“أعمق نفَس”.. مأساة امرأة حطمت الأرقام القياسية في الغطس الحر

لم يكن يحتاج هذا المقال إلى مقدمات أدبية طويلة تحاول أن تثبت أهمية موضوعه، كان الأكثر إغراء للبدء هو الاقتراب أكثر بالتجربة أو المشاهدة المباشرة حول الموضوع المطروح للنقاش، لذلك جاءت الطريقة الأمثل للكتابة بعد الذهاب إلى مدينة دهب المصرية التي صُوّر أغلب الأحداث فيها، نظرا لاستثنائية هذا المكان لهواة ومحترفي الغطس الحر في العالم.

وقد خلقت تلك المعايشة تساؤلات أكثر عن تفاصيل تخص الغطس الحر الذي يهدف إلى المتعة والاستكشاف، ومعرفة عوالم ما تحت الماء المغرية للإنسان، مع أنها تكون خطيرة على حياته أحيانا. فما الذي يعنيه الغطس الحر؟ وإلى أي مدى يختلف عن الغطس الآخر الذي تمارسه الغالبية؟ وما الذي يجعل قصة الفيلم الوثائقي “أعمق نفس” (The Deepest Breath) استثنائية في تناول هذا الموضوع؟

بدأت “لورا مكغان” كتابة وإخراج هذا الفيلم -الذي أنتجته منصة “نتفلكس”- بعد قراءة مقال صحفي حول المأساة التي تكمن في قلب الفيلم، وهي حكاية الغطاسة “أليسيا زيكيني” ومدربها “ستيفن كينان” الذي مات في قلب منطقة الثقب الأزرق (Blue Hole) الشهيرة في دهب بالبحر الأحمر، وذلك أثناء إنقاذ “أليسيا” بعد محاولة الغطس هناك وعبور منطقة القوس الخطرة دون أدوات تنفّس.

“أليسيا”.. غطاسة تحطم الرقم القياسي العالمي

نرى مقابلة مع غطاسة أجنبية تعمل في مدينة دهب مدربةً لتعليم الغطس الحرب من دون أدوات تنفس، وقد قالت إن الغطس العادي يعطي مساحة لرؤية عالم البحر من الخارج، بينما الغطس الحر يجعلنا نرى البحر من الداخل، وكانت تقصد أن الغطاس يرى نفسه معه أيضا.

وتبدو الحكمة التي قالتها هذه المدربة هي ذاتها التي يسعى لتناولها الفيلم بشكل غير مباشر، حين يقدّم لمحة عن الغطاسة الإيطالية “أليسيا” وسعيها لتحطيم رقم قياسي عالمي بمساعدة غطاس السلامة “ستيفن”، في حكاية استثنائية خاصة جمعتهما في قصة حب، وتجربة تعلّم منها عدد ممن يمارسون تلك الرياضة الخطرة المغرية.

استطاعت بطلة الفيلم “أليسيا” أن تحطم الرقم القياسي العالمي للنساء في رياضة الغطس الحر، وذلك من خلال الوصول إلى عمق بحري يصل 107 أمتار، خلال مشاركتها في بطولة الغطس الدولية “في بي” (VB) عام 2018 في جزر الباهاماس، وأن تعبر منطقة القوس في الثقب الأزرق على نفَس واحد، أي ما

الثقب الأزرق في مدينة دهب المصرية في البحر الأحمر

يرى المُشاهد “ستيفن” في الفيلم من خلال اللقطات القديمة التي صوّرت له قبل وفاته أثناء تدريبه، يتحدث عنه الناس بصيغة الماضي، مما يجعل التوتر الشديد الذي يحرك الفيلم أكثر إثارة للإعجاب والرغبة في المشاهدة. فثمة قصة استثنائية في عالم الغطس الحر، نحاول الوقوف أمامها هنا الآن لفهم هذا العالم أكثر.

غطس بدون أجهزة التنفس.. حب المغامرة

كتب الشاعر الفرنسي “أرثر رامبو” في إحدى جولاته، عندما كان منتشيا بالجسارة والجرأة التي تتملك الإنسان، حين يسعى للتغلب على مخاوفه والانتصار على المجهول في حياته: سأعود، بأعضاء من حديد، ببشرة سمراء وبعين متوهجة، إن رأوا قناعي سيحكمون بأني من سلالة قوية، سيكون لدي ذهب، سأعيش خلاصي، كنتُ ناضجا من أجل الموت، وعبر درب الأخطار كان وهني يُفضي بي إلى أقاصي العالم، وإلى وطن الظلمات والأعاصير.

“أليسيا زيكيني” تحطم الرقم القياسي العالمي للنساء في رياضة الغطس الحر من خلال الوصول إلى عمق بحري (107 أمتار)

وعلى ما يبدو، فإن الحديث عن رياضة الغطس الحر لا يبدأ دون الإشارة إلى تلك الرغبة البشرية في التغلب على الخوف من المجهول، وهي رغبة يحاول الإنسان الانتصار فيها يوما بعد الآخر، حين يغطس بدافع الحب والتجربة ليكتشف عالما لا يعرف عنه شيئا تقريبا، ولا يأبه كثيرا بأخطار ذلك، تماما كما كانت ترى بطلة الفيلم “إليسيا”، وتتابع جمهورها على مواقع التواصل، لتأكيد تلك الدوافع.

مرة بعد أخرى، اكتشف الإنسان مدى ثقل الأدوات التي اخترعها كي تساعده على التنفس تحت الماء، مجازيا وفعليا، وبدأ يشعر بأنها تقلل من تخيّله بأنه كائن آخر يشبه كل شيء حوله تحت الماء، فلا يحتاج أي شيء صناعي يتحرك به أو من خلاله، لذا سعى رويدا رويدا إلى الغطس بجسده فقط، معتمدا على النفس الطبيعي، ومدى احتماله للبقاء في القاع.

الوصول إلى أعماق أبعد وأبعد هي تحديات الغواصين في كل مرة

ويسمى هذا الأمر بالغطس الحر (Freediving)، وهو نوع من أنواع الرياضات المائية، يحبس فيها اللاعب نفَسه لمرة واحدة، ويغوص في أعماق المياه، ويعتمد الأمر هنا على مدى قوة الجسم وقدرته على البقاء أطول وقت تحت الماء من دون تنفس.

غوص الزحافة المغري.. أخطر أنواع الغطس الحر

تتعدد أنواع الغطس الحر ومساحات التعامل من خلاله، لكن يبدو أن الإثارة كلها تتركز في الغطس الحر غير المحدود، وهو النوع الذي يطلق على أكثر مجالات الغوص الحر عمقا، إذ يستخدم فيه الغطاس زحّافة ذات وزن معين للغوص، ثم يعود إلى السطح باستخدام أجهزة طفو ومدربين.

المنقذون يسعفون الغطاسة “أليسيا زيكيني” بعد خروجها مغمى عليها من الماء

يعتمد الغطس الحر غير المحدود على أكبر قدر ممكن من تحمل كتم الأنفاس في الداخل، حتى أن أغلب من يمارسونه يصابون بفقدان الوعي الجزئي، ويحتاجون إلى الإنعاش بعد الخروج إلى السطح.

ويعد هذا الأسلوب خطرا جدا، حتى لدى الغطاسين المحترفين، فقد أودى بحياة عدد غير قليل منهم، لكنه لا يزال الأكثر إغراء لإثبات مدى التحمّل البشري، وتحطيم الأرقام القياسية التي استطاع آخرون تحطيمها بالتحمل والجرأة والمجازفة بحياتهم.

مهارات الغطس.. قدرات خارقة تتحدى مقبرة الغطاسين

يعتمد الغطس الحر غير المحدود على عدد من المهارات التي يجب أن تتوفر فيه، وعلى رأسها قدرة الرئتين الاستيعابية على تقليل التنفس والعيش من خلالها، وذلك بزيادة كبيرة عن قدرة الإنسان العادي التي لا تتجاوز متوسط ست لترات.

ومن المهارات اللازمة طول نفس الغطاس ومرونته وهدوؤه تحت الماء في كل الظروف التي يتوقع أن يقابلها، بأن يتأقلم بجسده كاملا حتى يصبح جزءا من تكوين الماء الذي يغطس فيه، لدرجة أنه لا يتمكن حتى من الخروج إلى سطح الماء إلا بشكل مدروس وبتوقيت معين، حتى لا يؤثر الضغط المختلف بين تحت الماء وسطحه إلى هلاكه، لذلك فإن إنقاذه من تحت الماء بعد فقدان الوعي يمثل خطورة على حياته أيضا.

إلى أي عمق يمكن لإنسان أن يغطس حرا دون أكسجين؟

بمجرد أن تبدأ في تحطيم الأرقام القياسية العالمية، تصبح الأمور مثيرة للقلق

وقد يصاب الغطاس عند عودته إلى السطح ببعض المشاكل مثل خدر النيتروجين، وهو تأثير تسببه بعض الغازات تحت الضغط العالي، فكلما غاص الفرد إلى عمق أكبر، شعر بنشوة “السكر” أكثر.

ويحدث هذا الأمر كثيرا في منطقة الثقب الأزرق، وهو حفرة عظيمة على الشاطئ قرب مدينة دهب المصرية، وتسمى أيضا مقبرة الغواصين، ويبلغ عمقها نحو 130 مترا، ولها نفق أو قناة يسمى بالقوس أو القنطرة على عمق 56 مترا، ويبلغ طوله نحو 26 مترا، ويتصل بالبحر المفتوح مباشرة، وقد توفي في هذا المكان حوالي 200 غطاس، لم يلتزموا بقواعد الغطس فيها، وربما تلك القواعد أو محاولة كسرها هي المأساة الحقيقية التي هددت أبطال هذا الفيلم.

تحطيم الأرقام القياسية.. غواصة تطارد المجد في الأعماق

تدور قصة الفيلم الأساسية حول: أليسيا زيكيني” و”ستيفن كينان”، اللذين يلتقيان أثناء إحدى مسابقات الغطس، ويقرران العمل معا، وسريعا ما تتحول العلاقة إلى قصة حب عنيفة، يراها المشاهد من خلال لقطات ومقاطع فيديو مذهلة تحت الماء من رحلاتهما.

“أليسيا زيكيني” تخرج من الماء بعد غطس تدريبي لها يشرف عليه مدربها “ستيفن كينان”

ونشاهد القصة بينما ننتظر المأساة الكارثية التي هزت مجتمع الغوص الحر، حين مات المدرب أثناء إنقاذ حبيبته في مدينة دهب، ومع أن القصة ذاتها معروفة، فإن المخرجة تتعمد حجب بعض المواد، لإبقاء الجمهور في حالة من التشويق، حول ما إذا كانت وفاة المدرب قد حدثت، أم أن الفيلم يشكك فيها نظرا لغموضها.

يبدأ المشهد الأول للفيلم من لحظة حققت من خلالها “أليسيا” رقما قياسيا جديدا وقتها، حين غطست بعمق 50 مترا إلى القاع، لتسحب ورقتها التي تثبت ذلك، ثم خرجت إلى السطح بعد أن قلق الجميع، لتأخرها عن الوقت المتوقع بثوان قليلة، وقد فقدت الوعي جزئيا، فتحول حُلم المشاهد ورغبته في تجربة ما يراه تحت الماء إلى كابوس، مع رؤية وجهها المتصلب واحتضارها، قبل أن يسعفها المدربون.

مأساة هزت مجتمع الغوص الحر بموت المدرب أثناء إنقاذ حبيبته في مدينة دهب

تدريبات على الغطس الحر نحو الأعماق

يستمر الفيلم على مدار ما يقرب من ساعتين على تلك الحالة من التحفز والتراجع في أغلب قصته، فيود المشاهد لو يسعى للتجريب، ثم يتراجع مع رؤية مدى الخطورة التي يتعرض لها هؤلاء. وتبدو الأمور أحيانا مستقرة وآمنة، وأحيانا أخرى مرعبة تماما أو انتحارية يصعب الاقتراب منها، فالمياه في القاع مقامرة مغرية لرؤيتها عن قرب، لكنها غير مأمونة، فماذا سيحدث بعد قرار تجربة هذا الأمر؟

إيقاع الفيلم.. واقعية تستغني عن لمسات الكتابة والإخراج

يحافظ الفيلم على إيقاع ذكي وبسيط، بين تصوير لقطات واسعة بعيدة للبحر والأماكن والأشخاص، بالتوازي مع لقطات طويلة تكون تارة حالمة، وتارة أخرى خانقة وضيقة تحت الماء، لمتابعة الأبطال أثناء الغطس للتدريب والتأمل، فتصبح الصورة المنقولة البطل الأول للفيلم، مع قصة الغطاسة وحبيبها الذي يفقد حياته من أجل إنقاذها.

كذلك يعتمد الفيلم في أغلب مشاهده على أصوات الطبيعة والصمت العميق في المشاهد تحت الماء، فيتماهى المشاهد مع الأمر، أو يتورط أكثر مع خلق هذه المساحة الميتافيزيقية التي يتخيل فيها البطلة إنسانةً لها قوة خارقة، تستطيع الغطس تحت الماء مسافات طويلة تتجاوز عدة دقائق، ثم العودة إلى السطح.

مقابلة مع البطلة “أليسيا زيكيني”  التي حطمت الرقم القياسي العالمي في الغطس الحر لمسافة 107 مترا

بدت القصة من شدة واقعيتها وأثرها الحقيقي أنها لا تحتاج إلى إضافات كتابية أو إخراجية كبيرة، بل يكفي تقديمها على الشاشة بأقل قدر ممكن من التدخلات الفنية، لذلك اعتمدت المخرجة على مشاهد أرشيفية قديمة للبطل والبطلة أثناء التدريبات.

“مولتشانوفا”.. حورية البحر التي عبرت القوس في دهب

يقول والد بطلة الفيلم “أليسيا” في إحدى المقابلات: حين تبدأ في تحطيم الأرقام القياسية العالمية، تصبح الأمور مثيرة للقلق، لأنك تود تحطيمها كل مرة أكثر.

فمنذ سنوات عدة، كانت الغطاسة “مولتشانوفا” الوحيدة التي نجحت في عبور القوس في دهب، وهو ممر مظلم وشديد الضيق والطول تحت الماء، فكانت بمثابة الملهمة لـ”أليسيا”، فقد تعلمت عن طريقها حب الغطس الحر، وآمنت كذلك أنها تستطيع تحقيق أرقام قياسية تفوق أرقام الرجال.

ففي لحظة جامحة وبعد تحطيم أغلب الأرقام القياسية، وربما بدافع الملل، تقرر “أليسا” أن تخوض تجربة عبور القوس، وتختار ستيفن لتدريبها

فقد حطمت الإيطالية “مولتشانوفا” الأرقام القياسية عندما كانت تتدرب بين الرجال في حمام سباحة في روما، ولكن كان عليها الانتظار حتى تبلغ 18 عاما للمنافسة، فهي كما يقال عنها “رشيقة ذات شعر مموج ومفعمة بالعظمة، وهي حورية البحر الصغيرة”.

حلم عبور القوس.. حالمتان تسيران على نفس الدرب

“أليسا” وملهمتها “مولتشانوفا”، هما مجنونتان في نظر كل أصدقائهما، فهما حالمتان تماما، وتفكران خارج السرب. ويحرص الفيلم على إجراء مقابلات حوارية مع صديقاتهن، مستفيدا في الغالب من اللقطات الموجودة من الدورات التدريبية والمسابقات في السنوات الماضية.

ففي لحظة جامحة وبعد تحطيم أغلب الأرقام القياسية، وربما بدافع الملل، تقرر “أليسا” أن تخوض تجربة عبور القوس، وتختار “ستيفن” لتدريبها.

وسريعا، ينتقل السرد الفيلمي إلى متابعة الرجل الملول الذي ترك عائلته مبكرا، وقرر أن يتنقل مسافرا حول العالم، يحاول أن يعرف السبب وراء حياته، متسائلا عن الأمر، فقد وقع في قلب مشكلات وجودية عميقة لم ينقذه منها سوى تعلّم الغطس الحر، ثم الانتقال إلى مدينة دهب التي كان يرى أنها الأفضل، من بين كل الأماكن التي يمكن أن يمارس فيها الغطس الحر.

مدينة دهب.. مستقر أخير للمنقذ الاستثنائي

استقر “ستيفن” في مدينة دهب، ومع الوقت تحوّل من الغطس إلى تدريب وتأهيل الغطاسين والعمل منقذا استثنائيا في بطولات الغطس التي تقام في المدينة، وتتقاطع قصته مع “أليسيا” التي يحب طموحها وتجريبها المستمر، وصدقها الشديد في حب الغطس مثله.

وتحرّك قصة حبهما الأحداث في الفيلم، سواء الأحداث التي حدثت بعد مقابلتها أو التي حدثت قبلها، بينما تقدمها المخرجة مجرد تأهيل غير مهم تماما يستوجب حكايته، حتى يصل المشاهد إلى لحظة لقاء الحبيبين، والسعي لتحطيم الرقم القياسي في قلب مدينة دهب. فهل يصبح الطموح الزائد عن الحد مدمرا لأصحابه؟

بين البطلة والمدرب، قصة حب تنتهي بموت “ستيفن كينان” في سبيل إنقاذ حياة “أليسيا زيكيني”

يبدو هذا التساؤلُ مساحةَ التأويل الفلسفية الكبرى في الفيلم، وهو يظهر بوضوح في اللحظة التي تقرر فيها “أليسا” عبورَ منطقة القوس بنفَس واحد، وكسر الرقم القياسي لكل من سبقوها، ويوافقها حبيبها دون تفكير كبير، ويتحول الأمر إلى أن يصبح تحطيم الأرقام القياسية هدفا في حد ذاته بالنسبة إليهما، بل ربما يجعلهما في حالة تعامٍ عن كل الأخطار الأخرى.

يبدو الفيلم في النهاية قصة حب طويلة بدأت بالإعجاب المتبادل للطموح الجامح لكل طرف، سواء الغطاسة أو مدربها، وانتهت كذلك بالسبب ذاته الذي جعلهما يقدمان على واحدة من أصعب التجارب التي قد يخوضها غطاس حر في كل العالم.