“طنطورة”.. شهادات الجنود الذين أبادوا رجال القرية بين عشية وضحاها

هناك في الكيان المحتل رأي سائد من اليمين واليسار لا يرغب أبدا في الحديث عن النكبة كما يسميها الفلسطينيون، أو لما وقع أثناء ما يسميه الصهاينة حرب الاستقلال عام 1948 من مذابح وتهجير قسري للفلسطينيين، لكن المخرج الإسرائيلي “ألون شفارتز” تجرأ وفتح هذا الملف المتفجر مؤخرا من خلال فيلمه الوثائقي “طنطورة” (Tantura) الذي أخرجه عام 2022، وقد أثار ولا يزال يثير كثيرا من الجدل داخل إسرائيل.

طنطورة قرية فلسطينية كانت تقع على ساحل البحر المتوسط جنوبي حيفا، ولم يعد لها وجود بعد عام 1948، فقد أزالها من الوجود ما عرف بلواء الإسكندروني الصهيوني، وهي مجموعة مما يسمى “النخبة” العسكرية.

يقول هذا الفيلم ويثبت من خلال الوثائق والشهادات التي ترقى إلى مستوى الاعترافات المباشرة إن جنود هذه المجموعة أبادوا رجال القرية، وقتلوا ما يزيد عن 250 رجلا، وقاموا بترحيل النساء والأطفال والشيوخ إلى الأردن.

“تفقدتُ المقبرة الجماعية، ووجدت كل شيء على ما يرام”

يستند الفيلم إلى الدراسة أو البحث الأكاديمي الذي قدمه إلى جامعة حيفا في عام 1998 الباحث الإسرائيلي “تيدي كاتز”، وفيه يثبت أن مقاتلي لواء الإسكندروني قتلوا في يونيو/ حزيران 1948 جميع رجال القرية، بعد السيطرة على القرية بأوامر من “بن غوريون”، ومن دون أي سبب عسكري، فلم يكن هناك قتال أو مقاومة عندما دخلوا القرية وقاموا باعتقال وتجميع سكانها، وأخذوا يطلقون عليهم النار، ثم استغرقت عملية دفن الجثث نحو عشرة أيام.

اعتمد “تيدي كاتز” في دراسته الموثقة على الاستماع إلى شهادات 135 شخصا سجلها على شرائط صوتية بلغت مدتها 140 ساعة، ولا يزال يحتفظ بها، ونصفها شهادات من مقاتلين سابقين في لواء الإسكندروني، والنصف الآخر من الشهود الفلسطينيين الذين نجوا من المذبحة، إما لكونهم كانوا في ذلك الوقت أطفالا أو نساء تمكنوا من النجاة بأنفسهم.

هذه الشهادات الصوتية يستخدم منها الفيلم مقاطع كثيرة يدعمها بصور من الأرشيف وصور أخرى جوية يقوم بتحليلها أحد الخبراء، استعان به مخرج الفيلم لقرية طنطورة قبل ما وقع وبعده، مع كثير من الوثائق والصور ومقاطع الأفلام، منها وثيقتان أو ثلاث وثائق يقول “كاتز” إنه حصل عليها من أرشيف جيش الاحتلال، ولم يكن مسموحا له أن يطلع عليها، أي أنه اطلع عليها سرا، أحدها مكتوب من طرف قائد لواء الإسكندروني.

يمسك “كاتز” الوثيقة ويقرأ التالي: أُخبرتُ من طرف قسم الشؤون العربية أن جنودنا الذين دخلوا طنطورة أمس قاموا بكثير من أعمال التخريب بعد الاحتلال (أي احتلال القرية). ثم يقرأ من الوثيقة الثانية التي تظهر أمامنا على الشاشة مكتوبة بالعبرية: رسالة بتاريخ 9 يونيو/حزيران من قاعدة طنطورة إلى قائد المنطقة: لقد تفقدتُ أمس المقبرة الجماعية في طنطورة ووجدت كل شيء على ما يرام.

ويعلق “كاتز” قائلا: لست أنا من استخدم تعبير المقبرة الجماعية.

“تيدي كاتز”.. محاكمة واعتذار عن ضجة هزت الاحتلال

دراسة “تيدي كاتز” مرت بسلام في وقتها، وحصل عنها على الدرجة العلمية، ومرت السنون ولم يسمع أحد شيئا عنها، إلى أن جاء عام 2000 عندما حصلت صحيفة “معاريف” على نسخة من نص الدراسة وقامت بنشرها، فقامت الدنيا ولم تقعد.

وقد أنكر الذين أدلوا باعترافاتهم كل شهاداتهم وأقوالهم، وزعموا أنه قام بتشويهها ووضعها في سياق مخالف للحقيقة، وأن المقصود كان تشويه صورة الدولة، ويجب أن نتذكر أنه في عام 2000 اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الثانية ضد الاحتلال، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل قام المحتجون برفع دعوى قضائية يتهمون “كاتز” بتشويه سمعتهم.

وفي خضم هذه الضجة سحبت الجامعة الدرجة العلمية وطردت “كاتز”، وقضت المحكمة الإسرائيلية بإدانته، دون أن تستمع إلى الشهادات المسجلة، واضطر إلى تقديم اعتذار عن ما جاء في الدراسة، والتراجع عما جاء فيها من استنتاجات، وكان ذلك تحت ضغوط شديدة مورست عليه، ومنها كما تقول زوجته في الفيلم تهديدات كثيرة بالقتل والانتقام وإيذاء أبنائه.

تيدي كاتز هو الباحث الذي كشفت دراسته مذبحة طنطورة

يظهر “كاتز” في الفيلم بعد أن أصبح مقعدا يعاني من أمراض في القلب، ويقول إنه أصيب بجلطات عدة، ويتحدث بصعوبة ويجيب عن أسئلة مخرج الفيلم ويروي قصته، ثم يقول إن أكبر خطأ ارتكبه في حياته كان تقديم ذلك الاعتذار، وأنه سرعان ما تراجع عنه، ثم تقدم بطلب إلى المحكمة العليا يطلب إعادة نظر القضية، لكن المحكمة رفضت طلبه.

ويقول “أفيغدور فيلدمان” المحامي ورئيس فريق الدفاع عن “كاتز” إنه قبل القضية لأنها كانت المرة الأولى التي تنظر قضية تتعلق بالنكبة وأحداثها، وأنها كانت مهمة جدا بالنسبة لوعينا، للإسرائيليين الذين يكتمون حقيقة ما حدث، وقد تصورت في البداية أن جنود لواء الأسكندروني كانوا ساذجين، بحيث رفعوا الدعوى القضائية بزعم تشويه سمعتهم، بدلا من أن يتركوا الأمر يذهب طي النسيان، ثم كنت سعيدا أنهم فعلوا، لكن القضية اتخذت مسارا لم أكن أتوقعه.

“الحرب هي الحرب”.. أحاديث الشاهدين على المجزرة

يبدأ الفيلم بمشهد يجمع بين أربعة أشخاص يظهرون أمام الكاميرا، ثلاث نساء ورجل، وهم “تيريزا” و”دورا” و”راشيل” و”أيتزاك”، وكلهم الآن في أوائل التسعينيات من عمرهم، وقد عاصروا الأحداث في كيبوتس ناخشوليم الذي كانوا من مؤسسيه.

لا يرى “إيتزاك” جدوى من الحديث عن الماضي، وتقول “تيريزا” إن لديها فقط ذكريات جيدة عن الماضي، أما “دورا” فتقول في مشهد لاحق: إذا كان الفلسطينيون يرغبون في إحياء ذكرى موتاهم، فمن حقهم أن يفعلوا ذلك.

يكرر هؤلاء الأربعة أن كل ما يتذكرونه عن طنطورة أنها كانت قرية جميلة، ويقولون إن علاقتهم بالعرب الفلسطينيين كانت دائما جيدة، لكن “الحرب هي الحرب”، وأن كل هذا كان في الماضي، ولكن الهدف من تصويرهم هو إظهار كيف ترفض الذاكرة الإسرائيلية تذكر الحقيقة.

“لقد قتلناهم، لا شك في ذلك”.. شهادات جنود اللواء

يقول المخرج “ألون شفارتز” في تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية: كانوا قادرين على التضليل، ترويج الأخبار المزيفة، لأنه لا أحد استمع إلى شرائط “كاتز”، فإذا كانوا قد استمعوا إليها، لم يكن ليوجد أدنى شك لدى أي إنسان أن هناك شيئا مروعا قد وقع في طنطورة، كان هناك قتل على نطاق واسع.

العجائز الأربعة من مؤسسي كيبوتز “ناخشوليم” في 1948

يُجري “شفارتز” مقابلات مع عدد من الجنود السابقين في لواء الإسكندروني الذين ما زالوا على قيد الحياة، بعد أن تقدم بهم العمر، وبعضهم يرفض ما جاء في دراسة “كاتز”، ويصر على أنه لم تكن هناك إبادة في طنطورة، وآخرون يقرون ويعترفون بأنهم قتلوا كثيرين، بل يجيب أحدهم وهو “أميتسور كوهين” عن سؤال للمخرج عن ما إذا كان قد أبلغ زوجته بأنه قتل عددا من الفلسطينيين بقوله: بماذا أخبرها؟ بأنني قاتل؟ ثم يضحك.

وعندما يسأله المخرج: وكم قتلت من الفلسطينيين؟ يجيبه بأنه لم يحسب عددهم، ولكن كان لديه مدفع رشاش و250 طلقة، وقد استخدمها كلها في قتل الفلسطينيين. ويقول رجل آخر: نعم لقد قتلنا، قتلنا الكثير. ويقول ثالث: لقد قتلناهم، لا شك في ذلك. ويقول رابع: ماذا أستطيع أن أفعل، لقد حدث.

“كان يجب أن يستمر في قضيته”.. لقاء مع القاضية

من المقابلات المهمة في الفيلم مقابلة يجريها المخرج مع القاضية “دورا بيلبل” التي نظرت في القضية المرفوعة ضد “كاتز” وأدانته، ويقابلها “شفارتز” في منزلها وهي تحتضن كلبتها الصغيرة، ويسألها هل استمعت إلى الشرائط المسجلة لاستجوابات “كاتز” للإسرائيليين والعرب التي تتضمن شهادات دامغة، فتقول إنها لم تستمع إليها.

ثم نراها وهي تستمع إلى بعض ما جاء في الشرائط، ولا تملك بعد ذلك إلا الاعتراف بخطورة ما ورد فيها بالقول “إنه شيء مخز”ٍ، ثم تستطرد قائلة: “كاتز” كان يجب أن يستمر في قضيته.

ومن أكثر أجزاء الفيلم إثارة للسخرية ما يعرضه البروفيسور الإسرائيلي في الجامعة العبرية “هليل كوهين” من لقطات مأخوذة من الجريدة السينمائية لشركة “مترو غولدوين ماير” الأمريكية التي صورت مناظر تمثيلية معدة ومرتبة يظهر فيها الجنود الإسرائيليون في طنطورة، وهم يتعاملون مع السكان الفلسطينيين بقدر كبير من الاحترام، ويسمحون للنساء والرجال بصعود الحافلات بمنتهي الكياسة، وكلها مناظر مقصودة في إطار الدعاية الموجهة للجمهور الأمريكي، لإظهار القوات الإسرائيلية في مظهر متحضر.

لقطة نادرة لقرية طنطورة جنوبي حيفا بعد تدميرها عام 1948

ثم يعرض لنا بعد ذلك مباشرة المشاهد الأصلية التي صورها مصورو الجريدة السينمائية في طنطورة بعد تدمير منازلها، وتهجير سكانها وقتلهم. وهي مناظر لم تعرض بالطبع على الجمهور الأمريكي.

“نطلق النار على الرؤوس؟ هذا ما فعله النازيون”

يستمع المخرج إلى شهادة عجوز فلسطينية من طنطورة تدعى أم رسمي، وكانت صغيرة السن وقتها، وما زالت تتذكر بوضوح كل التفاصيل التي رأتها أمام عينيها، وهي تؤكد كما يؤكد شيخ فلسطيني هو مصطفى مصري الذي ولد ونشأ في طنطورة، وعاش هناك قبل أن يغادرها في 1948؛ أنهم كانوا يجمعون الرجال، وأن جثث القتلى دفنت في المنطقة التي أصبحت الآن -كما يشير لنا المخرج على الخريطة- موقفا للسيارات، لكن خبيرا إسرائيليا سيثبت أنهم تخلصوا من كل الآثار التي تشير إلى المذبحة التي ارتكبت هناك فيما بعد.

يدير المخرج أحد الشرائط لرجل مسن من جنود لواء الاسكندروني في 1948، يستمع إلى صوت رجل يقول حرفيا: كان لدينا قائد في طنطورة أصبح فيما بعد شخصية مهمة في وزارة الدفاع، وقد أخذ يطلق النار بمسدسه على العرب واحدا بعد آخر، لأنهم رفضوا تسليم أسلحتهم، وقام بقتلهم.

ولا ينهي الرجل الاستماع إلى باقي الشريط، بل يتوقف ويصيح: كلا، هذا صوت “ميشا فيتكون”. لقد كان معي (يضحك)، ثم يتلعثم ويردد: لا أدري ماذا أقول، لا أتذكر، ربما حدث لكني لا أتذكر، هذا ليس نحن. نطلق النار على الرؤوس؟ هذا ما فعله النازيون، لا أصدق، لم أسمع.

الحجة الفلسطينية أم رسمي التي كانت شاهدة على مذبحة طنطورة

مرة أخرى، هي عقلية الإنكار التي ترفض الاعتراف بدموية الحلم الصهيوني، ففي أحد المشاهد يقول أحدهم: “نحن أمة نقية”، وهي الفكرة التي يريد الفيلم أن ينفيها تماما، ويطالب الإسرائيليين بضرورة مواجهة الماضي.

“لا يمكنك خلق مكان آمن لنفسك بصنع كارثة لشعب آخر”

يتحدث في الفيلم البروفيسور “أفنير جيلادي” من جامعة حيفا، ويقول: رفضت الجامعة أطروحة “كاتز” لأنها أرادت أن تسكته بأثر رجعي، وإزالة أطروحته من رفوف مكتبة الجامعة أمر شائن، في حين يوجد كتاب هتلر “كفاحي”، وعندما تنحاز الجامعة ضد أحد الباحثين في المحكمة، فهي بذلك تنحرف عن المبادئ الأكاديمية الأساسية.

ويتحدث في الفيلم أيضا البروفيسور “إيلان بابيه”، وهو من المؤرخين الجدد، وصاحب كتب كثيرة في نقد المشروع الصهيوني، منها “التطهير العرقي في فلسطين”، و”عشرة أساطير عن إسرائيل”، و”أكبر سجن في العالم: تاريخ الأراضي المحتلة”.

يصل “بابيه” في النهاية إلى لب الهدف من الفيلم نفسه الذي دفع المخرج إلى صنعه، فيقول: إن صورة إسرائيل عن نفسها أنها مجتمع أخلاقي هو أمر لم ير مثيلا له في أي مكان في العالم، فكرة أننا شعب الله المختار، وأن جيشنا هو أكثر الجيوش في العالم تمسكا بالقيم الأخلاقية، وأرى أنه من الصعب أن يقبل الإسرائيليون أنهم ارتكبوا جرائم حرب، وأساسا المشروع الصهيوني لديه مشكلة، فاليهود فروا من أوروبا بحثا عن مكان آمن، لكن لا يمكنك خلق مكان آمن لنفسك عن طريق صنع كارثة لشعب آخر.

والمغزى النهائي للفيلم أن إسرائيل تخشى أن تواجه تاريخها الدموي.