“أرض الميعاد”.. صراع على مرج قاحل في الأصقاع الإسكندنافية

لم يأخذ الفيلم الدانماركي “أرض الميعاد” أو “الأرض الموعودة” (The Promised Land) حقه في مقالات النقد وتسليط الضوء عليه، مع كونه واحدا من أهم الأفلام الملحمية الحديثة عن الاستيطان وتأسيس أوروبا.

يشي اسم الفيلم بكثير من المفاجآت، فهو يتحدث عن الفكرة المجردة للصراع على الأرض، بين من يريد تعميرها، وآخر يريد أن يثبت امتلاكها بتدميرها وتخريبها، مما يحيل إلى ما يحدث حاليا على أرض فلسطين، فلا يمكن أن تشاهد الفيلم دون أن يستدعي ذهنك مشاهد مما يحدث الآن بين الاحتلال الإسرائيلي والمقاومة الفلسطينية، خاصة مع مشاهد التعذيب والحرق والتدمير في الفيلم، مع فارق أن وسائل القتل في الاستعمار الحديث أكثر قسوة وإصابة للضحايا.

الفيلم دراما ملحمية من إخراج “نيكولاج أرسيل”، وسيناريو كتبه “أندرس توماس جينسين” و”نيكولاج أرسيل”، وقام ببطولته الممثل العبقري “مادس ميكلسن”، وهو مقتبس عن رواية “النقيب وآن باربارا” للكاتبة “أيدا جيسين”، وهو إنتاج مشترك بين الدانمارك وألمانيا والسويد.

عُرض الفيلم أول مرة في 31 آب/ أغسطس 2023 في الدورة الـ80 لمهرجان البندقية السينمائي، حيث نافس على جائزة الأسد الذهبي، وقد اختير حديثا ليكون مرشح الدانمارك لأفضل فيلم أجنبي في جائزة الأوسكار التي ستعلن نتائجها خلال أسابيع قليلة.

“لودفيج كاهلين”.. جندي مخضرم يسعى لإصلاح مرج قاحل

وقعت أحداث قصة الفيلم عام 1755، وتتلخص في وصول “لودفيج كاهلين” -وهو جندي مخضرم فقير متواضع المعاش- إلى مرج يوتلاند القاحل والخالي من السكان، لزراعة الأرض التي منحها له الملك على مضض، لأنه مرج عصي على الزراعة والإصلاح.

وكل ما يسعى إليه الجندي “لودفيج” هو إقامة بلاد جديدة يستوطنها سكان جدد، وبذلك يفوز بالثروة والشرف واللقب، وربما يغير قليلا قدره المجهول، وقد وافق الملك بشرط ألا يمول محاولاته تلك في إصلاح المرج، وأن يعتمد الجندي على ما يملكه.

هذا ما يحدث في الواقع، فبمجرد وصول “لودفيج” إلى الوادي يدخل في صراع مع “فريدريك دي شينكل” الإقطاعي الذي لا يرحم، فقد كان يحاول احتكار ملكية الوادي الشاسع، ومنع أي غريب من الاقتراب منه، مع أنه لا يقع تحت إمرته، بل ضمن أراضي الملك.

ترويض الأرض.. معركة ضد المكان والسيد المتسلط

يمكن أن نشاهد كل تفاصيل الفيلم من زاوية أخرى، ونراها معادلا موضوعيا لما يحدث في فلسطين من صراع الوجود المستمر الآن، ويتجلى بأقسى صوره في الحرب الحالية، ناهيك أن الفيلم بدأ عرضه في صالات السينما في سبتمبر/ أيلول الماضي، أي قبل شهر من بدء الحرب في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

الجندي المخضرم “لودفيج كاهلين” الذي ذهب إلى مرج يوتلاند القاحل والخالي من السكان لزراعته

يخوض هذا الجندي القوي المعتز بنفسه عدة معارك لإثبات قدرته على الإصلاح، سواء عبر زراعة الأرض البوار التي تعلوها طبقة حجرية ورملية ونباتات برية تبدو غير قابلة للتبديل، أو محافظته على حياة العاملين الوحيدين لديه، اللذين يختبئان من السيد الشرير “دي شينكل”، فهو يراهما عبدين هربا منه، ويعمل على استرجاعهما بشتى الطرق، وحين يعجز عن ذلك فإنه يلجأ إلى القتل، وفي النهاية تشتعل معركة مقاومة طرده من المرج بالشكل القانوني وغير القانوني.

ويفهم من سياق الفيلم والتاريخ أيضا أن سياسة بعض الحكومات الأوروبية في القرن الثامن عشر كانت تتمثل في دعوة المستوطنين الأجانب لزراعة الأرض والاستقرار بها، ومن هنا تتكون بلاد جديدة باكتشافها وإعادة إعمارها وزراعتها.

لكن من يستطيع ترويض المرج؟ هذه هو التحدي والسؤال الجوهري الذي يقوم عليه الفيلم، فمن يروض المرج يمتلك الأرض واللقب، ولا يتكرر ذلك في الحبكة ومسارها فحسب، بل في المشاهد والصور السينمائية الخلابة للمرج المترامي القاحل في كل فصول السنة، ويتوسطها “لودفيج” إما منتصبا على حصانه، أو راكعا على الحجارة، أو حارثا الأرض، يحاول عاما بعد عام ترويضها.

تناغم الإنسان مع الأرض.. حبكة الفيلم الرئيسة

يحيل سؤال الزراعة وترويض الأرض دائما إلى السكان الأصليين، وفي الحالة الفلسطينية فإن الفلسطيني لم ينفصل في تاريخه عن الأرض والزراعة والأشجار التي زرعها منذ مئات السنين قبل أن يحرقها ويجرفها المحتل، ثم يحاول أن يعمرها بطريقته، ويمسح تاريخا قديما للساكن الأصلي أو المستوطن الأول.

تتجسد الحبكة الرئيسة للفيلم في تحدي “لودفيج” لنفسه في قدرته على الزراعة، فقد أتى من ألمانيا بحبات البطاطس المرنة، إذ أنها قادرة على التكيف مع أي تربة، وتتحمل جميع الظروف ما عدا الصقيع، وهنا يظهر جوهر الفيلم، أي تناغم الإنسان مع الأرض اليباب وعيشه معها، ثم إصلاحها بعد ذلك لتصبح وطنه، حين يجعلها خضراء، ليصل الفيلم إلى الانفراج حين تنبت البطاطا.

ومع ذلك فإن الحبكات الفرعية الأخرى لا تقل أهمية عن الرئيسية، بل تتوازى معها في تعقيد أيضا، مما يشعرك أن الفيلم مكون من مكعبات متراصة، إذا سحبت أحدها انهارت القصة، لذلك فإنه يستمر ببالغ البراعة والحساسية بتقديم جميع الحكايات داخله، دون أن ينزاح بصرك لمدة تزيد عن الساعتين.

كلاسيكية الخير والشر المطلق.. صورة تلخص العالم

ومثل كل الأفلام الملحمية التاريخية، تظهر ثنائية الخير والشر بوضوح كبير، وأحيانا في صورة غير قابلة للتصديق، وربما نقول إن الأمور في الواقع لا تحدث بمثل هذه السذاجة، ولن ينصر العالم الشر إلى هذا الحد، لكن حين نعود إلى ما يحدث الآن في غزة، نعرف أن الأفلام هي صورة صغيرة عن حقيقة ما يحدث في الواقع الذي تمثل فيه الشر إلى أقصى درجاته، بل وقف العالم إلى جانبه في حين يباد شعب آخر بأكمله أمامه.

يتصاعد هذا الخير والشر في الفيلم حين يعاني “لودفيج” من قلة العمالة المتاحة، فيوظف “يوهانس إريكسن”، وهو أحد عمال الشرير “دي شينكل” الذي يعدهم جزءا من عبيده، وقد هرب من سوء المعاملة ومعه زوجته “آن باربرا”، وتؤدي دورها الممثلة “أماندا كولين”.

هنا تتصاعد حدة الفيلم إلى أوجها حين يستأجر الجندي بطل الفيلم المتشردين (فرع من رومانيا) عمالا، مع أن هذه الممارسة غير قانونية، ناهيك أن الألمان البيض الذين أتوا لاستيطان الأرض والمساعدة في تعميرها يرون العمال الرومان لعنة بسبب لونهم الغامق، ويطلبون التخلص منهم وإلا فإنهم سيرحلون.

معارك المرج.. فوضى يحركها عدم العقلانية

تصبح المعركة عير متكافئة من جميع النواحي، لكن يخوضها الجندي “لودفيج” ذو البدلات العسكرية القديمة بعناد، ويخاطر بحياته وعلاقاته وبالعائلة الصغيرة المضطربة التي نشأت من حوله في البرية.

إن خطة ترويض المرج وخلق أرض جديدة ووطن جديد، لا يدمرها سوى حقد وانتقام “دي شينكل”، وهو شخصية ذات حقد شخصي ونرجسية غير مفهومة، لا تختلف كثيرا عن الرغبة المجانية في التدمير لدى رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي “بنيامين نتنياهو”، مع فارق أن الأول ينتهي على يد ثواره، والأخير لم ينتهِ بعد.

فإذا كان عدم العقلانية هنا هو الدافع الدرامي في سيناريو “نيكولاج آرسيل” و”أندرس توماس جنسن”، فإنه في الواقع هو الدافع وراء تدمير واحدة من أجمل المدن الساحلية وقتل ما يزيد عن 25 ألفا، وتهجير ما يزيد عن المليون، وهنا نعود إلى مبارزة كلاسيكية بين الخير الخالص والشر الخالص حتى ينتصر أحدهما في الفيلم، لكن في الواقع بفلسطين أرض الميعاد الحقيقية، لم يحدث ذلك بعد.

حُب على جنبات الصراع.. فيلم فلسفي سيعيش طويلا

لا ننسى تسلل قصص الحب الرقيقة بين جنبات الصراع في ذلك المرج الإسكندنافي البارد بين “آن باربرا” و”لودفيج” بعد أن يقتل زوجها، وبين اليتيمة الرومانية “أنماي موس” التي تتعلق بـ”لودفيج” كوالدها، وهو الذي لا يريد شيئا سوى أن يحصل على لقب نبيل، ويتحدى الأرض القاحلة، لكنه يتخلى عن كل ذلك ويخضع في النهاية من أجل الحب.

إنه فيلم حركة وتشويق وفلسفة سيعيش طويلا كأغلب أفلام الممثل الدنماركي “مادس ميكلسن”، لا سيما أيقونته “جولة أخرى” (Another Round) الذي أُخرج عام 2020، ويأتي فيلمه الجديد بسيناريو معقد وثقيل، وحبكات كثيرة متداخلة.

ربما يثقل ذلك مصير الفيلم كثيرا في نهاية العام، لا سيما وقد استقبل العالم واحدة من أشد الحروب ضراوة في العصر الحديث، شنتها إسرائيل على قطاع غزة، كي تختفي هذه الدراما العظيمة وسط الدراما الحقيقية من الأحداث والأخبار، فلا يأخذ حقه من النقد والبحث، لكن بقي هناك أمل أن يأخذ حظه من الجوائز، فالتناص بينه وبين الواقع أكثر من حلم “أرض الميعاد”.