“عالبار”.. أفراح وأتراح بين ملاعب الكرة والسياسة

“ملحمة ومأساة”، كلمتان تلخصان عام 1978 في تونس، قليلة هي البلدان التي تؤرخ مراحل حاسمة في تاريخها ببطولة رياضية، ولكن ما جرى في هذا العام تحول لذكرى خالدة فيها غصة وفرحة، ولا تزال هذه الذكرى محفورة بمخيلة جيل عاصرها وأجيال تالية رُويت لهم.

عاش التونسيون السنة الأكثر دموية في تاريخهم، ولكن رغم الدماء التي سالت والدموع التي انهمرت فإن هذا العام شهد “ملحمة” كأس العالم في الأرجنتين الذي حقق فيه المنتخب التونسي لكرة القدم أول فوز لبلد أفريقي في كأس العالم.

وأكثر من ذلك، فالمنتخب التونسي الذي فاز على المكسيك وانتزع التعادل من ألمانيا وخسر أمام بولندا بهدف نظيف كان قريبا جدا من التأهل للأدوار الإقصائية لو دخلت كرة اللاعب تميم الحزامي التي ارتطمت بالعارضة الأفقية وتحسر على عدم دخولها المرمى الشعب التونسي.

ومن هنا جاء عنوان الفيلم “عالبار” -أي على العارضة الأفقية للمرمى- الذي بثته الجزيرة الوثائقية، ويتناول عام 1978 من خلال حادثة فض قوى الأمن والجيش في تونس وقتها بالقوة مظاهرات واعتصامات دعا إليها الاتحاد العام التونسي للشغل وخلفت مئات الضحايا، كما عرج الفيلم على مسيرة منتخب تونس لكرة القدم في التصفيات المؤهلة لكأس العالم في الأرجنتين وكيف أهدى “نسور قرطاج” أول فوز لأفريقيا في المونديال.

حاشية بورقيبة.. صراع على خلافة الرجل المريض

ينطلق الفيلم من التوترات وعدم الاستقرار في العلاقة بين الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان يضم نحو نصف مليون شخص عام 1977، وبين النظام برئاسة الحبيب بورقيبة الذي كان وقتها مريضا وشكل البحث عن خلف له مشكلة كبيرة.

وعن هذه الفترة يقول المؤرخ التونسي هشام عبد الصمد: إن السباق نحو القبض على السلطة عام 1978 كان بسبب تفكك المنظومة الحاكمة بين المسؤولين الأمنيين والسياسيين الذين كان كل واحد منهم يبحث عن فرصة للانقضاض على السلطة في مشهد سياسي كان آيلا للسقوط، وتحول النظام إلى مجموعات صغيرة متصارعة، وكان هذا مؤشرا هاما على نهاية العهد.

ويصف الكاتب والسجين السياسي السابق فتحي بالحج يحيى المشهد القائم آنذاك قائلا: في جميع طبقات المجتمع حين يكبر الأب ويمرض يبدأ أبناؤه بالحديث عن تقاسم الميراث، وهذا ما حصل في عهد بورقيبة، ولكن القصة كانت معقدة أكثر لأنه لم يكن لدى أي من المقربين منه امتياز صارخ على الآخر، وكانت حظوظ الجميع متساوية في الخلافة.

الاتحاد العام التونسي للشغل.. قوة الشارع تفسد اقتسام الكعكة

بينما كان الصراع يشتد بين أقطاب السلطة دخل الاتحاد العام التونسي للشغل على الخط طارحا نفسه كرقم صعب في المعادلة، فهو يسيطر على الشارع ويؤيده مئات آلاف العمال، الأمر الذي أعطى لرئيسه الحبيب عاشور قوة استثنائية.

الحبيب عاشور زعيم الاتحاد العام التونسي للشغل

وتشرح الصحفية والحقوقية والناشطة سهير بالحسن تعقيدات المشهد السياسي بالقول: كانت الشخصيات التي تتسابق على الخلافة منقسمة بين من يريد مواصلة القمع والإمساك بالبلاد، وبين آخرين يريدون تحرير النظام السياسي وإعطاء المزيد من حرية التعبير، وكان في مقدمة هؤلاء اتحاد الشغل الذي كان يتجرأ على معارضة نظام بورقيبة يوميا، ولهذا كان من المطلوب وضع حد له.

كان بورقيبة وعاشور يتمتعان بنفوذ شخصي، وكان مكتب عاشور مفتوحا للجميع، فعام 1977 كان عاما خطيرا على الاتحاد، لأن الجميع كان يريد استخدام ورقته القوية ليفوز بلعبته السياسية ويحقق طموحاته الشخصية، وبدأ الاتحاد يكبر أكثر، وبدأ سؤال عن تجاوز طموح رئيسه الاتحاد مشروعا وقتها، فالحبيب عاشور كان يعلم أنه يتمتع بنفوذ كبير، ويستطيع اللعب على الطرفين السياسيين.

تصفيات كأس العالم.. خيوط المسرحية اليونانية

بينما كان المشهد السياسي منقسما ومشتعلا، كان هناك مشهد آخر مغاير تماما عنوانه رياضي ووطني ووحدوي، وهو التصفيات الأفريقية المؤهلة لكأس العالم في الأرجنتين عام ١٩٧٨.

ويكشف اللاعب الدولي السابق خالد القاسمي كيف كانت السلطة الحاكمة وقتها تستثمر في احتمال تأهل المنتخب إلى المونديال، وينقل حوارا دار وقتها بينه وبين محمد الصياح: مدير الحزب الاشتراكي الدستوري، إذ قال له الصياح: إن الاتحاد العام التونسي للشغل كان يخطط لاستغلال غضب الجماهير والانطلاق بمظاهرات عارمة من الملعب الأولمبي في حال فشل المنتخب بالتأهل للمونديال، لحسن الحظ أنتم كنتم تفشلون له مخططاته.

الفريق التونسي يتأهل لمونديال كأس العالم في الأرجنتين عام ١٩٧٨

ويقدم جيلبار نقاش الكاتب والناشط السياسي اليساري التونسي المشهد عام 1978 بطريقة مسرحية باعتباره أنه كان “مأساة يونانية وكانت شخصياتها تتمثل في بورقيبة والهادي نويرة (رئيس الوزراء) والصياح والطاهر بلخوجة (وزير الداخلية) وعاشور، وكان لكل منهم دور في هذه المسرحية”.

ويتابع نقاش قائلا إن: الشخصية التي كانت تثير اهتمام الناشطين وقتها هو بلخوجة الذي أسس كتائب النظام العام، وكان هدفها الأساسي قمع المظاهرات وأعمال الشغب وحفظ النظام العام، وعززت هذه الكتائب النظام البوليسي العام في البلاد وباتت المعلومات تنتقل من الأحياء والقرى والبلدات البعيدة والشوارع والمدن القريبة إلى وزارة الداخلية مباشرة.

على هذه الاتهامات رد بلخوجة قائلا: مررنا بمشاكل وأحداث كثيرة خلال 30 عاما التي حكم فيها بورقيبة، وفي كل مرة يتزعزع النظام وتهتز كرسي بورقيبة وكراسي السياسيين، وكنا دائما نعود ونمسك بزمام الأمور، ولكن ليس بالعنف والقوة كما كان يقال.

“تعطيني أعطيك”.. خيانة أدت إلى الطلاق بين الاتحاد والنظام

كان هناك عقد اجتماعي بين نويرة وعاشور يقوم على مبدأ الأخذ والعطاء (تعطيني أعطيك)، ويكشف ذلك المؤرخ عبد الصمد قائلا: الأسعار لم تكن ترتفع إلا باتفاق بين الرجلين، ولكن هذا الاتفاق كان يُخرق في بعض الأحيان من نويرة الذي لم يستطع دائما الإيفاء بالتزاماته.

نقطة الخلاف الأساسية والجوهرية التي أدت إلى طلاق كامل بين عاشور وبورقيبة والاتحاد العام التونسي للشغل والحزب الحاكم وقتها هي استقلالية الاتحاد، فقد كانت هناك شراكة غير معلنة بين الاتحاد والحزب.

الهادي نويرة رئيس الوزراء، الذي قدم استقالته في سابقة في تاريخ تونس وفي عهد بورقيبة

يقول المؤرخ عبد الصمد: بدأت هذه الشراكة تنفض بعد تشكيل الدولة ما سمي (الخلايا المهنية) التي كانت تلعب في عقر دار الاتحاد التونسي (المؤسسات الاقتصادية)، ومن تلك اللحظة بدأ الصراع يكبر والخلاف يتسع بين عاشور والصياح (رئيس الحزب الحاكم).

انتصار نسور قرطاج على الفراعنة.. نسيم في جو محتقن

في أثناء الأجواء السياسية المتشنجة في تونس، كان منتخب “نسور قرطاج” يواصل مسيرته الناجحة في التصفيات المؤهلة للمونديال، إذ تخطى الجزائر ثم غينيا وبعدها نيجيريا ووصل إلى المواجهة الفاصلة ضد مصر، وكان يحتاج فيها إلى الفوز كخيار وحيد، لأن التعادل يؤهل منتخب “الفراعنة”.

غير أن لاعبي المنتخب لم يخيبوا ظن الشعب التونسي وفازوا بنتيجة 4-1 في المباراة وتأهلوا إلى مونديال الأرجنتين، وأصبح هؤلاء اللاعبون النجوم الوحيدين في البلاد وقتها، وكانوا محميين سياسيا ورياضيا، وأُعد عنهم وعن حياتهم الشخصية وثائقيات وبات لديهم نفوذ اجتماعي كبير.

مباراة تونس مع مصر التي أهلته لمونديال الأرجنتين

وفي إحدى الحوادث التي تظهر هذا النفوذ، يروي الصحفي محمد الكيلاني في قصة له أنه “بعد تعادل المنتخب مع نيجيريا في مباراة الذهاب من التصفيات، هدد عبد المجيد الشتالي مدرب المنتخب بالاستقالة، فكتب أحد الصحفيين الرياضيين مقالا خاطب فيه الشتالي مباشرة وقال له: “استقل إذا أردت، نحن لسنا مرتبطين بك”، فترتب على ذلك عزله من رئاسة القسم الرياضي في الصحيفة التي كان يعمل فيها.

“المباريات أجلت المواجهة”.. انتصارات أثلجت صدور السياسيين

كانت الملاعب وقتها ومدرجاتها منبرا لتفريغ الغضب ورفع الصوت ضد الظلم الاجتماعي الذي كان يلحق بالعمال والطبقات الكادحة، وعن هذا يقول محمد علي العقبي -وهو صانع محتوى وأفلام-: كان يسود الشوارع والملاعب توتر كبير، وصورت في فيلمي شرطة الخيالة التي كانت تستخدم سياطها لضرب الجماهير (قبل مباراة مصر)، ويظهر هذا المشهد القمع الذي تعرض له مجتمع بكامله من قبل نظام كان يخاف من المظاهرات والإضرابات التي جرت وتجري، شعرنا بذلك عندما دخلنا إلى الملعب وسمعنا هتافات تعبر عن التوتر الاجتماعي، وتحول الذهاب إلى ملاعب كرة القدم وحضور مباريات المنتخب ترويحا عن النفس ومدعاة للفخر ووسيلة لنسيان الأعباء اليومية، فكُرة القدم نجحت في التغلب –إلى حد ما- على التوتر الاجتماعي.

بعد التأهل للمونديال تحولت المظاهرات التي كادت أن تعم البلاد إلى فرحة واحتفالات

وعن هذه الفترة يقول فؤاد المبزع الرئيس التونسي المؤقت الأسبق: الفوز على مصر والتأهل إلى المونديال بدّل الأجواء في البلاد تماما، فقبل الفوز كنا نشهد صراعات وصدامات مع الاتحاد العام التونسي للشغل ومظاهرات مطلبية يومية وبعد التأهل تحولت هذه المظاهرات إلى فرحة واحتفال بالتأهل.

ويرى الكيلاني أنه “لو لم ينجح المنتخب بتحقيق نتائج إيجابية لكان الاحتقان في الشارع أسرع، لكن الانتصارات هي التي أجلت الصدامات، ولو كان هناك مزيد من مباريات المنتخب لكان الشعب أجل المظاهرات وتمسك بالسلم الاجتماعي الذي يؤثر إيجابا على المنتخب.. فالمباريات أجلت المواجهات ولكن لم تمنع وقوعها”.

“إنهم يريدون قتلنا”.. محاولة الاغتيال التي أطلقت الشرارة

كانت انطلاقة شرارة المواجهات مع تلقي رئيس الاتحاد العام التونسي للشغل تهديدات بالقتل، إذ شن الحبيب عاشور حملة شعواء في جميع أنحاء تونس ضد السلطات رافعا شعارات “إنهم يريدون قتلنا وقمعنا وسفك الدماء”.

وبدأت الأزمة السياسية تتسارع ويضيق الخناق على الهادي نويرة رئيس الوزراء، مما دفعه لتقديم استقالته، وفي سابقة في تاريخ تونس وفي عهد بورقيبة، استقال 6 وزراء تمهيدا لانبهار الحكومة، ولكن الخطة التي كانت تقودها وسيلة زوجة الحبيب بورقيبة “لم تنجح 100%” بحسب الصحفية سهير بالحسن، التي قالت إن “وسيلة فشلت فشلا ذريعا، ولم تستطع إيصال بلخوجة أو أحد المحسوبين عليها لمنصب رئيس الوزراء”.

رئيس الاتحاد التونسي للشغل الحبيب عاشور يتلقى تهديدات بالقتل

في نهاية هذا الصراع بقي نويرة في منصبه، وبرر الاستقالات التي حدثت بأنها تعديل وزاري طلبه بورقيبة، معتبرا أن الاضطراب الذي حصل يدل على أن “تونس تتمتع باستقرار سياسي”.

ودخلت التوترات بين الاتحاد والحزب الحاكم مرحلة الاضطرابات الاجتماعية والسياسية الخطيرة، وتبنى الاتحاد مبدأ الإضراب العام الذي كان “فكرة مجنونة” ويعد خطا أحمر بالنسبة للسلطة.

“إذا أرادوا الحرب فلتكن”.. نظام يوشك على الانهيار

يصف الرئيس التونسي السابق الباجي قايد السبسي الدعوة للإضراب العام في 26 يناير/كانون الثاني 1978 بأنه: أمر غير مسبوق في تونس، واعتبر بمثابة ذريعة حرب، حاولنا التوسط بين الاتحاد والحكومة حتى لا تذهب الأمور للهاوية.

وتابع قائلا: قبل نويرة الوساطة وقال لنا اجتمعوا بعاشور وما تقبلون به فأنا موافق عليه، وقد زرنا عاشور ووجدناه في حال سيئة، لأنه كان محاصرا في مكتبه، وكانت عيناه متورمتين بسبب قنابل الغاز المسيلة للدموع. وقال لنا: انظروا ما فعلوا بنا، هم الذين أوصلونا إلى هذه الحالة، إذا أرادوا الحرب فلتكن.

مواجهات بين الشعب والعسكر أسفرت عن مقتل العشرات وإصابة المئات من أجل كرسي بورقيية

تحول الإضراب العام إلى أعمال شغب ومواجهات بين آلاف المتظاهرين وقوات الأمن، وقد أسفرت عن مقتل المئات برصاص الشرطة التي أطلقت النار على المتظاهرين، إضافة إلى تخريب الممتلكات العامة والخاصة في مشهد اعتبر الأكثر دموية في تاريخ تونس.

وتشير الصحفية بلحسن إلى أن: الخطأ الجوهري الذي ارتكبه الجميع أنهم كانوا يظنون أنهم يمسكون بزمام الأمور ولكن الشباب خرجوا عن سيطرتهم، وكان واضحا أن هؤلاء السياسيين لم يعودوا يستجيبون لواقع البلاد، ولتطلعات الجيل الجديد الذي يطالب بمزيد من الديمقراطية وحرية إبداء الرأي، وبدا أن النظام يلفظ أنفاسه الأخيرة.

زين العابدين بن علي.. صاحب الطلقة التي أنهت عهد بورقيبة

يرى المؤرخ هشام عبد الصمد أن أحداث يناير/كانون الثاني 1978: “تمثل منعطفا في تاريخ تونس اجتماعيا وسياسيا وخاصة في تاريخ “البورقيبية” لأنها بدأت منذ ذلك الوقت بالأفول، بدأ الأفول بإطلاق النار الذي أمر به زين العابدين بن علي (الرئيس التونسي السابق)، والشخص الذي أطاح ببورقيبة بعد 10 سنوات هو نفسه زين العابدين بن علي”.

وفي صعود بن علي الصاروخي لسدة الرئاسة يقول هشام عبد الصمد: “كان بن علي أخصائيا تقنيا ثم ترقى في جهاز الأمن، وكان الوضع مثيرا للسخرية، فبعدما طالت معركة نهاية عهد بورقيبة خطفها رجل غريب كان يعتبر عاديا جدا (بن علي) ليتبين لاحقا أنه جبار”.

بن علي.. جندي مغمور كان وراء الأحداث الدامية في تونس ليتسلق بعد ذلك إلى سدة الحكم

حُمل الاتحاد العام التونسي للشغل مسؤولية كل شيء واعتقل العشرات من أعضائه، وفي مقدمتهم رئيسه الحبيب عاشور وزج بهم في السجون واتهموا بالإطاحة بنظام بورقيبة، وهذه الاتهامات قد تصل عقوبتها للإعدام.

أحداث سياسية متلاحقة فرضت نفسها على المواطن التونسي وأنسته قرعة مونديال الأرجنتين ووقوع منتخب بلاده في مجموعة تضم المكسيك وألمانيا وبولندا، فبعد تحقيق المنتخب التونسي الفوز على المكسيك تعادل مع ألمانيا سلبيا ثم خسر أمام بولندا بهدف نظيف، فقد شهدت المباراة فرصة ضاعت بطريقة لا تصدق عندما سدد اللاعب تميم الخزامي الكرة وارتدت من العارضة الأفقية لمرمى منتخب بولندا، ومعها ضاع حلم “نسور قرطاج” بالتحليق في ثمن نهائي كأس العالم في الأرجنتين.

يصف الكاتب والسجين السياسي السابق فتحي بالحج تلك المرحلة بقوله: ملحمة الأرجنتين وما حققه المنتخب القومي في البطولة، كان له دور في اللعبة السياسية بالبلاد آنذاك، فانتصاراته جلبت الفرحة في أيام عصيبة، ورغم أنها لم تبدل رؤية أو علاقة المواطن مع النظام فإنها رفعت من معنويات الشعب وأعطته أملا ولو كان عبر بوابة الرياضة.