ليبيا.. نغمة مُصالحة.. هل تتوحد البلاد من جديد؟

بلادي مليانة وُدّ
نحنا محتاجين دفاها
تِبّي اللي يبني ما يهدّ
شرق وغرب جنوب تباها

تعاني ليبيا من أزمة ثقة بين قبائلها ومدنها شرقا وغربا، ويمتد ذلك إلى أزمان بعيدة، منذ فترة الحكم العثماني التي استمرت أكثر من 400 عام في ليبيا، وتعمقت هذه الخلافات حتى أصبحت صراعات دامية خلال فترة الاحتلال الإيطالي ثم البريطاني للبلاد. ويكون السبب عادة هو استمالة الحاكم الأجنبي لشخصيات وقبائل، واستخدامهم لتحقيق مصالحه على حساب البلاد وأهلها.

ولم يخلُ الزمن الليبي من محاولات للمصالحة الأهلية والسلم المجتمعي، قادتها شخصيات وطنية وحركات إصلاحية، سطّرت بمداد من نور أنصع صفحات لَمّ الشمل وتناسي الخلافات والأحقاد القديمة، وهو ما تناوله هذا الفيلم الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية، وعرضته على شاشتها تحت عنوان: “ليبيا.. نغمة مصالحة”.

مبادرات الشباب.. دعوة تستحضر التاريخ لإبرام المصالحة

في هذه المبادرة الشبابية الرمزية للمصالحة الوطنية، يدرس الشاعرُ الشعبي أحمد التركاوي العبيدي الموروثَ الشعبي الليبي حول مبادرات المصالحة الوطنية، التي ظهرت بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وقد تولى كتابة الكلمات للملحمة الشعرية المغنّاة، ثم درست الملحنةُ وفاء الرويعي الشقَّ الأكاديمي لهذه المبادرات، وأعدّت اللحن المناسب للقصيدة، فالوطن بحاجة لمساهمات الجميع، لإيجاد حلول تحقق المصالحة الوطنية بين الشرق والغرب الليبي.

الشاعر الشعبي أحمد التركاوي العبيدي والملحنة وفاء الرويعي

بموجب معاهدة “أوشي لوزان” الأولى 1912، تنازلت تركيا عن ليبيا للإيطاليين، فنفذت القوات الإيطالية عمليات إنزال كبرى على السواحل الليبية، فواجهتها مقاومة عنيفة وشرسة من الأهالي ومجموعات المجاهدين. وقد بدأ الإنزال في طبرق والخُمس ودرنة وبنغازي، فواجهه المجاهدون الليبيون في معارك ذات مسحة دينية، فلا إدارة ولا دولة آنذاك، وإنما هي حَميّة الدين، وقد قاد المقاومة مشايخ الزوايا السنوسية.

وقد كانت الزوايا السنوسية بمنزلة الحاكم الإداري لكل لمنطقة تكون فيها، فتصلح بين الناس وتعاقب المعتدي، وتعلّم الناس أمور دينهم وتحفّظهم القرآن، وتحضهم على جهاد الأعداء الإيطاليين.

في ضيافة أصحاب الذاكرة التاريخية لليبيا

وكان العثمانيون قد أوقعوا أحمد الشريف السنوسي في ورطة، حين كلّفوه بالهجوم على القوات الإنجليزية في مصر التي يقودها نوري باشا -وهو أخو أنور باشا وزير الحربية- فخسر الشريف الحرب، وأغلقت بريطانيا الحدود المصرية الليبية، وكانت المصدر الوحيد لتموين الليبيين، وكان ذلك بين 1912-1915، وبذلك خرج أحمد الشريف من المشهد الليبي، وظهر من بعده محمد إدريس السنوسي، فشرع في مفاوضات مع الإنجليز والطليان، بغرض فك الحصار عن ليبيا.

الاحتلال الإيطالي.. عصر التنكيل وتمزيق اللحمة الوطنية

في بداية عشرينيات القرن الماضي، وتحديدا عام 1922، كانت الانطلاقة الحقيقية لشيخ المجاهدين عمر المختار ورفاقه، وكان الشيخ قبلها يتدرب في “دور بنينا” مع مجموعة من الضباط العرب في الجيش التركي، ممن رفضوا مغادرة ليبيا بعد معاهدة لوزان، يومها نزلت إيطاليا بكل قواتها وإمكانياتها العسكرية، وفتحت جبهات عدة مع المجاهدين الليبيين.

وكانت في برقة خطة لتجنيد الليبيين في الجيش الإيطالي، حيث طلب القائد الإيطالي “جوزيبي داوديتشي” من مشايخ برقة -وهم حوالي 45 شيخا- الحضور لاجتماع في منطقة المرج، وطلب من كل قبيلة تجنيد 100 من رجالها. وردّوا بأن يمنحهم فرصة للتشاور، وحين ناقشوا الأمر بينهم استقروا على عدم الاستجابة للطلب، وأرسلوا اثنين منهم ليبلغوه قرارهم.

مشايخ برقة يرفضون عرض القائد الإيطالي في طلب تجنيد 100 من رجال كل قبيلة

غضب “داوديتشي” لقرار مشايخ برقة، وأرسل قواته إلى شيوخهم لاعتقالهم وجلبهم مكبلين إلى بنغازي، ثم أرسلهم إلى حصن إيطالي قديم في جزيرة أوستيكا، ومنعهم من التواصل مع الناس، فمكثوا هناك 3 سنوات.

للوطن حكاية وموّال
تنادوا للجهاد رجال

أرواح تصون
تدافع عن الوطن وما تخون

ضحوا بالنفس وبالمال

فرّق تسد.. سياسة ذات آفاق تتجاوز حدود الاحتلال

بعد أكثر من 226 اشتباكا بين عمر المختار والمحتل الإيطالي في الجبل الأخضر خلال 20 شهرا، أصبحت لدى الإيطاليين قناعة أنه لا يمكن القضاء على المقاومة الليبية بالطرق التقليدية، مثل هذه الحروب والغزوات والفرق التي تطارد عمر المختار ومجاهديه، فلجؤوا إلى السجون الجماعية والتجويع، فجعلوا كل 100 بيت سجنا لساكنيها.

وقد نصّب الطليان على هذه السجون حرسا من الليبيين أنفسهم، يشرفون على تجويع تلك العائلات وتعذيبها وإعدام بعض رجالها، وكان هؤلاء الحرس الخونة على تواصل مع المحتل الإيطالي، يزودونه بالتقارير عن السجناء، وبسبب ذلك أصيب الناس بألوان من المرض من الجوع ونقص الغذاء.

أكثر من 226 اشتباكا بين عمر المختار والمحتل الإيطالي في الجبل الأخضر خلال 20 شهرا

وكان كثير من الليبيين قد تعاونوا مع الطليان بالإكراه، وبعضهم طوعا، وهؤلاء هم من نفذوا أحكام الإعدام والنفي والتجويع والتهجير بحق إخوانهم وبني جلدتهم، وهناك قلة آخرون تعاونوا مع الطليان لنصرة المجاهدين، بما يستطيعون من أخبار ومؤامرات العدو.

ثم جاء إعدام عمر المختار في سبتمبر/ أيلول 1931، وأُجبِر الناس على حضور إعدامه، لبثّ الرعب في قلوبهم وإضعاف عزيمة المجاهدين عن مواصلة القتال، ولكن النتائج جاءت على عكس ما يشتهيه المحتل الإيطالي، فأثار هذا المشهد عزائم الرجال لمواصلة المقاومة.

استسلام معظم الليبيين للقوات البريطانية في الحرب العالمية الأولى وسجنهم في مخيمات خاصة

وفي 1939، بدأت الحرب العالمية الثانية، وتحرك الجيش العاشر الإيطالي بقيادة “إيتالو غاريبولدي” باتجاه مصر، وكان فيه عدد كبير من الليبيين، وفور الاشتباك مع الإنجليز في مصر استسلم معظم الليبيين للقوات البريطانية، لكونهم لم يكونوا أهل قتال، بل مجموعات من المرتزقة ليست ذات عقيدة ولا تدريب.

وقد أتاح الإنجليز للأمير محمد إدريس السنوسي أن يلتقي بهؤلاء الأسرى، وأخبرهم أنه بصدد تشكيل جيش ليبي يدخل الحرب لصالح الحلفاء، فتأسس جيش التحرير السنوسي في 1942، ودخل ليبيا مع جيوش الحلفاء، بعد طرد جيوش المحور الألمانية والإيطالية من برقة، وكان السنوسي قد أخذ وعدا من الحلفاء باستقلال ليبيا وإنشاء الدولة الحديثة.

رأب الصدع الليبي.. معركة أخرى من معارك الوطن الكبرى

كان الهمّ الثاني الذي يشغل السنوسي هو المصالحة الوطنية بين شرق ليبيا وغربها. يقول الشيخ علي السنوسي المنصوري -وهو ابن أحد الموقِّعين على ميثاق الحرابي-: حكمت تركيا ليبيا مدة 400 سنة، وأكثر النزاعات والحروب بين أبناء ليبيا حدثت في العهد التركي مع الأسف، فخلّف ذلك ثارات ومطالب امتدت إلى ما بعد استقلال ليبيا.

ملك ليبيا محمد إدريس السنوسي 1952- 1969

ثم يضرب لذلك المثل قائلا: نحن مثلا -أبناء العبيدات والبراحصة- قد أشرف على الصلح بيننا رجالُ الدعوة السنوسية، وأحصينا من البراحصة حوالي 99 قتيلا، وقد سامحنا وتنازلنا عن حقوقنا فيهم، وكان هذا الصلح من أحسن وأدوَم حالات الصلح، وانقلب إلى أطيب علاقة بين القبيلتين. وهنالك أنواع أخرى من العداوات، كالعداوة التي نشأت بين المجاهدين والمتعاونين مع الطليان، وكذلك الثارات والعداوات الشخصية على الأراضي مثلا.

بعد طرد آخر جندي من معسكر المحور، أصبحت ليبيا تحت حكم الإنجليز، وهنا صارت الفرصة مهيأة لبعض الليبيين لأخذ الثأر والانتقام من ليبيين كانوا موالين للطليان، وتسببوا في قتل أو تعذيب أو نفي ليبيين أو مجاهدين من بني جلدتهم.

رسالة من الأمير ابن إدريس إلى مشايخ مدينة المرج يحثهم على العفو والتسامح ونبذ العنف

وقد علم الأمير محمد إدريس أن إثارة مثل هذه القلاقل في هذا الوقت، سيساهم في تعطيل أو تأخير حلم إقامة الدولة الليبية، فأمر الشيخ بوبكر بذّان أن يجتمع مع بعض المشايخ في مدينة المرج، ويوصل لهم رسالة من الأمير، مفادها الحث على العفو والتسامح ونبذ العنف، والتخلي عن الثارات، والنظر للمستقبل، من أجل قيام الدولة الليبية المستقلة.

ميثاق الحرابي.. صلح يؤجل الخلافات في سبيل الاستقلال

في 18 أبريل/ نيسان 1946، اجتمع المشايخ بجمعية عمر المختار في درنة، للتوقيع على “ميثاق الحرابي” بين قبائل الحرابي في منطقة الجبل الأخضر، وبين سكان مدينة درنة، ويتكون الميثاق من خمس نقاط تدعو إلى السلم الأهلي وتأجيل فض الخلافات. وكان الموقعون على الميثاق يمثلون 6 قبائل متحاربة، وهم العبيدات والبراحصة والدْرِسة والحاسة والفوايد وولاد حمد.

وفي درنة كانت جمعية عمر المختار الحريصة على الاستقلال، والعنصر الفاعل فيها هو علي حامد باشا العبيدي. وهناك في برقة كانت الأنظار تتجه نحو إقامة جمهورية ضد الملكية وضد الدعوة السنوسية، ولكن في النهاية جمعهم ميثاق الحرابي الذي ركّز على الاستقلال أولا، مع تأجيل النظر في شكل الدولة وكيفية إدارتها.

ورقة من ميثاق الحرابي تحمل تواقيع وبصمات شيوخ القبائل الذين وافقوا على الميثاق

وتتلخص بنود ميثاق الحرابي في النقاط الخمس التالية:

أولا: إقرار الميثاق الوطني الذي توصلت إليه الهيئة التأسيسية في بنغازي.

ثانيا: إيقاف جميع الخصومات والنزاعات، لتأليف القلوب وتوحيد الجهود في سبيل بناء الدولة.

ثالثا: بعد بناء الدولة وإرساء مؤسساتها، يمكن لأصحاب الحقوق المشروعة أن يطالبوا بحقوقهم عبر قنوات الدولة الرسمية.

رابعا: تأجيل المطالبة بالحقوق لما بعد الاستقلال.

خامسا: كل من يخالف هذا التعهد يعد معرقلا لمساعي الأمة، ومثبطا لجهادها في سبيل الحرية والاستقلال.

محمد إدريس.. جهود أمير ذي مكانة في قلوب الليبيين

كانت للدعوة السنوسية وللأمير محمد إدريس مكانة خاصة في قلوب الليبيين شرقا وغربا، سواء أكان هذا التقدير للمنزلة الدينية والروحية لهذه الجماعة، أو لجهادهم ومقاومتهم للمحتل الإيطالي، أو لدعوات المصالحة والسلم الأهلي التي دعا لها الأمير وباركتها الدعوة السنوسية.

ويميل المجتمع الليبي بفطرته وطبعه وببنائه القبلي، واجتماعه على الأعراف التي وضعها حكماء القبائل، إلى التصالح ونبذ الخصومات والتعالي على الجراح الشخصية في مقابل مصلحة الدولة والجماعة، ولذلك وجدت دعوة المصالحة التي دعا لها الأمير إدريس تربة صالحة في أوساط القبائل الليبية.

وبعد هزيمة إيطاليا وخروجها من ليبيا أصبحت برقة إمارة يحكمها الأمير محمد إدريس السنوسي، في حين خضع الغرب الليبي للانتداب البريطاني، ولكن كان هنالك تنسيق بين الأمير والإنجليز، فكانوا يدربون الليبيين على إدارة دولتهم المستقلة في المستقبل.

مصالحة اليوم.. حلم منوط بالنية الحسنة والإرادة القوية

السؤال المطروح اليوم، هل يمكن أن تتكرر تجربة ميثاق الحرابي للسلم الأهلي في ليبيا اليوم؟

يجيب الكاتب والمؤرخ محمد بوسويق أن ذلك مرهون بعوامل داخلية وأخرى خارجية باتت تحكم المجتمع الليبي اليوم ولم تكن موجودة في السابق، فلقد تغيرت ثقافة الناس، ولم تعد الظروف السياسية العالمية على حالها، كما أن الظروف الاقتصادية -لا سيما بعد ظهور النفط- جعلت ليبيا منطقة تجاذبات عالمية معقدة.

ومنذ ثورة 2011 على نظام القذافي، لا تزال ليبيا بحاجة إلى جهود خلاقة، من أجل مصالحة وطنية وسلم مستدام، لكن تداخل المصالح المحلية والإقليمية والدولية في الشأن الليبي تجعل ذلك الحلم بعيدا، ولكنه ليس مستحيلا، بل يحتاج الأمر إلى رجال مخلصين، يحبون وطنهم ويقدمونه على مصالحهم ورغباتهم الآنية.

ليبيا بانتظار مصالحة وطنية تلم شمل الليبيين جميع

فوجود السلاح في أيدي فئات معينة من الشعب، وما يرافقه من انفلات أمني في بعض المناطق هو من العقبات التي تحول دون اجتماع كلمة العقلاء، والمطلوب وجود حس وطني قوي، تقف خلفه إرادة حازمة، وهنالك مقومات موجودة وقوية لمثل هذا الميثاق، منها أواصر القربى وعلاقات النسب والمصاهرة بين الشرق والغرب.

فالليبيون شعب متجانس، والمشاكل بينهم مصطنعة، فتحديد العاصمة وشكل نظام الحكم وغيرها من القضايا المُثارة يمكن حلها في جلسات حوار وطني شامل، على شرط أن يوجد حُسن النيات والإرادة الحقيقية للإصلاح.

ينتهي الفيلم بتقديم أغنية وطنية كتب كلماتها الشاعر أحمد التركاوي، ولحنتها وفاء الرويعي، مساهمةً منهما في بث الأمل في نفوس الليبيين، وإثبات أن حلم الوحدة والمصالحة الوطنية ما زال قابلا للتحقيق:

للوطن وبالوطن نكون
غلا مضمون
غلا ما يجيبه مال الكون
للوطن وبالوطن نسير
عوار كبير
البيت يكون نباه شهير