“القدس.. المدينة والتهويد”.. خطة الاحتلال لمسح ذاكرة العاصمة المقدسة

لماذا تصر إسرائيل على جعل كل تلال مدينة القدس مستوطنات؟ سؤال يلح على كل فلسطيني، ويجيب عليه خالد عزب عبر 171 صفحة في كتابه المعنون “القدس.. المدينة والتهويد”.

يستهل الكتاب بمقدمة مباشرة إلى صلب الموضوع حول برامج التوطين الإسرائيلية، مع إشارة إلى تعدادات اليهود مقابل السكان العرب، فقد ربَت على 230 ألف يهودي يسكنون القدس الغربية، مقابل 190 ألف يسكنون القدس الشرقية، وهذه المعادلة مرشحة للانقلاب في الأعوام القليلة المقبلة، فابتداء من العام 2003 صار تعداد السكان اليهود في القدس الشرقية أعلى منه في القدس الغربية، وأغلب هؤلاء الذين في القدس هم من اليهود الأرثوذوكس.

المستوطنات الإسرائيلية تلف مدينة القدس من جميع جبالها

يقول خالد عزب في مقدمة كتابه: ظلت القدس على مدار أربعة آلاف عام رمزا للقداسة والسلطة السياسية، وعلى امتداد هذا الردح من الزمن، دأب الذين سادوا المدينة المقدسة على تشكيل وجهها المعماري وإعادة تشكيله مرارا، لتوجيه رسائل ذات دلالة على القوة الإلهية، وعلى قوتهم هم أيضا. لذا فالمستوطنات التي تطوق المدينة، تهدف إلى طبع صورة ذهنية، أن هذه المدينة مدينة يهودية وليست عربية.

ألاعيب التهويد.. تحريف المفاهيم وتزييف الحقائق

يقدم المؤلف مدخلا إلى تهويد القدس يسرد فيه تاريخ عملية التهويد في فلسطين منذ عام 1948م، وقد زادت حدّتها واتسع نطاقها منذ يونيو/ حزيران 1967م. مشيرا إلى أن السياسة الإسرائيلية ارتكزت على محاولة تغيير طابع المدينة السكاني والمعماري بشكل بُنيوي، فاستولت السلطات الإسرائيلية على معظم الأبنية الكبيرة في المدينة، واتبعت أسلوب نسف المنشآت وإزالتها لتحل محلها أخرى يهودية، كما استولت على الأراضي التي يمتلكها عرب وطردتهم ووطّنت صهاينة بدلا منهم.

وألمح المؤلف إلى أن التهويد الثقافي والإعلامي هو أحد المحاور الهامة في مخططات تهويد القدس، ويمس هذا التهويد تراث المدينة بدرجة كبيرة، ذلك لأنه التعبير الحي عن هويتها، لذا بات التراث هاجسا يمس بصورة يومية المقولات اليهودية الدارجة حول المدينة، بل تحول إلى قلق دائم لدى اليهود الذين يحاولون من آن لآخر الإجابة على التساؤلات المطروحة أمامهم، حول تاريخ القدس وتراثها ومدى يهوديتها.

مطاعم إسرائيلية تسرق الوجبات التراثية الفلسطينية وتقدمها كوجبات إسرائيلية

وللتهويد الثقافي والإعلامي صور شتى، منها التربوي، ومنها ما يمس مفاهيم ماهية القدس وحدودها، ومنها ما يتعلق بتزييف الحقائق التاريخية حول مدى قدسية القدس لدى اليهود، ومنها ما يمس حقيقة الهيكل، وهل له مكان ثابت مقدس يجب أن يبنى فيه.

علم الآثار.. سلاح استغله اليهود وتجاهله العرب

استعان اليهود بعلم الآثار، واتخذوه وسيلة لتدعيم تصوراتهم حول القدس، فاكتشاف الماضي يوفر عاملا حاسما في بناء الهوية السياسية أو تأكيد الحاضر، وهو ما يوفره علم الآثار لليهود، ولذا نراهم يحرصون على أن تكون جميع الرموز الوطنية الإسرائيلية مستمدة من عناصر ذات طبيعة تراثية، مثل شعار الدولة، والأوسمة والنياشين، وطوابع البريد والنقود.

وعلى الجانب الآخر ما زال العرب مغيبين في مجال الدراسات الأثرية التي تتعلق بفلسطين خاصة في عصور ما قبل التاريخ، وهي التي يركز عليها اليهود حاليا لإثبات وجودهم في فلسطين بصفة عامة، والقدس بصفة خاصة.

غلاف كتاب “القدس.. المدينة والتهويد”

بل إن التركيز على تراث المدينة الإسلامي لم يخرج عن الحرم القدسي، ولذا بات من المُلحّ الاهتمام بهذا المجال، واتخاذه جزءا من الخطاب السياسي الإسلامي والعربي الخاص بالقدس، ويؤكد المؤلف أننا نستطيع -من خلال وثائق القدس وآثارها المعمارية الإسلامية والمسيحية التي ما زالت باقية إلى اليوم- أن نرسم صورة متكاملة للقدس في العصور المختلفة، وتحديد ملكية أراضيها خاصة ما يقع في ملكية الأوقاف منها.

تقسيم القدس.. أكذوبة يكررها الساسة ووسائل الإعلام

مما يساعد على رسم الصورة المتكاملة للقدس خلال تاريخها، أن الأوقاف وسجلات محكمة القدس الشرعية تحدد حدود كل منشأة وأبعادها، والطرق التي تقع عليها، ومكوناتها، والأراضي التي وقفت عليها إن كانت منشأة دينية أو خيرية أو منشأة اقتصادية تدر ريعا. وقد فهم اليهود أهمية وثائق القدس فاستولوا في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1991م على بعضها من مبنى المحكمة الشرعية في المدينة.

القدس.. المدينة القديمة، مستوطنون في كل مكان

ويذكر المؤلف خالد عزب أن الصورة الآن هي صورة قدس جديدة، رأى اليهود أن تشيع في العالم، من خلال الكتاب الذي يقدم مسار رحلة الحج التاريخية إلى مسيحيي العالم كما رآها رحالة في القرن الـ19، وهذه الصورة هي للقدس عاصمة إسرائيل الأبدية، والتي سعى اليهود إلى تكريسها حتى أصبحنا نحن العرب نتقبل جانب من هذه المقولات، ونراها حقيقة صادقة لا تقبل النقاش، فالقول بوجود قدسين شرقية وغربية أشبه بالهراء، إذ لا توجد سوى قدس واحدة، وهي المدينة القديمة وضواحيها، وهي عاصمة فلسطين المحتلة.

ومنشأ شيوع هذا الخطأ هو السياسيون ووسائل الإعلام، إذ كانت القدس حتى عام 1917، ومنذ ذلك التاريخ بدأت الهوية العربية للقدس في التغير، واغتصب اليهود القدس.

أبنية المدينة.. بصمات العمارة الإسلامية على الحجر

جاء الفصل الأول من الكتاب “المدينة وتراثها المعماري” ليتحدث عن المدينة القديمة، حيث تبلغ مساحة القدس ضمن الأسوار كيلومترا مربعا واحدا، ويشغل الحرم الأقصى الشريف منها ما يقارب 500×300 متر مربع في الناحية الجنوبية الشرقية، وهذه المساحة هي البؤرة الرئيسية للمدينة.

ويحيط بالمدينة سور حجري مرتفع يشتمل على عشرة أبواب مفتوحة، وهي باب الأسباط، وباب حطة، وباب العتم، وباب المغاربة، وباب الغوانمة، وباب الناظر، وباب الحديد، وباب المطهرة، وباب القطانين، وباب السلسلة. وأما الأبواب المغلقة فهي: الباب الثلاثي والباب المزدوج والباب المفرد وباب الرحمة وباب الجنائز.

من خصائص العمارة الإسلامية بالقدس أن جميع أبنيتها من الحجر الجيري

ويتعمق المؤلف في هذا الفصل في خصائص العمارة الإسلامية بالقدس، مشيرا إلى أن جميع أبنية القدس الشريف من الحجر، استُعملت في بنائها مونة الجير، فلم يكن الأسمنت معروفا، والعقود الحاملة للأسقف بنيت من الحجر أيضا، وشبابيك الأبنية صغيرة المساحة ومفتوحة في جدران سميكة، لتؤمن التهوية والإضاءة، وتمنع دخول الأشعة المباشرة في نفس الوقت، وتطل بعض الأبنية على الطريق من خلال مشربيات خشبية جميلة الصنع تساعد في تهوية البيت.

كما يقدم هذا الفصل وصفا معماريا دقيقا لكل آثار القدس وأهمها الحرم القدسي الشريف، وباب الأسباط ومئذنته، وباب الحطة، ومئذنة الغوانمة، وحائط البراق، والمسجد الأقصى وقبة الصخرة، والقصور الأموية، وسور القدس، كما قدم شرحا تفصيليا لأعمال الترميم الحديثة التي وقعت بها.

تهويد القدس.. حلم تاريخي يفوق مكاسب الاقتصاد

تناول الفصل الثاني بالتفصيل قضية تهويد القدس، فقد اغتصب اليهود السيادة والسيطرة على المدينة، واستولوا على القدس الجديدة، وضموا إليها المدن العربية المحيطة بها، وعملوا منذ أن حطوا أقدامهم في القدس بعد عدوان 1948 على نقل أجهزة دولتهم الرئيسية من تل أبيب إلى القدس، مع أنها تمثل من وجهة نظرهم “مدينة على الحدود في كل شيء، تنقصها القاعدة الاقتصادية الواسعة، كما تنقصها الوفرة في الأرض”، لكنهم يهدفون إلى أبعد من ذلك.

الكنيست الإسرائيلي في القدس

فبعد أن يحققوا أحلامهم القديمة (من النيل إلى الفرات)، سوف تصبح القدس في مركز الدائرة، والدليل على ذلك أنه جاء في بعض الرسوم اليهودية القديمة 1585م تخطيط للعالم، تصور صاحبه أورشليم في الوسط، وقارات العالم المعروفة في ذلك الوقت حولها (أوروبا وأفريقيا وآسيا).

في 14 أكتوبر/ تشرين الأول 1958 أرسى الاحتلال حجر أساس الكنيست، وبُني في خمسة طوابق، ضاربا عرض الحائط بما اتُّخذ من قرارات دولية بحياد القدس، وبدأ اليهود في تدعيم مركزهم في القدس، حتى استولوا عليها يوم الأربعاء 7 يونيو/ حزيران 1967م.

تقوية الطابع اليهودي.. غنائم الحرب في أم المدائن

في يونيو/ حزيران 1967 أصدر الكنيست ثلاثة قوانين أعطت لإسرائيل وحدها الحق في تطبيق القوانين التابعة لها على أي أرض ترغب في ضمها، وبموجب هذه القوانين وقعت تحت حكم إسرائيل المباشر المدينة القديمة، فيما بين قرية قلنديا ومطارها في الشمال، وصور باهر وبيت صفافا في الجنوب، وقرى طور والعزارية وعيناتا ورام في الشرق، وحُل مجلس البلدية العربي في القدس، واستولي على كل ما كان بحوزته وأمواله ووثائقه.

 

كما أُغلقت المحاكم المدنية العربية، وفرض القانون الإسرائيلي على المدينة، وأجبرت المدارس والمعاهد التعليمية على أن تطبق المناهج الإسرائيلية، وفُرض على كل الجمعيات والشركات وأصحاب المهن أن يسجلوا أنفسهم مرة أخرى لدى السلطات الإسرائيلية، وأجبرت البنوك العربية على الإغلاق، وسيطرت إسرائيل على المتحف الفلسطيني، وعلى كل ما بداخله.

ويكشف خالد عزب عن إحصائيات وحقائق المصادرات وطرد السكان، ويقدر عدد سكان القدس (في عام 2009) بحوالي 600 ألف نسمة، منهم 500 ألف يهودي، بينما لم يزد عدد العرب على 100 ألف بسبب ممارسات إسرائيل الاقتصادية والسياسية ضد السكان العرب، وإجلاء الآلاف منهم خارج القدس، وعدم السماح بإنشاء أبنية سكنية جديدة للعرب في القدس إلا ما ندر وخارج أسواق القدس الشريف.

إسرائيل تطرد الفلسطينيين من بيوتهم في القدس جبرا، لتمنحها لمستوطنين غزاة

إن تعزيز الإسكان اليهودي في القدس يشير إلى تغيير معالم القدس والوضع الراهن فيها ديموغرافيا وامتلاكيا وحضاريا وسياديا. وقد أعلن وزير الإسكان اليهودي في مؤتمر عام 1971 أن المنشآت اليهودية الجديدة قد أقيمت لغرض محدد، وهو تقوية الطابع اليهودي للمدينة.

تشويه المعالم.. أصابع الاحتلال تدمر مقدسات المدينة

يشير الكتاب إلى ما تمارسه إسرائيل من تشويه وتدمير لمعالم المدينة، فقد سعت السلطات اليهودية منذ استيلائها الكامل على المدينة إلى تشويه وتدمير المعالم الإسلامية، فعندما استولت على حي المغاربة وهدمته، هدمت مسجدين كانا يخدمان سكانه.

بمجرد احتلالها لكامل للقدس في 1967، هدمت إسرائيل حارة المغاربة كأول خطوة في تغيير ديموغرافية المدينة المقدسة

وجاء بعد ذلك قرار من وزير المالية اليهودية بمصادرة مساحة واسعة للمسجد الأقصى، واتخاذها أملاكا إسرائيلية، واشتملت هذه المساحة على 5 مساجد، و4 مدارس، ومركزين ثقافيين إسلاميين، هما زاوية أبي مدين الغوث، والزاوية الفخرية.

وقد ذيُل الكتاب بمجموعة من الملاحق التي تقدم معلومات مستفيضة للقارئ عن القدس وتاريخها، فجاء الملحق الأول بعنوان “القدس تواريخ لا تنسى”، والثاني “من أقوال قادة الصهاينة وحاخاماتهم وزعمائهم السياسيين حول القدس”، والثالث “معلومات موجزة عن الأحياء العربية خارج أسوار المدينة”، والرابع “الاعتداءات المسلحة على الأقصى”.

خريطتان لفلسطين قبل النكبة وبعد النكسة

كما أرفق بالكتاب كتالوج للصور يضم خرائط بها تخطيط المدينة القديمة، والحرم القدسي من الجو، والمسقط الأفقي للمسجد الأقصى، وقبة المعراج وقبة النبي، وخريطة لفلسطين عام 1915، واقتراح التقسيم الذي تقدمت به اللجنة الملكية عام 1936.