية في الجنوب – وفق تصريح المخرجة التونسية عايدة شامخ للجزيرة الوثائقية- فقد كان سمامة شيكلي مثل الرحالة، وهو كان يصف نفسه بالمسافر.

أثناء رحلاته قام بتصوير الحرب العالمية الأولى، وعاد منها مريضا بسبب الغاز السام هناك الذي أصابه بالدرن، وتوفي بعد فترة قصيرة، ربما لأن مشروعه السينمائي لم يُكتب له الاستمرار ففقد الأمل، وربما لأنه لم يحظَ بالعلاج في المصحات المتخصصة المتميزة في ذلك الوقت بسويسرا.

 

الشقيقات كاترينا وسيلفيا يلقيان محاضرة في المهرجان

وقد أصدر المهرجان كتابا عن ألبير سمامة، يقع فيما يقرب من أربعمئة صفحة، تتضمن صورا شخصية له ولعائلته، ووثائق تنشر لأول مرة، ولقطات من أفلامه التي أدت بطولتها ابنته زهرة، وهي لم تستمر في التمثيل رغم موهبتها الواضحة، فقد منعها من العمل في أفلام الآخرين آنذاك.

تقول “ماريان ليفنسكي” محررة الكاتب: كانت أفلام ألبير سمامة سابقة لعصرها، لكنه عندما تحول للسينما الروائية الطويلة لم يتمكن من توزيعها، إذ لم تكن تُرضي ذوق الموزع الغربي أو الأوروبي، مثلما لم تكن ترضي هوى المستعمر، لأنها لم تُنجز بعين فولكلورية أو استشراقية. كانت عين ألبير سمامة السينمائية تختلف تماما عن المصورين الاستشراقين، كان يصور الناس بإحساسه كأنه واحدا منهم.

أيام المهرجان.. رحلة في سرداب السينما العتيقة

صحيح أن مدة المهرجان كانت تسعة أيام فقط، لكن منظميه اصطحبوا المشاهدين عبر سرداب الزمن والتاريخ في رحلة طويلة تغطي 150 عاما من تاريخ السينما العالمية، عُرضت خلالها مجموعة من الروائع النادرة في عالم الفن السابع منذ اختراع السينما، إذ عرض ٤٧٠ فيلما مختارا من بين جواهر السينما المصنوعة على مدار ما يزيد عن قرن من الزمان، وذلك من مختلف دول العالم من أوروبا وآسيا وأفريقيا والعالم العربي والأمريكتين، منها ١٧٩ فيلماً صامتا تصاحبها الموسيقى. ومن بينها أفلام التونسي ألبير سمامة التي صاحب عرضها اثنان من الموسيقيين الإيطاليين. كان العزف ارتجاليا، تماماً كما كان يحدث في بدايات السينما الصامتة.

لم يقتصر الأمر عند “المخدوعون” وأفلام سمامة شيكلي، فقد كان للسينما العربية حظ غير قليل، إذ عرض فيلم “أحلام المدينة” للسوري محمد ملص، وأكد منظمو المهرجان أنهم بصدد عملية ترميم للفيلم.

وكذلك عُرض فيلمان عن النساء الفلسطينيات بتوقيع مخرجات من أصول لبنانية. كان الأول وثائقيا قصيرا بعنوان “نساء فلسطينيات” للمخرجة اللبنانية الراحلة جوسلين صعب، أما الثاني فهو روائي طويل بعنوان “ليلى والذئاب” للمخرجة اللبنانية هايني سرور.

ختاما، نذكر بأن هذا المهرجان الاستثنائي الذي قدم برنامجا أسطوريا، أتاح للجمهور التنقل بين 15 من دور العرض السينمائي، بعضها في الهواء الطلق، وفي مقدمتها الساحة الكبيرة المشهورة باسم “بياتزا ماجوري” (أي ساحة ماجوري) وهي أكبر ساحة عرض مفتوحة في أوروبا، وضمت ستة آلاف من الجمهور ليلة عرض فيلم “هيتشكوك” الذي قدمه المخرج اليوناني الفرنسي الشهير “كوستا غافراس” صاحب رائعة “هنا كي” (Hanna K.).