“رشة ملح”.. أساطير الأعجوبة البيضاء التي حيرت العلماء وفتنت الناس

الملح ضروري لحفظ طعامنا وتحضيره وتطييبه، ولا غنى عنه، ويستحيل تشغيل مطعم جيد المستوى من دونه، فالملح لا ينضب وهو في متناول الجميع، لكن بعض الباحثين يقولون إنه خطير بل حتى مميت، بينما يؤكد آخرون أن هذا الخوف لا أساس له، وأن لا دليل على الفائدة من عدم استهلاك الملح، وأن النظام الغذائي المليء بالملح مضر بالصحة.

في هذا الفيلم الوثائقي “رشة ملح” الذي عرضته الجزيرة الوثائقية، سنغربل كمية كبيرة من الشائعات والأساطير والاكتشافات الكثيرة المذهلة للعثور على الأدلة.

يمكن أن تحتوي رشة الملح على آلاف الحبيبات، ويبدو أن هناك عددا مماثلا من الخرافات والنظريات حول الملح في كل ثقافة على هذا الكوكب، وما نحن بصدده ليس سوى البحث عن القليل من الحكمة حول الملح والصحة.

الملح.. أضرار سيد الأطعمة السابح في أجسامنا

المشكلة هي في أن الممنوعات في الأنظمة الغذائية دائمة التقلب: ما الأفضل الزبدة الحيوانية أم النباتية؟ الكوليسترول يقتل خفض الدهون ويعالج البدانة.

كان الملح لفترة طويلة من بين أبرز متصدري قائمة الممنوعات، إذ تربع على عرش الكتاب الأكثر مبيعا “ملح وسكر ودهون”. وتقول مجلة “نيوترشن أكشن” إنه من بين الأكثر فتكا ضمن إمداداتنا الغذائية، فحتى الحكومات تحث مواطنيها على تقليص استهلاكهم للملح.

ويبدو هذا الانقلاب الأكبر على الإطلاق، إذ كان للملح دور قيّم في حياة الإنسان، ابتداء من الصناعات مرورا بالمنازل ووصولا إلى مختبرات العلوم في المدارس الثانوية، لكن إذا نظرنا إلى طبيعة الملح فسنجد أنه مجرد صخر، وهو الشيء غير العضوي الذي نضعه -عن طيب خاطر- في أفواهنا ونبتلعه، لكن لماذا؟

ما علاقة الملح بضغط الدم؟ وما هو الخطر الحقيقي للملح الزائد في الجسم؟

تجيب أخصائية التغذية الكندية “تشيلسي كروس” قائلة: الملح هو كلورايد الصوديوم، ومكون من معدنين موجودين في الجدول الدولي، وكلاهما ضروري، لكن الصوديوم معروف أكثر، وهو مهم لعدد من الوظائف بما فيها حبس السوائل ووظائف القلب والعضلات والأعصاب، إضافة إلى ضغط الدم.

كل تلك المهام تحتاج إلى مصدر طاقة، وهنا يأتي دور الملح الذي يُعد من الشوارد، وهي تحمل شحنة كهربائية عندما تنحل في السوائل، فعند انحلال الملح والبوتاسيوم في الدم يتولد تيار كهربائي في كل خلية من خلايا الجسم بأكمله، وكأن أجسامنا ملايين البطاريات الصغيرة التي تحافظ على نبضات القلب، وتُرسل الطاقة إلى الدماغ والعضلات والجهاز العصبي.

النسبة المثالية للملح في جسم الإنسان هي نصف بالمئة من وزن المرء، يعني هذا أنه إذا كان هناك شخص يزن 70 كيلوغراما، فسوف تكون لديه 62 ملعقة صغيرة من الملح تسبح في جسمه، وتجري تصفية الملح وطرحه باستمرار عن طريق الكليتين للحيلولة دون تراكم السموم، إذ يحبس الصوديوم الزائد والماء الفضلات على شكل بول إلى حين قضاء الحاجة.

الملح يقتل.. دراسة مشوهة تدمر الأعجوبة البيضاء

من الواضح أن الملح مفيد لنا، فكيف نال مثل هذا الصيت السيء، فحتى الأمس القريب كان الملح ملكا متوجا. إنها قصة قديمة قدم قصة الحياة على الأرض، والملح يلعب دورا حيويا في تاريخ الإنسان، وكان يسمى “الأعجوبة البيضاء”.

كان الملح يسمى “الأعجوبة البيضاء”، وكان يلعب دورا حيويا في تاريخ الإنسان

سقطت الأعجوبة البيضاء عن عرشها في الولايات المتحدة عام 1977، عندما ذكر أحد تقارير التغذية أن الدهون والسكر والملح تشكل تهديدا على الصحة العامة، وأوصت الإرشادات الجديدة بحد أقصى من الملح قدره 3 غرامات يوميا (أي نصف ملعقة صغيرة).

استمد الدليل للكمية الموصى بها بشكل أساسي من دراستين: الأولى لعالم يُدعى “لويس دال”، فقد عمد إلى رفع ضغط الدم في الفئران عن طريق إطعامها جرعات هائلة من الملح تُعادل تناول الإنسان لنصف كيلوغرام من الملح يوميا.

أما الدراسة الثانية فقد قارنت بين استخدام الملح وضغط الدم لدى 52 مجموعة موزعة على 32 بلدا، ففي 48 مجموعة لم يجدوا علاقة على الإطلاق، أما المجموعات الأربعة الأخرى فكانت تضم تجمعات سكانية بما فيها قبيلة “يانومامي”، وهي من القبائل الأصلية التي تعيش في الغابات المطرية البرازيلية، ولا يستهلك أفرادها الملح ولا الدهون المشبعة أو الكحول، ولا يعانون من البدانة أو الإجهاد المزمن، ولا غرابة أن ضغط دمهم منخفض.

وعادة ما تستبعد القيم المتطرفة من نتائج الدراسات، لكن ذلك لم يحدث في الدراسة الثانية، وأسهمت تلك البيانات المشوهة في إطلاق شرارات التخويف الأولى من الملح، إذا أصبح مفاد الرسالة الرسمية أن الملح قد يتسبب في احتباس السوائل الزائدة في الجسم، مما قد يزيد ضغط الدم، وهذا قد يفضي إلى إجهاد القلب والإصابة بسكتة دماغية أو نوبة قلبية، وبناء عليه بات “الملح يقتل”.

هذا الاستنتاج سبقته كلمتا “ربما وقد”، فهل لا يزال هذا الاستنتاج صامدا بعد 40 عاما؟

ضغط الدم.. تهمة فضفاضة تلاحق ملك الصوديوم

يقول الدكتور “بيتر لين” مدير الرعاية الأولية في المركز الكندي لأبحاث القلب إن الصوديوم الموجود في الملح يحبس الماء في الأوعية الدموية، مما يتسبب في ارتفاع ضغط الدم، ولأن الملح هو أسهل طريقة للحصول على الصوديوم، فقد ساد الاعتقاد بأن استبعاده سيريحنا من علاج ضغط الدم، وبالطبع هذا ليس صحيحا، لأن الملح ليس المسبب الوحيد في ارتفاع ضغط الدم، إلا أنه كان الهدف الأسهل.

الصوديوم الموجود في الملح يحبس الماء في الأوعية الدموية، مما يتسبب في ارتفاع ضغط الدم

وتشمل عوامل الخطورة لارتفاع ضغط الدم؛ التدخين والكحول والضغط العصبي والبدانة والملح، ومن السهل رؤية أن هذه العوامل لا يشبه بعضها بعضا.

ويعتقد الدكتور “لين” أن الفكرة تكمن في “أننا إذا تحكمنا بالملح قد نكون قادرين على التحكم في عاداتنا الغذائية، مما يعني أننا قادرون على التحكم باستهلاك الطعام، أو اختيار أطعمة صحية أكثر، وهذا ما جعله محط التركيز في ارتفاع ضغط الدم.

إذا الملح هو الهدف الأقرب منالا، ولكن هل هو خطير خطورة التدخين وشرب الكحول؟

حاجة الملح.. نظرية التطور من مخلوقات سابحة

يتحدث الدكتور “بيتر لين” عن مستويات الملح في الجسد وتسببها في رفع ضغط الدم قائلا: تناول الملح يؤدي إلى ارتفاع ضغط الدم، مما يسبب إصابة بنوبة قلبية هو قول غير صحيح، فبعض المرضى يتناولون الملح وتتخلص أجسامهم منه دون أن يتغير ضغط دمهم، فالملح يشكل خطرا متزايدا على المريض، لهذا برزت المشكلة عندما قلنا إن الملح مضر بالمطلق.

لسنا بحاجة إلى التبغ أو الكحول، لكن لدينا حاجة متأصلة للملح، ثمة نظرية مفادها أننا نتوق إلى الملح لأننا تطورنا من مخلوقات كانت تسبح فيه حرفيا.

يركز البروفيسور “ماتيو بيلي” أستاذ أمراض الكلى في جامعة “أدنبرة” في أبحاثه على عضو واحد بالغ الأهمية وهو الكلية، ويقول: في كثير من الأحيان أقول إن الكلية أهم عضو في جسم الإنسان، فمن دونها لن نتمكن من البقاء أحياء. ثمة مدرسة فكرية تقول إن الكلية سمحت لنا بالانتقال من بيئة بحرية كنا نعيش في مياهها المالحة، فالكلية تُصفّي كل محتوى الملح في أجسامنا مرة واحدة كل 40 دقيقة تقريبا، ويعود نحو 99% منه من الكلية إلى الدم، وهذا يسمح لنا بالحفاظ على بيئة داخلية منسجمة مع البيئة الطبيعية للأعصاب أو العضلات كعضلة القلب.

الملح ضروري لصحة الإنسان، فثمة نظرية مفادها أننا نتوق إلى الملح لأننا تطورنا من مخلوقات كانت تسبح فيه حرفيا

إذن فالملح ضروري لصحة الإنسان، لكن هل يشكل الإكثار منه تهديدا؟

حساسية الملح.. أخطار صحية تطارد ربع سكان الكوكب

يبحث الدكتور “ماتيو بيلي” في مختبره عن إجابات، ويقول: لا نفهم السبب في أن النظام الغذائي الغني بالملح مضر بجسم الإنسان، وهل يرفع ضغط الدم أم لا؟

ويتابع: تفيد البيانات المتوفرة حاليا أن ما بين ربع وثلث البشر تقريبا يعانون من حساسية الملح، إذ يرتفع ضغط الدم لدى هؤلاء الأفراد عند الإكثار من تناول الملح، وينخفض ضغط الدم لديهم عند التقليل من تناول الملح، أما الغالبية فلا يحدث تأرجح كبير بضغط الدم لديهم بتأثير من كميات الملح المستهلكة.

إذا كان ربع البشرية تقريبا يعانون من حساسية الملح، فهذا يطرح سؤالا مهما عن السبب المؤدي إليه والآثار الناتجة عنه، ولمعرفة ذلك أجرى الدكتور “بيلي” ومختبره دراسات باستخدام الثدييات وأسماك التجارب، لكن دراسات الكلى على البشر تشكل تحديا حقيقيا.

وفي حال أراد أي باحث أو طبيب إجراء دراسات أو اختبارات على البشر، فعليه اللجوء إلى “الخزعة”، وهو إجراء جراحي محفوف بالأخطار، لكن العلماء اهتدوا إلى طريقة سهلة وآمنة.

قاع العين.. نافذة تكشف أسرار الكلى

بحسب الدكتور “ماتيو بيلي” فإن كثيرا من البيانات يُشير إلى أن الأوعية الدموية الصغيرة الموجودة في قاع العين تشبه إلى حد كبير الأوعية الدموية الموجودة في الكلى، ويكمن إبهار الأمر في إمكانية فحص قاع العين مرارا وتكرارا.

الأوعية الدموية الموجودة في الكلى تشيه إلى حد كبير الأوعية الموجودة في العين

وأوضح أنه “إجراء غير جراحي أو مؤلم، ولا توجد أي أخطار مرتبطة به، ويمكن لنا نظريا متابعة كيفية استجابة الأوعية الدموية في قاع العين للعلاجات، إذ أن الفكرة القائمة هي أن العين نافذة الكلى”. ورغم أن واحدا من كل أربعة أشخاص يعاني من حساسية الملح، يظن الدكتور “بيلي” أننا جميعا نتناول الملح أكثر مما نحتاج.

ويرى أن حاجة أجسامنا للملح تُقدر بنحو نصف غرام يوميا، وعند أخذ هذا الأمر في الحسبان يتبين أن أغلب الناس في المملكة المتحدة يتناولون أكثر من 20 ضعفا من الكمية المحددة.

ويعتبر الدكتور “كلايد يانسي” ممن ساهموا بوضع تلك الإرشادات عندما كان رئيسا لجمعية القلب الأمريكية، وهو يعمل حاليا كرئيس لوحدة القلب في مستشفى “نورث ويسترن ميموريال” الأمريكي، وهو يقول إن “ما تعلمناه عن الصوديوم هو ارتباطه بالقلب والأوعية الدموية، وينظر إلى هذه المعلومة وكأنها مقدسة، ولا يكاد يقاربها الشك”.لكن لا تزال بعض الأسئلة تُطرح.

دراسات وضع الحدود.. أوراق علمية غارقة في العيوب

عام 2018 صدرت مئات الدراسات الجديدة عن الصوديوم، وقاد الدكتور “كلايد يانسي” فريقا لاختيار أفضل الدراسات التي أجريت في ذلك العام لنشرها، لكن كانت “الاختيارات ضئيلة” بحسب “يانسي”.

وشرح أنه في جميع الأوراق العلمية التي تتناول الصوديوم شابت 95% منها عيوب كبيرة، واعتبرت 9 أوراق فقط ذات نزاهة وكافية للتأهل، والمذهل أن الباحثين في تلك الأوراق المختارة قالوا إنه لا يوجد أي دليل إطلاقا على تحقيق أي فائدة من الحد من استهلاك الملح. ولا يدعو “يانسي” لإجراء المزيد من التجارب، لأنها ربما تكون ضارة، ولا تحقق الغاية المرجوة منها.

الدكتور “كلايد يانسي” رئيس وحدة القلب في مستشفى “نورث ويسترن ميموريال” الأمريكي يتحدث عن أهم الدراسات الخاصة بالملح

وتابع “يانسي” قائلا: نحن لا نملك أي سلطة للدفاع عن مثل هذه التغيرات الهائلة في نمط الحياة التي يمكن أن تكون لها عواقب غير مقصودة على الناس دون إقامة دليل، علينا أن نعي الصعوبات التي يسببها ذلك لبعض الأطراف، ولا سيما كبار السن، فكثير منهم من ذوي الدخل المحدود يواجهون عادة تحديات اقتصادية معينة، إذ من المكلف ماديا العثور على نظام غذائي قليل الملوحة ومستساغ الطعم.

“التسمم المائي”.. خطر الموت يهدد ذوي الملح الناقص

الملح لذيذ وتصعب مقاومته، ونفوسنا تهفو إليه، وعند الاستسلام لإرضاء ملذاتنا تتبادر إلى أذهاننا مباشرة رقائق البطاطس، فهي الوجبة الخفيفة الأولى في البلدان الناطقة باللغة الإنجليزية، ففي كندا وحدها يُباع ما يزيد عن مليار ونصف المليار دولار من رقائق البطاطس سنويا، أما في الولايات المتحدة فالمبيعات تتخطى 16 مليار دولار.

ويمكن القول إن الملح أهم ما لدينا من توابل وأكثرها ذما كذلك، إذ يوصف بالآفة والعادة الخبيثة التي يجب الإقلاع عنها، وتنصح وزارة الصحة الكندية وجمعية القلب الأمريكية بخفض استهلاك الملح إلى ملعقة صغيرة أو أقل في اليوم. لكن خبراء التغذية مثل “تشلسي كروس” ينصحون مرضاهم بإعادة إدخال الملح في حميتهم.

تقول “كروس”: هناك حالات لا يحصل فيها بعض الناس على كفايتهم من الملح، ويعانون من نوبات الصداع والتعب المبكر وبعض الغثيان خلال التمرين، وهذا مؤشر قوي على عدم تناول ما يكفي من الملح، لذا فإن الرياضيين الذين أشرف عليهم أحرص على تعويضهم عن فاقد الملح بشكل فعال عن طريق محلول الشوارد، فما أن ينتهي من التمرين يكون بحاجة إلى بعض الملح الإضافي.

يلعب الملح دورا رئيسيا للجسم في نقل الكربوهيدرات إلى العضلات

وأضافت: الرياضيون يحتاجون إلى الطاقة التي تأتي من الكربوهيدرات الموجودة، ويلعب الملح بالفعل دورا رئيسيا للجسم في نقل الكربوهيدرات إلى العضلات، وإذا لم يحتو الجسم على ما يكفي من الملح فذلك يعني أن الكربوهيدرات لن تصل إلى الأعضاء التي تحتاج إلى الطاقة اللازمة لها.

ويمكن أن يكون فقدان الملح مميتا، فهناك عدّاءة تبلغ من العمر 28 عاما انهارت في ماراثون بوسطن عام 2002، وتوفيت لاحقا بعد أن أسرفت في شرب الماء وفقدت الكثير من الملح، ويطلق على هذه الحالة “نقص صوديوم الدم”، وهي معروفة باسم “التسمم المائي”، وتشمل أعراضها الدوار والارتباك الذهني.

ويحتاج الإنسان إلى الشوارد لمد الدماغ والقلب والجملة العصبية بالطاقة، ومن دون تلك البطاريات الداخلية ستتوقف أجسامنا عن العمل، كما يمكن أن يسبب انخفاض الملح تراجعا في الأداء أيضا. لكننا لسنا جميعا رياضيين، ولهذا على البقية منا خفض استهلاكهم من الملح إلى الكمية الموصى بها، هل هذا الاستنتاج صحيح؟

ربع الملعقة.. رقم مبني على أساس علمي متذبذب

يقول الدكتور “آندرو مينتي” الباحث الرئيسي في معهد أبحاث صحة الإنسان في أونتاريو: اقترح عدد من المنظمات الصحية منذ فترة طويلة وجوب التقليل من تناول الصوديوم إلى ما دون 1500 مليغرام في اليوم، أي أقل من ربع ملعقة صغيرة من الصوديوم، ولم يجرِ التحقق من صحة الأساس الذي بني عليه هذا الرقم، رغم وجود كثير من الأدلة الآن تظهر أنه لا يأتي بأي فائدة، بل قد يزيد من الأخطار.

ويقود الدكتور “مينتي” دراسة دولية استمرت 20 عاما، وتتبعت النظام الغذائي الذي يعتمده المشاركون وأحوال صحتهم، ولم يجد أي علاقة بين الصوديوم وصحة القلب إلا في الصين، حيث كان متوسط تناول الصوديوم اليومي مرتفعا جدا. بينما يبلغ متوسط استهلاك الصوديوم في الدول الغربية ما بين 3-5 غرامات يوميا، وتوصي معظم المنظمات بخفض تلك الكمية إلى النصف.

عدد من المنظمات الصحية اقترحت  وجوب التقليل من تناول الصوديوم إلى  أقل من ربع ملعقة صغيرة من الصوديوم يوميا

لكن الدكتور “مينتي” يحذر من التقليل المفرط للملح. ويقول: هناك قدر كبير من البيانات يظهر أن المستويات المنخفضة من الصوديوم تقابلها زيادة في هرمونات معينة في الجسم معروفة بأذيتها للأوعية الدموية، فعند ارتفاع مستويات الصوديوم يرتفع ضغط الدم، وعند انخفاضها يبدأ تنشيط تلك الأنظمة الهرمونية الضارة بالجسم، حتى وإن كانت ارتفاع معدلات الصوديوم في الدم ضارة، فلا يمكننا انتظار أي فوائد من خفض هذه المعدلات إلى حدها الأدنى، وهذا قد يطبق على التبغ، لأنه من الواضح أن الحد الأمثل هو الصفر، لكن في التغذية لا تُقاس الأمور بهذا الشكل، فكل عنصر من العناصر الغذائية الأساسية التي يحتاجها الجسم له مقدار أنسب.

“مارس 500”.. مشروع تجربة بشرية في سجن فضائي

يقول البروفيسور “ماتيو بيلي” أستاذ أمراض الكلى في جامعة “أدنبره”: إن إجراء الدراسات الغذائية على البشر أمر في غاية الصعوبة مقارنة مع نهجنا المعتاد، حيث نستخدم القوارض المخبرية، ويمكننا التحكم بكيمة الملح التي تتناوله هذه الحيوانات، وهذا ما يتعذر فعله مع البشر.

ويوافق الدكتور “يانسي” ما ذهب إليه البروفيسور “بيلي”، إذ يقول: الدراسات على البشر هي الأصعب، لأنها تطلب من المشاركين تذكر ما يأكلونه كمّا ونوعا، ومن الصعب على المرء المواظبة على تذكر ما يتناوله من طعام، لكنها الوسيلة الوحيدة المتاحة لنا عدا احتجاز الناس لأسابيع والمواظبة على التحكم بطعامهم، ناهيك عن أنه لن يقبل أي شخص للخضوع لمثل هذا النظام لأكثر من عدة أسابيع.

لكن مجموعة من الناس قبلوا بالتحكم بهم والحبس مقابل رحلة محتملة إلى الفضاء الخارجي، فقد جنّد مشروع “مارس 500” متطوعين من الذكور الأصحاء من روسيا والصين والاتحاد الأوروبي في تجربة لمحاكاة العيش والعمل على متن محطة فضاء دولية، وبعزلة عن الكوكب الأم لمدة عام ونصف. واغتنم العالم الألماني “مارك تيتزه” هذه الفرصة النادرة لإجراء تجربة مضبوطة على الطاقم الأسير.

مشروع “مارس 500” الذي جنّد متطوعين من الذكور الأصحاء من روسيا والصين والاتحاد الأوروبي في تجربة لمحاكاة العيش والعمل على متن محطة فضاء دولية

يعمل الدكتور “تيتزه” كأخصائي للأمراض الباطنية في كلية ديوك نوس الطبية، ويشرح أنهم أرادوا دراسة الملح في أجسام الفريق، لذلك كان لا بد من تثبيت كميات جميع العناصر الغذائية الأخرى من بروتين وكربوهيدرات ودهون، ثم تغيير كمية الملح المستهلك على فترة طويلة من الزمن.

خزائن الجسد السرية.. أملاح تخدع النظام الغذائي

لسنوات عدة كان يُفحص الملح بالنظام الغذائي من عينات البول التي تجمع على مدى 24 ساعة، ويقاس مستوى الملح فيها، لأن كمية الملح التي تناولها المرء في يوم واحد تساوي كمية الملح التي يتبولها في اليوم الذي يليه.

لكن مع متطوعي “مارس 500” جمعت عينات على مدى أسابيع وأشهر وجاءت النتيجة مختلفة. ويقول العالم “مارك تيتزه”: كنا نعرف ما يأكلونه، وما يدخل ويخرج إلى أجسامهم، ووجدنا عدم اتساق. وكان الطاقم يأكل كمية ثابتة من الصوديوم، لكنه لم يظهر في بولهم.

وتابع: قسنا أوزان المتطوعين ولم نجد أي تغيير فيها، وهذا يشير إلى أن الصوديوم خُزّن في مكان ما بالجسم، فجأة بدأنا نعي أن الجسم يتخلص من الصوديوم أو يحتفظ به، بغض النظر عن النظام الغذائي.

إن كان أمر اختفاء الملح في أجسامنا يحيرنا، فهذا يثير سؤالا بسيطا آخر، ما مدى تأكدنا من ضرورة الإقلاع عن تناول الملح؟

ارتفاع الملح.. عطش يمتص الماء من أنسجة الجسم

على المدى القصير، يصيبك الملح بالعطش حتما، لكن خلال دراسة “مارس 500” الموسعة جعل الملح المرتفع روّاد الفضاء أكثر جوعا، واكتشف “مارك تيتزه” أن ارتفاع الملح يدفع الجسم للحصول على الماء، لكن ليس عن طريق شربه، بل من أنسجة الجسم، وهذا يستهلك طاقة، لكن ليس من الدهون المخزنة، بل من كتلة العضلات.

ويقول “تيتزه”: لا بد أن العلاقة بين الملح والماء مختلفة تماما عما نعتقده، ونحن الآن بصدد التحري عن الصوديوم المخزن والبحث عن أسباب وجوده والفائدة منه.

ويبدو أن كل ما تقدمنا بالعمر تزداد كمية الملح التي تخزنها أجسامنا، ولكن هذا الأمر سيء أم جيد؟

الصوديوم مرتبط بكل الأشياء السيئة التي تحدث مع المتقدمين في السن، مثل ارتفاع ضغط الدم وداء السكري والعدوى وأمراض المناعة الذاتية

تجيب الدكتورة “أندريا مارتون” قائلة: يبدو الصوديوم مرتبطا بكل الأشياء السيئة التي تحدث مع المتقدمين في السن، مثل ارتفاع ضغط الدم وداء السكري والعدوى وأمراض المناعة الذاتية، لكن السؤال الذي يراودني أيضا، ما سبب وجود الملح في المقام الأول؟

حبس الماء.. عملية ترطيب أكبر أعضاء الإنسان

تشير إحدى النظريات إلى أن الفائدة المحتملة من الملح المخزن يكمن في المساعدة على حبس الماء في الجسم، إذ يجتذب الملح الماء إلى حين الحاجة، وكأنه مرطب يجري تطبيقه من الداخل.

ويقول الدكتور “مارك تيتزه”: عملية الترطيب لا تنتهي بابتلاع بعض الماء فحسب، إذ لا بد من بقاء الماء في الجسم، وهذا له علاقة بعملية التمثيل الغذائي التي لا ندركها تمام الإدراك، وهي تحدث موضوعيا على مستوى كل الأنسجة، ويبدو أن هذه الآليات قوية جدا لدرجة أنها تتفوق على وظائف الكلى.

وتقول الدكتورة “مارتون”: الجلد هو أكبر عضو في جسم الإنسان، ويساهم في الحفاظ على الماء الموجود في أجسامنا، لكن مع الوقت يصبح جافا بعض الشيء ولا يعود قويا كما كان، ويفقد قدرته على حبس الماء، وتتراجع مرونته فتظهر تجاعيد البشرة، وتهدف فرضيتنا إلى معرفة ما إذا كان الأشخاص الذين يفقدون ماء أكثر عن طريق الجلد لديهم صوديوم أعلى في الجلد، أو إذا كان الصوديوم موجودا للحيلولة دون فقدان المزيد من الماء.

ويوجه بحث تيتزه الجاري في سنغافورة قصتنا نحو مسار جديد مفاجئ، هل لتخزين الملح تأثيرات أخرى على صحتنا؟

حساب معدلات الملح في الجسد.. حيرة النظام البيولوجي

إذا كانت كميات غير محددة من الملح التي نتناولها تحول مسارها وتخزن بشكل عشوائي، فيكف لنا التأكد بحساب كل ميلغرام نتناوله، وإذا كنا نهتم بأنظمتنا الغذائية وبتوازنها، ألا يمكننا الاستمتاع بالملح بلا خوف أو شعور بالذنب؟

الأمور لا تسير ببساطة داخل أنظمتنا البيولوجية، فالملح والكربوهيدرات والبروتين مهم لجسم الإنسان

يقول الدكتور “بيتر لين” مدير الرعاية الأولية في المركز الكندي لأصحاب القلب: كانت هناك توصية بالابتعاد عن الدهون للحفاظ على الصحة، لكن النتائج لم تكن جيدة، ثم جاء دور البروتين، لكن لا يمكننا الابتعاد عن البروتين لأنه ضروري لبناء أجسامنا، والآن تتوجه الأنظار نحو الملح الذي يوصم بأنه ضار بالصحة، وينصح بالابتعاد عنه، وأظن أن هذه هي الإشكالية التي تجعل الجميع في حيرة من أمرهم، يحب الناس الإجابات الحاسمة والقاطعة، لكن الأمور لا تسير بهذه البساطة داخل أنظمتنا البيولوجية.

كلما أثير موضوع الصوديوم يسأل الطبيب السؤال التالي، هل تراقب معدل استهلاكك للملح؟

التزام المستويات الآمنة من الملح.. غذاء الأطباء

يقول الدكتور “يانسي” إنه لا يضيف الملح إلا للبيض المسلوق والشوفان المطبوخ، أما البروفيسور “ماتيو بيلي” أستاذ أمراض الكلى في جامعة أدنبرة، فيقول: أجرينا دراسة في عام 2012، وكنا نقيس خلالها كمية الصوديوم التي نتناولها من خلال كمية الصوديوم التي كنا نطرحها خلال 24 ساعة، ورغم أنني شديد الاعتناء بنفسي، وحذِر في استخدام الملح؛ فقد تبين أنني كنت أتناول 9 غرامات من الصوديوم يوميا، فصدمت.

بينما يقول الدكتور “لين”: لاحظت أنه عند خروجي لمشاهدة الأفلام أو غيرها يقدم فيها فشار مالح جدا، وينتهي بي الأمر في الإكثار من تناول جميع الأطعمة، لاحظت في نفس الليلة أن الكليتين تباشران العمل وتخلصانني من الملح الزائد، بالتأكيد يمكننا تناول بعض الملح في حياتنا، لكن لنتجنب فعل ذلك بشكل يومي، دعونا نسهل العمل على الكلى من خلال الالتزام بالمستويات الآمنة بدلا من تناول الكميات الهائلة من الصوديوم، والتي يجب على الكلى التخلص منها.

أما الدكتورة “أندريا مارتون” فتقول: أتناول الملح طوال الوقت، لأنني لا أرى أن للنظام الغذائي أهمية في هذا الأمر، بل هناك عوامل أخرى أشد تأثيرا بكثير من النظام الغذائي.

عندما يتعلق الأمر بالملح فإن العقول العظيمة لا تتطابق أفكارها، قد يرجع ذلك إلى أن علم التغذية لا يزال في مهده، لكن هناك بالتأكيد اتفاق على بعض الأفكار، فلا ضير في استخدام نظام صحي قائم على النباتات، والاعتدال قاعدة قائمة ومجربة.