“مسموم”.. معضلة الأطعمة القاتلة في عصر الرأسمالية

عندما انشغل الطبيب اليوناني أبقراط الثاني في زمن قديم (عام 150 ق.م) بتأثيرات الطعام على الإنسان، لم يكن يدرك أن ذلك سيشكّل هوسا أكبر سيمتد إلى الأبد، فقد كتب ضمن نصائحه عبارة تجريدية مكثّفة أصبحت تمهّد لتفسيرات عدة فيما بعد، يمكن البدء من خلالها لتحليل بعض النظريات التي تخص النباتيين واللحوميين وكل تلك التصنيفات التي أصبحت تشكَل هياكل اجتماعية مستقلة، تدخل في مواجهات مباشرة عنيفة ضد بعضها، من أجل انتصار نظام غذائي على الآخر.

يقول أبقراط “ليكن الطعام دواءك”، يمكن أن نتتبع الأسئلة الآنية حول النظام الغذائي العالمي، وتداخل المنظومة الرأسمالية في التأثير على تصوراتنا تجاه هذه الأنظمة الغذائية، وخطورة ما يمكن أن تمثّله على الإنسان، كيف تبدو نظرة الإنسان للطعام في العوالم المتقدمة، وما يمكن أن يجوب الخيال بالمقارنة الغذائية مع العوالم الفقيرة، كل هذه الأسئلة يحاول أن يجيب عنها من خلال التجربة الفيلمُ الوثائقي الجديد لمنصة نتفليكس “مسموم.. حقائق سوداء في عالم الطعام” (Poisoned: The Dirty Truth About Your Food) للمخرجة “ستيفاني سوشتيغ” (2023).

عالم اليوم.. بين أزمات الغذاء ورفاهية الإمدادات

بينما يبدو العالم في غالبه تحت وطأة أزمات غذاء عالمي، نتيجة ندرة الطعام، أو عدم التوفيق في الحصول عليه، يقع الجانب الآخر من العالم الأكثر ارتياحا في صراعات داخلية عنيفة حول ما يؤكل وما لا يؤكل مع تلك الوفرة الكبيرة.

قد تكون الإمدادات الغذائية في أمريكا واحدة من أفضل الإمدادات في العالم، إذ يتفاخر الرجل الأمريكي بكيفية حصول الولايات المتحدة على الإمدادات الغذائية “الأكثر أمانا في العالم”، لكن المفارقة الساخرة هي أن ثمة أمراضا مرتبطة بالأغذية المنتشرة على نطاق واسع في الولايات المتحدة؛ ثمة شيء أساسي يظهر بناء على ذلك: ندرة الطعام قد تسبب الوفاة، ووفرته كذلك تصبح مميتة، هكذا تبدو الرأسمالية.

لذلك، فعلى الرغم من أن الفيلم يبدو مشغولا بالنظام الغذائي الداخلي للمجتمع الأمريكي، فإنه يمكن تأويل تلك الممارسات الغذائية على أغلب دول العالم بمختلف طبقاته أو مساحات وجوده، وما دام الأمر يخص الغذاء، ربما على كل شخص أن ينتبه، لأنه يتعلق به لا ريب.

وفقا للفيلم الوثائقي يظهر الطعام بشكل عام في موقف مخيف ومورّط للإنسان المعاصر أكثر من أي شيء، حيث يتخذ الفيلم منذ اللحظة الأولى موقفا عنيفا من الطعام إجماليا، يفككها على مدار ستين دقيقة كاملة.

يعد الفيلم كل أنواع الطعام مسمومة إذا لم يتخذ الإنسان حرصه الشديد منها، قبل أن يغريه شكلها في مختلف الأشكال “لن يمرض فقط، بل سيموت”، وهو يفكك كل نظرة على حدة، لكنه يعدها مبدئيا خطرا مميتا يجب الحرص منه.

“الإشريكية القولونية”.. مأساة غيّرت طريقة أكل الأمريكيين

يتضمن الفيلم أصواتا متعددة من كل الجهات غير الطبية؛ السياسية والاجتماعية والقانونية (عن طريق مبلغين عن بعض الشركات والمطاعم غير الأخلاقية)، للمشاركة بآرائهم فيما يخص قضية الطعام، لكونه قضية عامة للجميع، ويستند في الأصل إلى الكتاب الذي يحمل نفس الاسم للمؤلف “جيف بنديكت”، ويتناول كيفية تحسن النظام الغذائي في الولايات المتحدة على مر السنين، كما يحكي الكتاب مأساة تفشي “الإشريكية القولونية” المميتة التي غيرت طريقة أكل الأمريكيين فيما بعد التسعينيات.

يغطي الفيلم الوثائقي كيف يواصل عمالقة صناعة الأغذية بعد مرور ما يزيد عن 30 عاما إقناع العملاء بشراء منتجاتهم، في حين يعفون أنفسهم من مسؤولية تغيير الأنظمة فيما يتعلق بسلامة الأغذية أو غيرها، ولا يقف عند ذلك الأمر المعتاد بالتنبيه على خطر اللحوم تحديدا ومنتجات الألبان، بل يذهب بعيدا في تحول درامي متميز تحمله حبكة الفيلم إلى كافة الأنظمة الغذائية.

إحدى المشاهد في الفيلم أثناء تتبع خط إنتاج مصنع لإنتاج الدجاج المجمد

فمن يتناول الخضراوات فقط يتساوى خطورةً مع من يتناول اللحوم من محلات الهمبرغر المجهولة، وكذلك شأن السبانخ والبطيخ والدجاج، حتى الفول السوداني وغيره، تماما كاللحوم الدسمة، وقد يتسبب الخس الآن في تفشي الإشريكية القولونية أكثر من لحم البقر، ومن المهم معرفة أن مجرد كون المنتج عضويا، لا يعني أنه خالٍ من مسببات الأمراض.

يتصور الفيلم أن الغذاء هو سبب معظم الأمراض، ويمكن الوقاية من 70% من الوفيات بتغيير نمط التناول الغذائي، وقد تسببت عشرة عوامل غذائية في 45.4% من الوفيات.

أضرار التغذية.. تسمّم يصيب سدس الشعب الأمريكي

قبل أن ننتقل لنحلل كيف تبدو اللحوم المصنعة والخضراوات الخطرة التي يحذر منها الفيلم علينا سرد عدة وقائع أولا، إذ تقول تقارير جاءت في فيلم “ما الصحة” (What The Health) ويعتمد عليها الفيلم أيضا؛ إن واحدا من كل ستة أمريكيين -أي ما يصل إلى 48 مليون شخصا- يُصاب بالتسمم الغذائي كل عام، كما تعاني أمريكا من ما يصل إلى 36 تفشيا للأمراض المنقولة عن طريق الأغذية كل أسبوع.

يعتمد الفيلم على قاعدة بيانات واسعة تستطيع وضع إطار عام للمتضررين من تناول الطعام في الدولة، كما يستشهد بملخص للدراسات الوقائية تُظهر أن تناول حصة واحدة من اللحوم المصنعة يوميا يزيد خطر الإصابة بسرطان القولون بنسبة 18% تقريبا، في حين لا يتجاوز خطر الإصابة بسرطان القولون عند سن 65 عاما حوالي 2.9%، إذا لم تأكل لحوما مصنعة، وحوالي 3.4% إذا كنت تأكل حصة واحدة يوميا.

لذلك تدّعي الإحصاءات أنه من بين 1000 شخص يتجنبون اللحوم المصنعة، سيصاب 29 بسرطان القولون، ومن بين 1000 شخص يتناولون وجبة واحدة يوميا سيُصاب 34 بسرطان القولون. الاختلاف في الخطر المطلق هو حالة أخرى من السرطان من بين كل 200 شخص.

الأمراض المنقولة عن طريق الغذاء.. صرخة تحذير

على الرغم من كل التقارير والدراسات لا شيء يتغير، بل تتزايد الأمراض المنقولة عن طريق الغذاء كل عام في الولايات المتحدة وخارجها، من السالمونيلا إلى الإيكولاي وحتى عدد لا يحصى من البكتيريا التي يمكن أن تؤدي للوفاة.

يظن المستهلكون أنهم آمنون، لكن واقع الأمر أن قطاع الأغذية بحاجة إلى إصلاح شامل، مع فرض تنظيم وإشراف أكثر صرامة لتجنب الأمراض.

يعد هذا العمل صرخة تحذير كاشفة حول أهمية معرفة مصادر الطعام، فهناك أمراض تصيب جماعات “الأنوركسيا” الذي يمثلون طوائف الممتنعين عن الأكل، أو التي تصيب “البوليميا” الذين يمثلون طوائف تلتهم الطعام في أشكاله، وكلاهما عرضة للخطر بالمقدار ذاته، لا يترك الفيلم مساحة لأحد على الآخر، حتى الفول السوداني خطير، ويمكن غسل الطعام إلى أي درجة من الرضا، لكن هل يمكن التأكد من أن مياه الري التي يستخدمها المزارعون ليست ملوثة بالنفايات الحيوانية؟ يقول الفيلم لا.

أقوى نقطة يمثلها الفيلم أنه يجسد خطورة الطعام على دولة (الولايات المتحدة) لديها لوائح تنظيمية صارمة تتجاوز عدة بلدان أخرى، وعلى الرغم من ذلك تظهر كل تلك الحالات التي تصل إلى حد الموت، لا مجرد الإصابة بالمرض، فكيف نتخيل البلدان الأقل تنظيما لهذا الأمر؟

تحوير الطعام.. أغذية تتجنب الأضرار ولا تحقق المنافع

الخوف والهوس من تأثيرات الطعام أنتجت تصورات عنه لم تكن في خيال الإنسان القديم أبدا، فعلى سبيل المثال ظهرت الخضراوات “السمينة” كما ظهرت اللحوم “النباتية”، وأصبح على سبيل المثال يُشار إلى أن “البرجر الخالي من اللحوم” يوفر بدائل قد تقلل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، أو أن استبدال 20% من اللحم البقري ببروتين ميكروبي (أحادي الخلية) قد يخفض إزالة الغابات بمقدار النصف.

إضافة إلى أشياء أخرى يروّج لها عن طريق شركات تلك المنتجات، دون الوقوف على الأزمات التي تصدرها، لكنها تكشف دون شك عن اختراعات لبدائل جديدة، بدلا من الأشياء التي أصبح يخاف منها الإنسان أكثر من أي شيء.

بعض من أسر المتضررين من تلك الأطعمة

يتقاطع ما تنقله “نشرة إنتربرايز” مع القصة من منطقة موازية، عندما تنقل تصريح د. “ديفيد كاتز” مؤسس “مركز أبحاث الوقاية” بجامعة ييل في حديث لـ”بلومبيرغ”، إذ يقول إن بدائل اللحوم الحمراء قد تبدو صحية أكثر، لكن بعض المنتجات مليئة بمكونات مثل بروتين البازلاء ونشا البطاطس وكلوريد البوتاسيوم.

وبينما أظهرت الدراسات أن استبدال اللحوم الحمراء بالمكسرات والبقوليات والأطعمة النباتية الأخرى، قد يقلل من معدلات الوفاة وخطر الإصابة بالأمراض المزمنة، فإنه من المستحيل القول إن البرغر المعالج المصنوع من فول الصويا أو بروتين البازلاء له المنافع نفسها، حسبما نقلت نيويورك تايمز عن د. “فرانك هو”، رئيس قسم التغذية في كلية “تي أتش تشان” للصحة العامة بجامعة هارفارد.

“ثورة في الصناعة الغذائية”.. صعود وهبوط لشركات إنتاج اللحوم

تستعرض القصة لمحات من الغرابة والتشكك حول صعود وهبوط بعض شركات إنتاج اللحوم النباتية التي قال البعض إنها “تجسد ثورة في الصناعة الغذائية”، وقد وصلت إحدى الشركات مرتبة عالية، ـحتى صُنفت أنجح طرح عام منذ الأزمة المالية 2008، ثم ألقي القبض على رئيس الشركة، ثم اختيرت الفنانة “كيم كرداشيان” استشارية التذوق لديهم.

كل ذلك الصعود المربك والهبوط الجذري للشركة، يكشف في طياته النظرة العالمية إلى صناعة اللحوم النباتية الجديدة على العالم وغرابتها، وما يمكن أن يعد في النهاية سوقا رأسماليا جديدا يجد في ذلك الخطاب مكاسب مالية أيضا يمكن تسويقها، عن طريق نجمات وأطباء ووعود بتجاهل مصير أمراض أنتجتها اللحوم المعروفة كما أنتجتها الخضراوات، فما الذي سيأكله الإنسان إذا أصبح كل شيء حوله يمثل سموما قد تفتك به؟

هذه اللحظة المرعبة بيانيا يحاول الفيلم تحويلها بصريا إلى صورة مقززة تخيف المشاهد حتى يتراجع، يبدأ الفيلم من لحظة عادية سريعا ما تتحول لمأساة، إذ يقف رجل خمسيني في قلب متجر كبير مليء باللحوم والخضراوات، يشبه كل متجر في أي بلد، ويبدأ في إنتاج خطاب بديل يحذّر من كل شيء حوله، مأساة أنتجتها الدراما التي وقع فيها الرجل شخصيا بعدما مات ابنه نتيجة تناول طعام فاسد.

وسريعا ما تنفتح أسارير الفيلم على بيانات وأحاديث متداخلة تحاول أن تفهم كيف تهددنا اللحوم بكافة أشكالها كما تهددنا الخضروات، يبدو الفيلم في جوهره لا يدين الطعام مباشرة، بل يدين النظرة الرأسمالية التي تستغل خوف الناس، أو أساسا التحول من طبيعة الطعام العادي من أجل توفير أكبر قدر من الربح، إلى أشكال وطرق خطرة، تحوّله من وسيلة لاستمرارية حياة البشر إلى إنهائها بأسرع وقت ممكن بالوجبات السريعة، وجبات الموت السريع.

“جاك في الصندوق”.. مأساة أمريكية شهيرة في عالم الطعام

يعتمد الفيلم على مأساة أمريكية شهيرة في عالم الطعام تُعرف باسم “جاك في الصندوق” (Jack in the Box) كانت قد حدثت بين عامي 1992-1993، عن الطرق المتعددة التي يمكن أن يؤدي بها تناول الوجبات السريعة إلى الوفاة بسبب الطهي غير الجيد للحوم، وكان معظم ضحاياها من الأطفال الذين لم يبلغوا عشر سنوات.

يبدأ الفيلم فعلا عندما يذكّر بتلك المأسآة التي لم يتجنب المجتمع أسبابها فيما بعد، وكانت التسوية التي دفعتها الشركة إلى الضحايا تأمينا بقيمة 15 مليون دولار، لكن الأمر استمر فيما بعد في أشكال شركات مختلفة، وقد أدت الدعوى القضائية إلى قضية قانونية تاريخية، وتضمنت تقديم سلسلة مطاعم “جاك في الصندوق” ملايين الصفحات من المستندات لمحامي سلامة الأغذية “بيل مارلر”.

على مدار الفيلم يحاول الصنّاع أن يخبروا العالم أن الأمر لم ينتهِ بعد، وأن وطأة الشركات الرأسمالية التي سببت المأسآة أقوى من أي شيء حولها، فقد ابتلعت معارضتها وخلقت عددا من المطاعم في أشكال وأسماء أخرى تستخدم الطريقة ذاتها من الطهي غير الجيد والغذاء غير المضمون.

نصائح باهتة عن تناول الطعام.. نموذج الفيلم الأسطوري

أحيانا يبدو الفيلم نموذجا أسطوريا يحاول إيجاد المستحيل بوصول كفاءة النظام الغذائي لدرجات غير معقولة، يتجاهل خلالها أن التأثير الذي يحدثه الغذاء عموما يختلف تماما من مناعة شخص إلى آخر، لذا فإن تلك المعادلة التي تحمّل الطعام في ذاته كلَّ شيء تبدو مجحفة أحيانا قليلة.

يتواصل الفيلم مع مسؤولي الدولة، كما يتواصل سريا لتصوير خطوط إنتاج الغذاء في إحدى المصانع الكبرى، يخبره الجميع بوضوح أنه لا يمكن السيطرة على كل شيء، كما لا يمكن إدانة الجميع دون سياق، لا شك أن ستكون هناك خسائر، لكن أمريكا تبذل ما في وسعها لتفادي أي خسارة ممكنة.

يبدو الفيلم تقريريا إلى حد كبير، يخرج في شكل نصائح باهتة -على الرغم من أهميتها- عن تناول الطعام أو عدم تناوله، فكيف يمكن للإنسان أن ينجو من السموم التي يمثلها في اللحظة الحرجة؟

نصيحة صارخة لكي يتأكد الناس من طعامهم مهما كان قبل تناوله، وربما ضمنيا أن يبتعدوا عن تناول الطعام في المطاعم الكبيرة والصغيرة، تبدو الخطورة في اللحوم العادية والنباتية وفي الخضراوات بكافة أشكالها، لأنها تبدو في الرأسمالية التي تُعيد اختراع كل شيء من أجل الربح.

إنتاجات الرأسمالية.. مستقبل غامض يحكمه منطق الربح

في النهاية، يبدو التساؤل الأقوى هنا هو: هل تبدو الاختراعات البشرية في مجال اللحوم والخضراوات المعدّلة جينيا هي الحل الأمثل الذي يضمن صحّته، أم أن تلك الإنتاجات مجرد خيالات دعمتها الرأسمالية عموما، لتظل تربح في سياقات أخرى، دون أن تضطر لتبديل الأنظمة الغذائية السريعة التي يضطر إليها الناس من أجل العمل لأطول ساعات ممكنة؟

قديما كان طقس الطعام أكثر رحابة يسع مختلف الأمزجة والأذواق، يأخذ وقته في الزراعة والطهو، الآن باتت علامة الجودة لأي طعام تعتمد على سرعة إنجازه، لا وقت للتضييع مهما كانت تكلفة ذلك، يفهم رجال الأعمال هذا الأمر، كما يعلم الفيلم جيدا أن الأمر لا يرتبط الغذاء مباشرة قدر ارتباطه بطرق إعداده وتخزينه.

يجلس الجميع في انتظار اللحظة التي يكتفي فيها العالم من الهرولة إلى المجهول، ليرفض الوجبات السريعة، سواء كانت تحمل اللحوم أو الخضراوات، يجلس في هدوء ينتظر وجبته الدافئة التي صُنعت على مهل لتجعله أكثر صحة وراحة.