كرة القدم الليبية.. أوكار المقاومة التي هزمت أندية الطليان والإنجليز

يرتبط اسم ليبيا المعاصرة بشيخ المجاهدين وأسد الشهداء عمر المختار، ويرتبط تاريخها بعشرات الممالك التي سادت ردحا من الزمن ثم بادت، من البربر إلى اليونان والرومان، إلى العرب فالترك، ثم الطليان والإنجليز. وترتبط جغرافيتها بمساحات هائلة من الرمال القاحلة تخفي تحتها ثروات طائلة، وساحل طويل يستلقي بوداعة على شواطئ المتوسط.

أما الرياضة وكرة القدم وعلاقتها باستقلال وتحرر القطر الليبي، فتلك قصة أخرى، استغرق فيها صحفيون ورياضيون وكُتّاب تاريخ، ثم صاغوها بما أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، وعرضته على شاشتها في حلقة خاصة من سلسلة: “حكايات عن الكرة والحرية”.

كرة القدم الليبية.. من معسكرات الطليان إلى ملاعب الفتيان

في أكتوبر/تشرين أول 1911 بدأ الغزو الإيطالي للأراضي الليبية، بإثر توقيع معاهدة لوزان بين إيطاليا والدولة العثمانية، وكان للقبائل ورجالها الدورُ الكبير في التصدي للاحتلال، وقدمت ليبيا خيرة مجاهديها في مقاومة المحتل ومن أجل نيل الاستقلال، على رأسهم عمر المختار وبومطاري الزوَي والفضيل بوعمر.

استوطن الطليان أثناء فترة الحكم الفاشي المناطق الساحلية في ليبيا، ووصل عددهم إلى 110 آلاف، أي ما يعادل 12% من عدد السكان الكلي، فعلى الرغم من المساحة الهائلة للقطر الليبي، فإن أغلبية السكان تتركز على ساحل البحر المتوسط، وتمتد حواضر ليبيا من الشرق إلى الغرب على امتداد خط الساحل.

بطولات كروية مدرسية ليبية ناجحة في ظل المستعمر الإيطالي

بعد معاهدة أوشي-لوزان التقط الطليان أنفاسهم قليلا، وانسحب المجاهدون إلى مناطق الجبل الأخضر والجبل الغربي، وهناك بدأت التباشير الأولى لكرة القدم، وذلك في حوالي 1917، وتعلمها الصغار في بنغازي من الإيطاليين الذين كانوا يمارسون كرة القدم أمام معسكراتهم، فنقلها الصغار إلى الأحياء والشوارع.

بدأ تشكيل فرق لكرة القدم في عدد من المدن الليبية على رأسها طرابلس وبنغازي، ولكن لم يسمح لأصحاب الأرض بالمشاركة في البطولات التي ينظمها المحتل الإيطالي على الأراضي الليبية، واقتصرت المشاركة فقط على فرق تكونت من وحدات جيش المحتل، ومع مرور الوقت سمح لليبيين بمباريات ودية بينهم، ثم بطولات خاصة بهم.

ملاعب الكرة.. واحات التعايش وميادين المقاومة

لعب الليبيون أول مبارياتهم في 1920 مع عدة فرق إيطالية، أحدها مختلط واسمه “سيمبري برونتو”، ومعناه “جاهز دائما”، وكان يلعب فيه أربعة لاعبين من بنغازي، هم روقاب، ومصطفى دومة، وهو أول ليبي احترف في النوادي الإيطالية، وحارس المرمى محمد دومة، وفرج رقيّق، والد اللاعِبَيْن ديمس الكبير وديمس الصغير.

أقيمت البطولة على ملعب في بنغازي، وهو أول ملعب على الأراضي الليبية منذ 1920، ومع الأسف فقد كان اللاعبون الليبيون يتعرضون للعقوبات بالضرب والإهانة، من الجنود الإيطاليين أو الإنجليز.

حاول الإيطاليون توظيف كرة القدم لأغراض سياسية، وتصوير معسكراتهم في تلك الفترة على أنها واحات حضارية، فمباريات كرة القدم والمناسبات الرياضية الأخرى بمثابة مؤشر على التعايش السلمي ودليل على قبول الأرض للمحتل، بينما الكرة لدى الليبيين أداة لتشكيل الوعي الوطني والشعور بالانتماء للأرض وإثبات الذات ورد الاعتبار.

ملعب بنغازي.. أول ملعب يقام على الأراضي الليبية منذ 1920

وقد حملت أيام الاحتلال مظاهر كثيرة من تفوق الليبيين أهل الأرض على الغزاة، وكان ذلك في عدة مناسبات ومحافل، فقد ظهر فريق “الفولغر” الذي فاز كثيرا على الفرق الإيطالية، وفريق الصابري الذي استحوذ على البطولة يوما من بين براثن الإيطاليين.

لا يمكن بحال فصل نشأة كرة القدم الليبية عن مقاومة الاحتلال الإيطالي، فواحد من أهم وأكبر الأندية الليبية وُلد من رحم جمعية تحمل اسم شيخ الشهداء وأسد الصحراء عمر المختار، وهو فريق أهلي بنغازي الذي تأسس في 1947، وقد أخذ اسمه من النادي الأهلي المصري، بسبب نفس المبادئ التي يتبناها الناديان في مقاومة الاحتلال وتوعية الجماهير.

إعدام عمر المختار.. خطة لإلهاء الشباب تقلب السحر على الساحر

كان لوجود الشيخ عمر المختار في المنطقة الشرقية، وطريقة إعدامه البشعة بالقرب من بنغازي؛ الفضلُ في تأجيج مشاعر الجماهير الليبية، تعاطفا مع الشيخ المجاهد الكبير، وحقدا وغضبا على السلطات المحتلة الغاشمة، فقد كان ملهما للقوى المجاهدة ليس في ليبيا فقط، ولكن على مستوى الوطن العربي بأكمله.

خرّجت جمعية عمر المختار عددا من المجاهدين، ومن بعدهم السياسيين في منطقة شرق ليبيا، وكان لهم دور في رسم معالم المشهد الليبي، ومنهم شباب النادي الأهلي، وكانوا يطلقون عليه اسم “نادي الشعب”، فقد أصبح ذا شعبية جارفة في الشرق الليبي.

آخر صورة للمجاهد الليبي البطل الشيخ عمر المختار سنة 1931

بعد إعدام المختار في 1931، تفطنت السلطات المحتلة إلى أهمية كرة القدم في إلهاء الشباب الليبي، وإشغالهم عن مقاومة المحتل والاحتشاد لمواجهته، فأنشأوا ما يعرف بالـ”جال” وهي ترمز لـ”شبيبة العرب اللوترية”، وانبثقت منها عدة نوادٍ مثل الصابري وبنغازي، ونجحت جزئيا في تحويل أنظار الشباب الليبي عن مقاومة المحتل.

لكن كرة القدم ما لبثت أن تحولت بعد وقت قصير إلى وسيلة للمقاومة، فحرص الأوائل على تنظيمها وتطويرها وتحويلها في اتجاه مكافحة المحتل، وهكذا تطورت الفرق الصغيرة إلى نواد كبيرة تضاهي نوادي المحتل الإيطالي، وكذلك محاولة الحفاظ على الهوية العربية الإسلامية، لتصبح سلاحا يشهر في وجه الغزاة، وتصنع دورا محوريا في الحياة الاقتصادية والاجتماعية.

“نادي الصقور”.. وكر التعبئة الذي أقلق راحة الغزاة

قبل “أهلي بنغازي” تأسس “نادي طبرق” عام 1927، واحتوى للمرة الأولى على أغلبية من اللاعبين الليبيين، رغم أن مؤسسه ضابط إيطالي من مشجعي نادي ميلان، وتغير اسمه لاحقا إلى “نادي الصقور”، وقد تزايد عدد اللاعبين الليبيين فيه، وأصبح يميل إلى تعبئة الشباب ضد المحتل، الأمر الذي أقلق راحة الغزاة الإيطاليين فقاموا بإغلاقه بعد فترة قصيرة من إنشائه.

نادي طبرق الذي تأسس عام 1927 ثم أصبح اسمه نادي الصقور

أعيد افتتاح النادي تحت ضغط الجماهير الليبية بعد 1935، ثم أعيد إغلاقه ثانية بعد نشوب الحرب العالمية الثانية. ولكن بعد انتهاء الحرب، وتحديدا في 1947 أعيد افتتاح “نادي الصقور”، وبقي مستمرا حتى الآن. فالنوادي مثلها مثل المساجد والنقابات والجمعيات، لها دور في نشر الثقافة والوعي المجتمعي تجاه التحديات المختلفة.

“نادي الاتحاد”.. رمز الوحدة يهزم أندية الطليان والإنجليز

في غرب المملكة الليبية لم يكن الوضع بأحسن من شرقها، خصوصا في طرابلس، حيث تأسس النادي الذي سيعرف لاحقا باسم “العميد” لعراقته، ويتكون شعاره من ثلاث حلقات ترمز للولايات الليبية قبل الاستقلال؛ وهي برقة وفزّان وطرابلس، وقد حاول من ورائها الاحتلالُ تجزئةَ وتقسيم البلاد، فكان النادي رافضا للتفرقة، ولذا كان اسمه “الاتحاد”.

تأسيس “نادي الاتحاد” بطرابلس الغرب في يوليو/تموز 1944 بهيئة ليبية خالصة

شكَّل تأسيس “نادي الاتحاد” في يوليو/تموز 1944 بهيئة ليبية خالصة، نقطةً فارقة في المجتمع الليبي، على الصعيد الرياضي والاجتماعي والسياسي، فقد استطاع الفريق مقارعة الأندية الإيطالية، والفوز عليها في مناسبات عدة، وفاز كذلك على بعض فرق الجيش البريطاني، ثم حصل عام 1952 على كأس بطولة طرابلس التي شاركت فيها أندية إيطالية أيضا.

الاتحاد الليبي لكرة القدم.. استقلال رياضي تتويجا للاستقلال السياسي

بعد نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة الفاشية الإيطالية، حلّ المحتل البريطاني مكان الاحتلال الإيطالي في ليبيا، ورغم أنه حمل بعض الوعود البرّاقة للشعب الليبي، فإنه لم يختلف عن سابقه في التضييق على الشباب الليبي، والحيلولة دون تأسيس اتحاد كروي يجمع شتات الأندية الليبية في المناطق المختلفة.

ففي الحقبة الإيطالية كانت الاتحادات المناطقية تتبع لسلطات الاحتلال مباشرة، ويديرها ضباط إيطاليون بالكامل. أما في الزمن الإنجليزي، وتحديدا في 1948، فقد تشكلت أول هيئة للإشراف على النشاط الرياضي في طرابلس، برئاسة مسعود الزنتوتي، وبعضوية ليبية كاملة، ثم تشكلت هيئة مماثلة في بنغازي، ليرى النورَ أول منتخب كروي ليبي.

اللاعب مسعود الزنتوتي يقود منتخب ليبيا في الدورة العربية التدريبية بالأسكندرية

لاحقا في 1962 تشكل الاتحاد الليبي لكرة القدم الذي يشمل عموم البلاد، لينضم بعدها للاتحاد الدولي “الفيفا”، وقبل ذلك تشكل المنتخب الليبي عام 1953، وقد شارك في البطولات والدورات العربية في 1953-1957-1961-1965 في الإسكندرية وبيروت والمغرب والقاهرة تواليا، وشارك لأول مرة في تصفيات أمم أفريقيا عام 1966.

أخيرا، استقل الرياضيون الليبيون بقرارهم بعد أن كان مرهونا للمحتلين من الطليان والإنجليز، وازدهرت الأندية الليبية في فترة الستينيات، وأنشئ معظم فرق ليبيا في تلك الفترة.

ثم انطلق الدوري الليبي لأول مرة في 1963-1964، وكان أهلي طرابلس أول بطل للدوري، وكان الدوري يقام في الأقاليم الثلاثة؛ الغربية والشرقية والجنوبية، ثم تكون هنالك دورة ثلاثية بين أبطال الأقاليم. وفي موسم 1968-1969 أقيم أول دوري عامّ على مستوى المملكة الليبية جميعها.