قصف المستشفيات.. جريمة يحرمها القانون الدولي ويتجاهلها الكبار وحلفاؤهم

من الممكن النظر إلى جريمة قصف المستشفيات على أنها الجريمة الأكثر وقاحة وهمجية عن غيرها من جرائم الحرب، فبينما تضم هذه المستشفيات بين جنباتها آلافا من الجرحى الذين ينتظرون تخفيف آلامهم، فإنهم يصابون مرة أخرى بسبب تلك الجريمة، وبعضهم يصبح بحالة الخطر أو يموتون بشكل أسرع، أما القتلى فقد يقصفون مرة أخرى، وهذا كله يقع بتعمد وإصرار وأمام الكاميرات أيضا.

ذلك ما حدث لمستشفى الشفاء بمدينة غزة، فقد شاهد العالم على شاشات التلفاز تراص الجثث أمام ساحتها وهي مغطاة، وعدم قدرة الطاقم الطبي والنازحين إلى المستشفى على الخروج لدفنها، بل إن كثيرا منهم لم يستطع التنقل خطوة واحدة داخل المستشفى نفسها، بسبب الاستهداف المستمر والقصف العنيف، وقد قُتلت هذه الجثث مرة أخرى، وجرح الجرحى من جديد، وبعضهم بقي هناك على أسرّته بعدما لفظ أنفاسه الأخيرة.

وفي يومين حوّل الاحتلال المستشفى إلى ما يشبه عمارة تحت الإنشاء، فأكوام الرمل والحفر والآلات الثقيلة في كل مكان، والجثث سُحبت أيضا في إصرار على تدمير أكبر مجمع طبي فلسطيني، للبحث عن أوكار “الإرهابيين” التي لم يقدم الاحتلال دليلا صريحا على كونها هناك حتى اللحظة.

مستشفيات غزة.. “أوكار إرهابية” يستهدفها جيش الاحتلال

استهدفت إسرائيل أكثر من خمس مستشفيات بالقصف حتى الآن في قطاع غزة، وبعضها احتلته وحفرت ساحته وقصفت غرفه مثل مستشفى الشفاء والقدس والرنتيسي والنصر للأطفال والإندونيسي، أما بقية المستشفيات فقد توقفت عن الخدمة بعد نفاد الوقود وانقطاع التيار الكهربائي تماما، وندرة الأدوات الطبية النظيفة والأدوية، مما تسبب ببقاء آلاف الجرحى دون علاج، وقتل المئات الآخرين منهم، وهناك من مات ببطء بعد انقطاع الكهرباء، كما حدث مع الأطفال الخدج بسبب توقف أجهزة التنفس والتدفئة عن العمل.

ويتبع الاحتلال خطوات لتدمير مستشفيات القطاع، ويتدرج في ذلك؛ أولها أنه يرسل لطاقمها والنازحين فيها من المدنيين تهديدات مباشرة عبر الهاتف أو المحمول، ثم يروج إعلاميا على مستوى دولي، وتشاركه بذلك الأبواق الرسمية الأمريكية، بأن المستشفيات يختبئ فيها أو يقبع تحتها “إرهابيون”، وتتخذها حركة حماس مركز عمليات، ومن هنا يحصل على شرعية اقتحامها من الدول الأجنبية، ولا سيما أمريكا التي تردد المعلومات ذاتها التي ترددها إسرائيل كل مرة أرادت فيها ارتكاب جريمة حرب جسمية.

وبعد ذلك يقصف الاحتلال مباشرة المستشفيات، ويحتلها ويقتل ويعتقل ويهجر من فيها قسرا، وقد تكررت هذه الخطوات قبل قصف جميع المستشفيات بمدينة غزة وشمال القطاع، والآن تتجه إلى فعل الشيء ذاته مع مستشفيات جنوب قطاع غزة.

وكان وكيل وزارة الصحة في غزة يوسف أبو الريش، في تصريحات سابقة أعلن أن إسرائيل دمّرت “بالكامل مبنى قسم القلب في مستشفى الشفاء”، وهو المستشفى الأكبر في قطاع غزة، ولا يزال الآلاف عالقين فيه، بينما تتركز المعارك في محيطه منذ عدة أيام. وهو ما انتهى لاحقا إلى التخلص ممن فيه من طاقم طبي ومرضى ونازحين، إما عن طريق القتل أو الاعتقال أو الترحيل القسري.

وكان وقتها صندوق الأمم المتحدة للسكان ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”، ومنظمة الصحة العالمية، أطلقوا نداء إلى “تحرك دولي عاجل”، لإنهاء الهجمات الإسرائيلية ضد المستشفيات في قطاع غزة.

ومن جانبه قال مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، إنه يجب حماية المستشفيات والمواد الطبية والمدنيين، داخل المراكز الطبية في غزة، في حين قال وكيل الأمين العام الأممي للشؤون الإنسانية “مارتن غريفيث” إن المستشفيات بغزة يجب أن تكون أماكن آمنة، وليست ساحة حرب، وإن إطلاق النار على المرضى والمدنيين الذين يحاولون الفرار، أمر غير مقبول ويجب أن ينتهي.

حماية القانون الدولي.. اتفاقيات في مهب الريح

من المعروف أن القانون الدولي الإنساني يوفر حماية عامة وخاصة للمواقع المدنية، وفقا لاتفاقية جنيف الرابعة والبروتوكولين الإضافيين الأول والثاني لاتفاقيتي جنيف لعام 1977 ولاهاي لعام 1954. وتشمل هذه الحماية المواقع المدنية مثل المنازل والمدارس والجامعات والمستشفيات ودور العبادة وغيرها من المنشآت المحمية بموجب هذا القانون.

وقد وُصفت الهجمات على المستشفيات بأنها أول جريمة حرب جرى تعريفها وتغطيتها تحديدا في تصنيف جرائم الحرب الذي كتبه “أبراهام لنكولن” خلال الحرب الأهلية الأمريكية، وهو واحد من أول التشريعات من هذا النوع.

واستخدمت لاحقا كلماته بشكل حرفي إلى حد كبير في صياغة اتفاقية جنيف الرابعة في عام 1949، التي تُعد القاعدة الأساسية الرئيسية في القانون الدولي الإنساني لتوفير حماية خاصة للمرافق الطبية في زمن الحرب. وقد وقعت عليها 196 دولة.

وتحظى المستشفيات بحماية خاصة في اتفاقية جنيف الرابعة؛ إذ لا يجوز بأي حال الهجوم على المستشفيات المدنية التي تقدم الرعاية للجرحى والمرضى والعجائز والنساء، إذ يوجب القانون احترام هذه المستشفيات وحمايتها.

وتضيف الاتفاقية ذاتها على هذه الحماية عدم جواز وقف الحماية الواجبة للمستشفيات المدنية، كما تلزم اتفاقيات جنيف الأربع جميع الأطراف بجمع الجرحى والمرضى والعناية بهم.

34 مركزا صحيا خارج الخدمة في غزة

وفي عام 1970 اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة  قانونا ينص على أن منطقة المستشفى أو أي ملجأ مماثل لا ينبغي أن تكون هدفا للعملية العسكرية. وبناء على ذلك، لا يسمح أبدا بالهجمات العشوائية أو المستهدفة على المستشفيات والوحدات الطبية والعاملين الطبيين الذين يعملون بصفة إنسانية.

حروب روسيا.. استهداف متكرر في سوريا وأوكرانيا

هذه الحماية التي يوجبها القانون الدولي واتفاقيات جنيف، لم يكن ممكنا فرضها على الدول الغاشمة طوال التاريخ الإنساني وصراعاته، مما يجعلها حبرا على ورق، ففي سوريا على سبيل المثال، استمر قصف المرافق الصحية سنوات من قبل الطائرات الروسية والنظام الأسدي السوري، فدمر مئات المستشفيات التي كانت تستقبل الضحايا وقتها، وكل أولئك الضحايا إما أن يكونوا أُجلوا لاحقا أو قتلوا.

وكررت الطائرات الروسية الجريمة ذاتها في عدوانها على أوكرانيا، حين قصفت مستشفى للأطفال والولادة في ماريوبول في أوكرانيا، وبحسب ما ورد حينها من أخبار، قُتل ثلاثة أشخاص، من بينهم طفل يبلغ من العمر 6 سنوات، وأصيب أكثر من 12 شخصا.

ويقول الصحفي السوري كريم شاهين في تقاريره الإخبارية إن روسيا استمرت في قصف المستشفيات مدة تصل إلى أكثر من 6 سنوات في سوريا، ويعتبر قصف ماريوبول في أوكرانيا بمثابة تذكير قاتم بهذا الإرث المتمثل في الإفلات من العقاب.

ويحكي أن منظمة أطباء من أجل حقوق الإنسان -وهي منظمة غير حكومية- تعقبت الهجمات على مرافق الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم، في الفترة ما بين مارس/ آذار 2011 إلى يونيو/ حزيران 2021، وقد كان هناك ما لا يقل عن 600 هجوم منفصل على مرافق الرعاية الصحية في سوريا، مضيفا أن الغالبية العظمى منها نفذتها القوات السورية الحكومية أو القوى المتحالفة معها. ومنذ عام 2016 فصاعدًا نفذ 244 هجوما على الأقل منذ ذلك الحين بيد القوات الروسية أو السورية.

ويضيف أن عددا من هذه الهجمات لم تكن مجرد قصف للمستشفيات فحسب، بل كان بعضها يسمى بضربات “النقر المزدوج”، حيث يتبع الهجوم الأول بعد بضع دقائق هجوم آخر لقتل المدنيين وعمال الإنقاذ إلى أقصى حد يمكن الوصول إليه.

تاريخ قصف المستشفيات.. بذور تزهر في كل مواقع الحروب

سبقت كل هذه الجرائم والخطايا بحق المرافق الصحية حوادث أخرى شهيرة، منها قصف مستشفى كوسيفو الذي يشكل المرفق الطبي الرئيسي في سراييفو، عندما وقعت المدينة تحت الحصار في عام 1992، وتعرض للقصف أكثر من 100 مرة خلال السنوات الثلاث التالية، وفي بعض الأحيان من مسافة قريبة جدا.

ويقول الصحفي والكاتب أسعد طه للجزيرة الوثائقية، وكان قد غطى كثيرا من الحروب والقضايا الإنسانية خلال برنامجه “نقطة ساخنة”، إنه عاصر قصف مستشفى الولادة بسراييفو، لكن لم يكن استهداف المستشفيات هناك بالشكل الذي تفعله إسرائيل الآن في مستشفيات قطاع غزة.

موظفو الطوارئ يحملون امرأة أوكرانية حامل مصابة من مستشفى الولادة الذي تضرر بسبب القصف في أوكرانيا

وبحسب موقع نيو هيومنيتريان، فقد قصف الجيش الشعبي اليوغسلافي مستشفى مدينة فوكوفار الكرواتية عند حصاره لها عام 1991، واقتاد في 20 نوفمبر/تشرين الثاني ما يقرب من 300 شخص من داخل المستشفى إلى مزرعة نائية ثم أعدمهم. وقد صنفت هذه الواقعة جريمة حرب، إلى جانب الكثير غيرها من الفظائع التي ارتُكبت في فوكوفار، وشكلت جزءا من لائحة الاتهام الكرواتية ضد الرئيس الصربي في ذلك الحين “سلوبودان ميلوسيفيتش”.

أما في سريلانكا، وبحسب الموقع ذاته، فإنه في عامي 2008-2009، وثّقت منظمة “هيومن رايتس ووتش” 30 هجوما على المرافق الطبية في أقل من ستة شهور في سريلانكا. وكان أبرزها قصف مركز مدينة موليافايكال الطبي في سريلانكا، وكان يقع في “منطقة حظر إطلاق النار” خلال نهاية حرب أهلية طويلة، وقد تعرض هذا المستشفى المؤقت لهجمات متكررة من قبل الجيش السريلانكي خلال الفترة ما بين 28 أبريل/ نيسان إلى 3 مايو/ أيار 2009، ووصفت منظمة “هيومن رايتس ووتش” تلك الهجمات بجرائم حرب.

وبالإضافة إلى هذه الحالات، تعرضت مستشفيات عدة للهجوم في السنوات الماضية في أفغانستان والكونغو وغزة وجنوب السودان، ولا يقتصر الأمر على المستشفيات فقط، فقد كشفت دراسة أجرتها اللجنة الدولية للصليب الأحمر مؤخرا عن ارتكاب 2.398 حادثة عنف ضد مرافق الرعاية الصحية ومقدمي الخدمات الصحية في 11 دولة على مدار عامين (من 2012 إلى-2014).

ويبدو أن التاريخ الإنساني أمام ارتكاب مزيد من الخطايا الاستعمارية لاستهداف المستشفيات، وذلك في قطاع غزة، لا سيما بعد دخول الحرب شهرها الثالث، وتهديد الاحتلال الإسرائيلي مزيدا من المستشفيات في الجنوب، ولا يعرف آلاف الجرحى والنازحين فيها مصيرهم بعد، أما الشهداء في ساحاتها فقد قُتلوا مرة، وسيقتلون الثانية وهم مُسَجّون أمام القذائف العشوائية وشظاياها، مما يجعل المستشفيات تتحول إلى مسالخ بشرية.

 

المصادر:

Newlinesmag

The new humanitarian

BBC