“الهسبراه”.. هكذا يكذب الاحتلال الإسرائيلي على نفسه وعلى العالم

بعد مجزرة صبرا وشاتيلا التي ارتكبها حلفاء العدو الإسرائيلي في لبنان عام 1982، وجدت إسرائيل أنها في كارثة أصابت صورتها أمام العالم الخارجي، ولا سيما أمريكا، ورأت أن الأزمة سببها عدم وجود علاقات عامة كافية للدفاع عنها وتحسين سمعتها، ومنذ تلك اللحظة قررت إنشاء هياكل مؤسسية دائمة، للتحكم في كيفية تفكير الأمريكيين والعالم الخارجي فيها.

وفي عام 1983 أطلقت إسرائيل مشروع “الهسبراه” (Hasbara)، وكان الهدف منه صناعة صحافة تكتب جيدا عن صورتها في وسائل الإعلام الأمريكية، وكذلك تدريب الدبلوماسيين الإسرائيليين، كما أجروا اجتماعات مع الصحفيين الأمريكيين عبر القنصليات الأمريكية في كل العالم.

“الهسبراه”.. تدريب الدبلوماسيين وصناعة الرأي العام الزائف

بعد مرور 40 عاما من تأسيس مشروع “الهسبراه”، طورت إسرائيل أساليبها في تحسين صورتها، ببذل مزيد من الأموال والتدريبات التي تستهدف الدبلوماسيين والاجتماع مع الصحفيين والإعلانات مدفوعة الأجر، فقد أنفقت على سبيل المثال حوالي 7 ملايين دولار خلال أول أسبوعين من معركة طوفان الأقصى الحالية التي بدأت في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، وذلك على منصة يوتيوب فقط، واستطاعت جلب 10 مليارات انطباع، وذلك بحسب صحف عالمية.

وكانت إسرائيل طوال معاركها السابقة تحاول السيطرة على المعلومات، حتى قبل اختراع الإنترنت بوقت طويل، والآن تمكنت عبر وسائل التواصل الاجتماعي من نشر جميع أنواع الدعاية والتلفيقات الخطيرة، وضمان وصولها بسرعة إلى الملايين.

إسرائيل أنفقت الملايين على دعايات يوتيوب لتوجيه الرأي العام الغربي ضد حماس (مواقع التواصل)

أما فلسطين، فقد اعتمدت في جميع الأوقات والحروب والأزمات على المظلومية التاريخية لها، إضافة إلى صور القتلى والجرحى والقصف التي تخرج مباشرة من الحدث، بينما كانت العلاقات العامة فيها تكاد تكون عديمة الفائدة، وخالية من القصص والخطاب المنطقي، بل تعتمد على العاطفة والشعارات والمعلومات الاعتيادية، والارتكاز على كونها صاحبة الحق، وعدالة قضيتها، وهذا مستمر منذ منظمة التحرير، وصولا إلى السلطة الوطنية الفلسطينية وحركة حماس، فجميعها تصدر الأخبار الرسمية المقتضبة دون مناصرة حقيقية، أو نشر قصص على الأقل للشهداء بمختلف اللغات كي لا يكونوا مجرد أرقام.

دعاية الاحتلال.. أسلحة داخلية وخارجية لتضليل الجماهير

يقول الباحث الإعلامي سعيد أبو معلا للجزيرة الوثائقية إن الدعاية الإسرائيلية تنقسم إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول يتعلق بدعاية داخلية تستهدف الفلسطينيين، وهي دعاية مخفية أحد أمثلتها مقاطع فيديو بُثت على أنها لعناصر من كتائب القسام يعترفون خلالها بعد اعتقالهم بطريقة ذليلة ومنكسرة، وهو أسلوب دعائي فشل في تأثيره، أو عبر بث شائعات لتخويف الناس في الضفة الغربية، وهي تنال منهم فعلا، ليس لأنها قوية، بل لأنه لا توجد جهة رسمية ترد عليها وتفندها. القسم الثاني دعاية للإسرائيليين، أحد أمثلتها بث مقاطع فيديو يظهر فيها ملاحقة جنود الاحتلال لعناصر من كتائب القسام وقتل مسلحيهم، وذلك لترميم صورة الجيش المحطمة أمام الرأي العام، لإثبات أنهم يحققون نتائج على الأرض. القسم الثالث من الدعاية موجه للعالم، حين تعقد حكومة الاحتلال مؤتمرا صحفيا تحضره صحافة أجنبية للقول إن حماس تتخذ الناس والمدنيين دروعا بشرية، أو أنها تسرق الوقود من الأمم المتحدة، وذلك ليبرر الاحتلال المجازر التي يرتكبها، أو عدم إدخاله الوقود، والسؤال هنا لماذا لا تقوم السلطة أو “الأونروا” بالرد على مثل هذه الادعاءات؟

ويرى الباحث أبو معلا أنه على الرغم من غياب الآلية المنظمة في مواجهة الدعاية الإسرائيلية، فإن هناك اختراقات إيجابية في الرأي العام العالمي، بسبب الجرائم المرتكبة بحق أهالي غزة وتوحشها، مما جعل الجماهير تحشد من جديد لصالح غزة، بعد الخسارة التي منيت بها في البداية لصالح الاحتلال، حين قدم المقاومة على أساس كونها إرهابا و”داعش”، لكن سرعان ما كانت هناك استفاقة من العالم.

حرب الاستقلال الثانية.. معارك ضارية في ميدان المعلومات

وصفت صحيفة “يديعوت أحرنوت” ما ينشر على وسائل التواصل والقنوات العالمية حول الحرب الحالية على قطاع غزة بأنه “معركة وعي”، فهي ترى أن هناك معركة على الأرض، ومعركة أخرى تجري في نشر المعلومات والحقائق.

مشروع الهسبراه القائم على تحسين صورة إسرائيل

وفي بداية هذه الحرب، بدأت الصورة تميل ناحية دولة الاحتلال، خاصة أن أغلب الصحفيين استقبلتهم إسرائيل على أراضيها، واجتمعت معهم مئات المرات ونظمت لهم الرحلات، في حين أن غزة لا يدخلها أحد، وليس فيها صحفي واحد وافد إليها عدا الصحفيين المحليين، بسبب إغلاق إسرائيل التام للحدود.

ففي أول أسبوع اجتمعت طواقم وزارة الخارجية الإسرائيلية بمقدار 250 مرة في جلسات إحاطة للمراسلين الخارجيين، وقامت بـ640 مقابلة بمختلف اللغات، ونشرت أكثر من ألف منشور بالإنجليزية والفارسية والروسية والإسبانية والفرنسية، واستطاعت أن تحصل على 320 مليون مشاهدة.

هذا التحشيد الكبير تقف خلفه عدة مؤسسات ووزارات ومراكز في إسرائيل، أهمها مركز هرتسيليا والمقر الدعائي المدني، فهما يدربان ألوفا من الطلبة والمتطوعين والموظفين على نشر المعلومات والرد على التعليقات، وإنشاء قصص قوية بشتى اللغات، إضافة إلى صناعة المحتوى وتوزيعه. والنتيجة جيش إلكتروني مخصص لغسل العقول، خاصة تلك التي لا تحمل وجهة نظر معينة عن القضية الفلسطينية، مما جعل أحد الصحفيين الإسرائيليين يطلق على هذا الصراع الدعائي حرب “الاستقلال الثانية”.

عزل الصحافة العالمية.. جيوش تستقي من أكاذيب الاحتلال

بما أن الجيش الإسرائيلي يعزل غزة عن العالم، فقد واجه الصحفيون صعوبة في متابعة ما يحدث في غزة وحقيقة ما يجري على الأرض، إلى درجة جعلت بعض الصحف العالمية تشكك بوزارة الصحة الفلسطينية في تقارير نشرتها خلال الحرب اندرجت تحت سؤال “لماذا علينا أن نصدق وزارة الصحة الفلسطينية؟”، وقد انتهت هذه التقارير بإنكار الرئيس الأمريكي “جو بايدن” وجود 7000 شهيد فلسطيني.

كما اعتمدت الصحافة العالمية في تغطيتها الجانب الفلسطيني من الأحداث على التحديثات المدعمة بالفيديو حول الوضع في غزة، والتي يتم تداولها على وسائل التواصل الاجتماعي، وكذلك اعتمدت على المراسلين الذي يعملون من إسرائيل لتغطية الصراع.

أما المراسلون المحليون على الأرض فهم يحاولون إبقاء أنفسهم وعائلاتهم على قيد الحياة خلال القصف الإسرائيلي، وهذا ما لا يحدث، فقد قتل حتى اللحظة أكثر من 20 صحفيا وصحفية، قبل أن يقتل الاحتلال عائلة مراسل الجزيرة وائل الدحدوح وهو يغطي الحرب على الهواء مباشرة.

هذا العزل جعل إسرائيل تخترع ما تريد من أكاذيب حول جرائم حرب ترتكبها على أرض غزة، فليست هناك صحافة دولية محايدة بالنسبة لهم لتقول العكس، ومع ذلك لم تنجح إسرائيل تماما في تمرير ذلك، فعلى سبيل المثال، تبادلت حماس وإسرائيل اللوم بشأن القصف المميت على مستشفى الأهلي “المعمدان” في مدينة غزة، وقالت إسرائيل إنه صاروخ فلسطيني أخطأ مساره، لكن الدلائل التكنولوجية التي صدرتها دولة الاحتلال ومقاطع الفيديو والمكالمات، استطاع كثير من الصحفيين فحصها، ليكتشفوا أنها مجموعة أكاذيب جديدة، وشككت بها قنوات بريطانية وصحف أمريكية بعد أن كانت تدافع عن جيش الاحتلال في بداية الحرب.

دور الضحية.. هكذا استطاعت إسرائيل شيطنة خصمها

في الجولات الحربية السابقة كان صعبا على الاحتلال أن يقدم نفسه بدور الضحية، فقد كان دائما الجانب القوي المسلح، أما هذه الحرب الحالية فقد بدأت بعملية للجناح العسكري في حركة حماس، وقُتل خلالها أكثر من ألف إسرائيلي، لذا فقد أصبح سهلا عليهم أن يتلبسوا ذلك الدور أمام العالم، بل إنهم ملكوا زمام القصة وسردها، أمام صمت وعدم رد الطرف الآخر الذي اتهمته بجرائم شنيعة، بل لم يرد تماما في الأيام الأولى.

وهو ما شكل مساحة فارغة تماما شغلها العدو بحياكة روايته حول ثلاثية أساسية هي “قطع رؤوس الأطفال، وخطف الرهائن، ومهاجمة مهرجان موسيقي عن السلام”، فلعبت عليها جيدا، وبدأت في تسويق وترويج حملة دعائية حولها، كانت نتيجتها دعشنة حماس في الإعلام الغربي وخطابات الرئيس الأمريكي، ولاحقا الرئيس الفرنسي “إيمانويل ماكرون”.

وقد نجحت بتحشيد الرأي العام مع سرديتها، بل تغيير رأي جانب من المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، وحتى تلك اللحظة لم يخرج رد من قبل السلطة أو حماس للتعامل مع هذه الدعاية المقيتة التي شوّهت القضية الفلسطينية وإرثها ومدينة غزة التي صورتها التقارير العالمية كأنها وكر لداعش، والنتيجة تدميرها وقتل أهلها، بل ارتكاب واحدة من أكبر الإبادات الجماعية في التاريخ.

سردية فلسطين.. أذرع دبلوماسية وناشطون يفسدون اللعبة

لم يتصدَ لسردية الاحتلال القاتلة الملفقة سوى مجموعة من السفراء والسفيرات والنشطاء حول العالم، منهم سفيرة السلطة الوطنية الفلسطينية في فرنسا هالة أبو حصيرة، وسفير السلطة الوطنية الفلسطينية في بريطانيا حسام زملط، والسفيرة في كندا منى أبو عمارة، ومندوبة فلسطين السابقة في الاتحاد الأوروبي ليلى شهيد، ومجموعة من النشطاء في العالم الذين يساندون فلسطين، أبرزهم الكوميدي باسم يوسف.

كما اشتغلت إلى جانب ذلك الصحافة الاستقصائية لتقصي مجموعة من ادعاءات إسرائيل، أولها حقيقة قطع مقاتلي حماس رأس 40 طفلا، وبدأت الحقيقة تتكشف حين اتصلت وكالة الأناضول التركية بالجيش الإسرائيلي لتسأله عن تلك الحادثة، فنفى علمه بها، ليعتذر بعدها البيت الأبيض و”سارة سيدنر” مذيعة “سي إن إن”، وهي أبرز من ردد الرواية.

ومن هنا ارتدت الحقيقة إلى مكانها، صحيح أنه كان هناك عدد كبير من القتلى والرهائن، لكن ليس ضمن سياق ما تردده الرواية الإسرائيلية، من تعذيب واغتصاب وتنكيل وتمثيل بالجثث، وكان الرد على هذا الادعاء من بعض الرهائن أنفسهن ممن أفرجت عنهن المقاومة، وتحدثن عن معاملة جيدة.

وقد أرادت المقاومة أن تقول للعالم بتلك الإفراجات إنها تراعي الدواعي الإنسانية، كما جاء في أكثر من بيان وتصريح صحفي، وهنا لأول مرة تقوم المقاومة بدعاية مضادة للدولة المحتلة، في محاولة ضمنية كي تقول للعالم إنها لا تقتل أو تعدم الرهائن أمام الكاميرات كما تفعل داعش وغيرها.

أما في سردية الاحتلال الثالثة حول قتلى مهرجان الموسيقى، فقد أدان الناشطون والسفراء استهداف المدنيين، وبعضهم استدرك “لكن من يقيم مهرجانا للسلام على أراضي محتلة وحدود بلد مسروقة أرضه؟”.

وتدريجيا بدأ يدرك كثير من المسؤولين وقبلهم الشعوب المظلومية الفلسطينية التي أدت إلى عملية كهذه، وقلب إسرائيل للحقائق ليعطيها العالم الضوء الأخضر كي تسحق قطاع غزة وساكنيه، والنتيجة أكثر من 7000 شهيد حتى هذه اللحظة، 2000 منهم من الأطفال.

هنا لم تستطع إسرائيل إكمال لعبها دور الضحية كثيرا، لترتد إلى وظيفتها المعتادة، آلةَ قتل وحشية بمساعدة أمريكا وأمام صمت أوروبا والمجتمع الدولي، فنسي العالم مظلوميتها الأولى، وتحول إلى الضحية الحقيقية التي تمتد مأساته إلى 75 عاما، على الرغم من الجيش الإلكتروني، وأموال الدعاية، وبحر الأخبار الكاذبة.

تزييف الأكاذيب.. فضيحة إعادة لعبة أمريكية مكشوفة

تغيب الحقيقة في كل حرب، وتصبح لها أوجه كثيرة، فكل طرف له روايته، ولا بد من الفحص والتدقيق والتعرض للخطر أحيانا لإثباتها، فمثلا خلال الغزو الروسي لأوكرانيا نشر كل جانب مجموعة من مقاطع الفيديو المفبركة والقصص الكاذبة عن كل طرف، زاعمين كثيرا من المعلومات التي أضفوا عليها صبغة الحقيقة، لكنها لم تكن سوى أكاذيب، وبثها الطرفان على وسائل التواصل الاجتماعي، مما جعل كثيرا من الرأي العام مشوشا أمام عدد من الحقائق.

يبدو أن إسرائيل اليوم تعلمت من تلك الحرب أشياء كثيرة، أولها استخدام الذكاء الصناعي في اختلاق الأدلة، وهو الأمر الذي سهّل كشف الأكاذيب كثيرا حتى لو عن بعد.

وهذا التجريب في تزييف الأخبار والأدلة جعل الرواية الإسرائيلية في أكثر حالاتها هشاشة، وتُوّج ذلك بوقوف الرئيس “إسحاق هرتسوغ” يحمل ورقة مطبوعة بالألوان لدليل نشرته القاعدة عام 2003 يتضمن تعليمات حول صنع السلاح الكيميائي، قائلا إن الورقة وجدوها على حامل “يو أس بي” في جيب أحد قتلى حركة حماس بعد عملية 7 من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.

لقد كان مشهدا خجولا وفقيرا يوضح إلى أي حد وصلت إسرائيل في تلفيق الأخبار والأكاذيب، لتبرير جرائمها في قطاع غزة، وقد علق عليه أغلب القراء الأجانب على صفحة “سكاي نيوز” بسخرية، أحدهم قال “متى ستعلنون أن صدام حسين انضم إلى حماس؟”، وآخر يقول “لماذا سيحمل مقاتلٌ يو أس بي معه إلى المعركة؟”.

وقد ذكرتهم إسرائيل في دعايتها الباهتة بـ”كولن باول” وزير الخارجية السابق لحكومة “بوش الابن”، حين وقف في فبراير/ شباط 2003 أمام مجلس الأمن، وقال إنه يمتلك الدلائل على أن العراق لديها أسلحة الدمار الشامل، بل تنتجها، وفي 19 مارس/ آذار غزت أمريكا العراق، وفي 9 أبريل/ نيسان سقط النظام العراقي، وكل ذلك بمساعدة الدعاية والإعلام الموالي.

لقد أصابت إسرائيل بهذه الكذبة الجديدة تاريخا قديما يعرفه الأمريكي جيدا، فبعد تدمير العراق وقتل أكثر من 200 ألف مدني عراقي، وما يزيد عن أربعة آلاف جندي أمريكي، ومرور أكثر من عقد من الزمان، تراجعت الولايات المتحدة عن كذبتها، وأقر “بوش” بفشل الاستخبارات الأمريكية في العثور على الأسلحة، أو مكان إنتاجها، وهو ما فعله رئيس الوزراء البريطاني السابق “توني بلير” أيضا.

والسؤال هنا، كم تحتاج إسرائيل وأمريكا هذه المرة من قتلى ودمار، للاعتراف بأنهما لفقتا التهم لقطاع غزة، لدفنها في التراب مع أهلها؟

 

المراجع:

الجزيرة

الجزيرة

SKYNEWS

MEDIAED