“20 يوما في ماريوبول”.. عدسات في ميدان المعركة يهدد الموت أصحابها

ربما لم ير العالم أبشع من صور الحرب على غزة، تلك المذبحة المتواصلة التي يتعرض لها الأطفال والنساء والشيوخ، ويمارسها الجيش الصهيوني أمام أنظار وصمت العالم، ولا شك أن غزة ستصبح نموذجا إنسانيا وشهادة حية على تواطؤ العالم، وهو نفسه العالم الذي أقام الدنيا ولم يقعدها بسبب الغزو الروسي لأوكرانيا.

هناك عشرات المصورين والصحفيين الفلسطينيين الذين ما زالوا يواصلون توثيق جرائم الجيش الصهيوني في غزة، وخصوصا ما ينقله على مدار الساعة مراسلو ومصورو قناة الجزيرة، مع أن عددا كبيرا من هؤلاء الصحفيين وقعوا ضحايا للقصف والقتل الممنهج.

“20 يوما في ماريوبول”.. حين أحكم الروس حصارهم للمدينة

وفي أوكرانيا هناك من ينقلون يوميا فظائع الحرب، لكن الفيلم الأوكراني الجديد “20 يوما في ماريوبول” (20 days in Mariupol) الذي أُنتج عام 2023 يعد حالة شديدة الخصوصية، فهو أولا نتاج شجاعة عدد محدود من المصورين والصحفيين التابعين لوكالة أنباء عالمية، أصروا وعلى رأسهم مخرج الفيلم “ميتسلاف شيرنوف” على البقاء في مدينة ماريوبول الساحلية جنوب أوكرانيا، يوثقون أحداث 20 يوما قاسية، من الفترة ما بين 24 فبراير/شباط إلى 16 مارس/آذار 2022، أي منذ دخول القوات الروسية أوكرانيا، إلى حين أحكم الروس حصارهم للمدينة، ليقدموا توثيقا للأيام التي سبقت استهداف المدينة، ثم ما تلا ذلك من قصف عنيف استهدف المباني السكنية والمستشفيات والمصانع، وما نتج عن ذلك من المآسي الإنسانية الهائلة، ثم اقتحام الدبابات الروسية المدينة، وتهجير عدد كبير من سكانها خارجها.

الفيلم وثيقة دامغة على وحشية الغزو الروسي، وكل لحظة من اللحظات التي يوثقها هذا الفيلم تستدعي إلى الأذهان ما يحدث في غزة على نطاق أكبر وأكثر وحشية، لكنه مع ذلك يظل توثيقا هائلا لمأساة الإنسان في الحرب، ولا سيما ما يتعرض له الأطفال والنساء من جرائم ضد الإنسانية، بحيث تصبح المشاهدة في بعض الأحيان نوعا من التعذيب النفسي الشديد.

وبسبب صوره الاستثنائية والأخطار التي تعرّض لها صانعوه خلال فترة حصار ماريوبول، حتى كادوا أن يفقدوا حياتهم لولا أنهم نجوا بمعجزة؛ فقد أصبح الفيلم أحد الأفلام الوثائقية المرشحة لنيل جائزة الأوسكار عام 2024.

واجب الصحافة.. تصوير في بيئة يهددها القناصة

لم يكن “تشيرنوف” وحده، بل كان معه زميله المصور “إيفجيني مالوليتكا”، وزميلته المنتجة “فاسيليا ستيبانكو” يعايشون حالة الحصار الذي فرض على المدينة، والقصف العنيف الذي أدى إلى هدم المنازل، ونزوح السكان، وهبطوا مع الأهالي المذعورين إلى الملاجئ البدائية التي لم تسلم أيضا من القصف، يحاولون التستر وحماية أنفسهم، لكنهم مع ذلك يقتنصون كل فرصة تتاح لهم لتوجيه سؤال إلى امرأة تسير وحدها شاردة في الشارع، مع كل ما يحيط بها من دمار وموت، وما يمكن أن تتعرض له من استهداف مباشر من القناصة الروس، فهي ذاهلة تبحث عن ولدها الذي فقدته.

ولا يفوت “تشيرنوف” أيضا الفرصة لكي يوقف رجلا يجر عربة صغيرة وضع عليها بعض أغراضه المنزلية بعد أن تهدم بيته، لكنه كان لا يعرف إلى أين يذهب بالضبط، يسأله عن اسمه وعما حدث له ولبيته، ثم يتجه لتصوير طفل يصرخ قائلا إنه لا يريد أن يموت، لكن الأكثر قسوة لم يأتِ بعد.

نشاهد امرأة تصرخ، بينما يحمل رجال الإسعاف ابنها الذي فقد ساقه بفعل شظية وهو يلعب الكرة، وطفلا رضيعا يحاولون إسعافه دون جدوى، فيلفظ أنفاسه بين أيديهم، وامرأة حبلى يهرعون بها إلى غرفة العمليات، أو ما بقي منها في جوف مستشفى النساء، لكنها تفقد طفلها ثم تلفظ آخر أنفاسها.

القصف المباشر للمباني السكنية في ماريوبول

ووسط كل هذه المشاهد المضنية التي يعايشها صناع الفيلم، وقد أصبحوا جزءا من الحالة الإنسانية، فإن واجبهم المهني يفرض عليهم مواصلة التصوير، والتوقف أمام الحالات الإنسانية الصعبة، ومطاردة الكثير من الأشخاص يحاولون أن يعرفوا من هم، وماذا حدث لهم ولأبنائهم وبيوتهم، وإلى أين هم ذاهبون، والأهم أنه يحاول باستمرار العثور على وسيلة لإرسال ما يصوره خارج البلاد بواسطة هاتف محمول يعمل بالأقمار الصناعية.

“لم نتخيل قط أن البلاد كلها ستتعرض للهجوم”

في الفصل الأول من الفيلم يخبرنا “تشيرنوف” أنه يتخذ لنفسه مقرا في غرفة بالطابق السابع من المستشفى الوحيد الذي ظل يعمل في المدينة، يراقب منه ويتطلع إلى ما أصاب المباني السكنية في المدينة من دمار، ويتساءل كم من الوقت يمكنه البقاء في هذا الموقع، قبل أن تصل القوات الروسية، وهو يعرف أيضا أنهم لن يتركوه وشأنه، فهو أحد أبناء البلاد، أوكراني من مدينة خاركيف، انقطعت صلته بأسرته وأبنائه، بعد أن فرض الجيش الروسي حصارا على الطرق، وقطع الكهرباء والماء والاتصالات الهاتفية والإنترنت، مع شح الطعام وندرة المواد الطبية. ألا يذكرنا هذا كله بما يرتكبه الجيش الصهيوني في غزة؟

من نافذة الطابق السابع يتطلع “تشيرنوف” إلى الثلوج التي تنتشر تغطي الأفق، وأعمدة الدخان التي تتصاعد من المباني المحترقة، ويأتي صوت عبر جهاز اتصالات لاسلكي: هناك دبابة روسية مرسوم عليها حرف زد.. هل تراها؟

يجيب الضابط الموجود في الغرفة وهو يمسك بجهاز اللاسلكي في يده: إنني أراها جيدا، هناك رتل من الدبابات الروسية أمام الكنيسة قرب محطة الحافلات. لقد دخل الروس. ثم تنقلب الصورة، وتهتز، فالمصور يخشى أن يشاهده قائد الدبابة التي أصبحت قريبة الآن.

السيدة الحامل التي فقدت جنينها وستفقد حياتها

هذا المشهد الذي يبدأ به الفيلم هو ما سنعود إليه قرب النهاية، فهو ينذر باقتراب القوات الروسية من المستشفى، ولذا يتعين على “تشيرنوف” وفريقه الابتعاد والبحث عن وسيلة للخروج من ماريوبول مع المحافظة على المواد التي صوروها.

يخبرنا “تشيرنوف” في اليوم الأول من خلال التعليق الصوتي بصوته الرصين الهادئ: قال لي أحدهم ذات مرة إن الحرب لا تبدأ بالقنابل بل بالصمت.

ثم يروي أنه وفريقه قرروا من قبل أن تبدأ الحرب أن يأتوا إلى ماريوبول، لأنه كان موقنا أن المدينة ستصبح هدفا رئيسيا للروس، “ولكننا لم نتخيل قط أن البلاد كلها ستتعرض للهجوم”.

دمار وموت وجثث ومقابر جماعية.. واقع يكذب الدعاية

في الفيلم صور كثيرة مباشرة للقصف والحرائق والموت والجرحى من النساء الحوامل والأطفال الرضع، أشلاء ممزقة، وأطراف مبتورة، وسيارات مشتعلة، لكن من أكثر المشاهد الصادمة مشهد المقابر الجماعية التي تضطر فرق الإنقاذ إلى إلقاء الجثث فيها، حفرة كبيرة في الأرض، يلقون فيها عشرات الجثث في ملابسها الأصلية. ويقول لنا صوت “تشيرنوف” قرب النهاية إن تقديرات المنظمات الدولية تشير إلى مصرع أكثر من 25 ألف قتيل في المدينة.

من حسن حظ “تشيرنوف” أن يلتقي بضابط شرطة أوكراني في المدينة، يؤمن كثيرا بأهمية العمل الذي يقوم به “تشيرنوف” وفريقه، ويبذل كل جهده لمساعدتهم في العثور على مكان يمكنهم أن يلتقطوا فيه إشارة الأقمار الصناعية، حتى يتمكنوا من إرسال الصور التي كان يقسمها “تشيرنوف”، بحيث لا تستغرق كل صورة منها أكثر من بضع ثوان فقط، حتى يمكن إرسالها بسرعة قبل أن تنقطع الإشارة.

مخرج الفيلم “ميتسلاف شيرنوف”

ومن هذه الصور تولّف المونتيرة “ميشال ميزنر” الفيلم، فتصنع منها بناء جدليا مركبا، في القلب منه ما يقع للبشر، وفي لحظات كثيرة مفصلية، يستعيد الفيلم نفس ما صُوّر على أرض الواقع، بعد أن أصبح مادة تبثها محطات التلفزيون الدولية، مثل مشهد المرأة الحامل الممددة على نقالة وهي تنزف، والجنين الذي توقف قلبه عن العمل وهم يحاولون إنقاذه، ومشهد الطبيب الذي اصطحب “تشيرنوف” إلى غرفة تحت أرض المستشفى مليئة بالجثث، مع مشاهد أخرى كثيرة للدمار المباشر الذي لحق بالمباني السكنية، تتقاطع في تناقض مقصود مع تصريحات المسؤولين الروس بأنهم لم يستهدفوا قط السكان المدنيين ومنازلهم.

نهب المحلات.. تُخرج الحرب أفضل وأسوأ ما في الناس

على شريط الصوت يقول “تشيرنوف” إن الحرب تجعل السيئين أسوأ مما هم عليه، والطيبين أفضل مما كانوا، أي أن الحرب تُخرج أفضل وأسوأ ما في الإنسان.

يتجسد ذلك في مشهد جموع من الشباب يحطمون واجهات المحلات التجارية ومراكز التسوق، ويستولون على كل ما يمكن أن تناله أيديهم، في حين تصرخ فيهم امرأة أن يتوقفوا عما يفعلونه، ويحذرهم رجل من أن هذه المحلات هي لهم، ولمدينتهم التي لن يتركوها، لكن الفيلم يقول لنا أيضا إن سياسة الروس كانت ترمي إلى إخلاء المدينة من أكبر عدد من السكان، حتى تسهل لهم السيطرة عليها.

جانب من العيش تحت القصف في ماريوبول الأوكرانية

وتقول التقديرات إن نحو 60-70% من السكان قد غادروا ماريوبول، ونزح ثلاثة ملايين شخص من أوكرانيا إلى الخارج بسبب الحرب، ومع ذلك فقد وجد هؤلاء من يستقبلهم استقبالا جيدا في البلدان المجاورة.

مغادرة المدينة.. خاتمة سعيدة بعد أخطار جسيمة

هذا الفيلم عن مأساة السكان الجماعية في مدينة شاءت الأقدار أن تكون الأولى في مرمى نيران الجيش الروسي، ولا سيما مجمع مصانع الصلب “آزوفستال” الذي تعرض للدمار، لكنه أيضا فيلم عن أخطار العمل الذي يقوم به الصحفيون وقت الحرب، ولعل في نهاية الفيلم المثيرة ما يجسد هذا الخطر بأفضل ما يكون.

يركب “تشيرنوف” ورفيقاه سيارة أعطاهم إياها ضابط الشرطة، يخبئون الكاميرا والشرائط المصورة تحت المقاعد، يمرون عبر أكثر من نقطة تفتيش للقوات الروسية، ولو اشتبهت القوات في طبيعة مهمتهم لكانت نهايتهم حتمية، لكنهم استطاعوا مغادرة المدينة المنكوبة مع قافلة من سيارات السكان الذين غادروا بعد أن لم يبق لهم فيها شيء.

“20 يوما في ماريوبول”.. كيف سيتعامل العالم مع ما يحدث في غزة؟

“20 يوما في ماريوبول” وثائقي شديد القوة والتأثير، وجد اهتماما كبيرا، وعُرض في المهرجانات ودور العرض السينمائي في المدن الأوروبية، ويبقى أن ننتظر ما يمكن أن يخرج من قلب المأساة التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة، وكيف سيتعامل معها العالم.

أما في الوقت الحالي، فالأهم هو موقف العالم مما يحدث هناك على الأرض، فالأفلام لا تصنع لكي يتجاهل ما فيها، بل لكي تدفع إلى اتخاذ مواقف فعالة. وحاليا يكفي ما يشاهده العالم من تقارير إخبارية تتدفق يوميا عن جرائم الاحتلال الصهيوني ضد شعب ينشد الحرية.