“دماء على نهر السين”.. جريمة بحق الدم الجزائري في باريس

تعرّض للضرب والاعتقال والتعنيف يوم 17 أكتوبر/ تشرين الأول سنة 1961، لأن ملامحه لم تكن فرنسية، وفي مركز الشرطة الذي احتُجز به كان يحتّج ويصيح بلغة إسبانية غير مفهومة، ربما كان يقول “أنا لست جزائريا، أنا صحفي”.

لكن لا أحد استمع، إلى أن فهم لغته أحد رجال الشرطة ممن كانت أصوله لاتينية، تواصل معه ليعرف بأن الذي تعرّض للضرب والاعتداء بوحشية كبيرة هو الروائي العالمي “غابرييل غارسيا ماركيز” (1927-2014)، بعد أن ظنوا أنه جزائري.

هكذا قال المحامي والمناضل الكبير علي هارون، أحد قادة فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، من خلال شهادته في الفيلم الوثائقي “دماء على نهر السين – مجزرة باريس 17 أكتوبر 1961″، الذي أخرجه المخرج المغربي مهدي بكار، وأنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، وعُرض لأول مرة بقاعة “سينيماتك”، بمهرجان عنّابة للفيلم المتوسطي، في دورته الثانية من 6-12 من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2016، بمدينة عنّابة وبحضور طاقم العمل، وممثل الجهة المنتجة، حيث حصد جائزة لجنة التحكيم بالمهرجان.

يوم المجزرة.. جريمة دولة تنقلها السينما

هناك أفلام روائية ووثائقية كثيرة قدّمت معالجة لجريمة الشرطة الفرنسية في مواجهة المظاهرة التي قام بها الجزائريون يوم 17 أكتوبر 1961، من أجل المطالبة بحقهم في التجوّل ليلا، ومن بين أهم هذه الأفلام تلك التي تعود إلى المخرج والناشط الفرنسي “جاك بانجيل” المعنون بـ”أكتوبر في باريس” (Octobre à Paris)، وفيلم “مطلع الفجر” الذي أنتجه التلفزيون الفرنسي، وفيلم “17 أكتوبر يوم مختلف” للمخرجين البريطانيين “فليب بروكس” و”آلان هايلين”، وكذلك فيلم “صمت النهر” الذي أخرجه مهدي لعلاوي و”أغني دونيس” سنة 1991، ناهيك عن العشرات من الأفلام الأخرى.

لكن تبقى تجربة “جان بانجيل” من بين أقوى تلك التجارب، وقد رافق إنتاج هذا الفيلم معطيات معينة، إذ جمعت تبرعات مالية لإخراجه توثيقا لهذه الجريمة النكراء، وقد أشرف على العملية وتكفّلت بها لجنة “موريس أودان”، واشترطت أن يخرجه مخرج كبير، وقد قُدّم الاقتراح للمخرج الفرنسي الكبير “جاك تروفو” لكنه رفض، بالإضافة إلى عدد من الأسماء السينمائية الأخرى المحسوبة على اليسار، والوحيد الذي وافق هو “جان روش”، وقد اشترط أن يكون الإنتاج خفيفا، وهذا ما رفضته اللجنة، فقرر “بانجيل” إخراجه بنفسه، وبعد اكتمال الفيلم منعته السلطات الفرنسية من العرض، فلم يعرض إلا سنة 2012.

وفي هذا الفيلم الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية، استكمل المخرج هذه التوثيقات السينمائية، في محاولة منه لإعادة بعث هذه الحادثة من جديدة، والتنقيب في مرحلة مهمة من مراحل التاريخ الجزائري الحديث، الذي كانت الثورة الجزائرية (1954-1962) جزءا أساسيا منه، لكن هذه المرة بعيدا عن التراب الجزائري، بالضبط في باريس، على التراب الفرنسي، حيث كانت تنشط فيدرالية جبهة التحرير الوطني التي كانت بمثابة القاعدة الخلفية لجبهة التحرير الوطني بالجزائر، وكانت تدعمها بالمال والمواقف السياسية وتعبئة المثقفين.

مقارنات الأزمنة.. لعبة جمالية في فضاءات الأحداث

استطاع المخرج مهدي بكار أن يتعامل بذكاء بهذا الموضوع التاريخي الحساس، فلم يُغلّب جهة على أخرى، أو يتناسَ جانبا على حساب جانب، وسار بما هو جمالي فني بالموازاة مع ما هو توثيقي تاريخي.

في بداية الفيلم سيّر المخرج كاميراته في فضاءات طبيعية، عكسها امتداد الأشجار وسحرها، وصفحات ماء نهر السين ودلالته التاريخية والجمالية، وكأنّه يلطف الأجواء للمتلقي/ الجمهور أمام ما هو آتٍ، ويجهزه نفسيا لتقبُّل المادة التاريخية التي سيبثها له، وكأنّه يقول ضمنيا إنه لن يقدم له مادة جافة تنفّره أو تبعده عن الشاشة.

وهذا ما حدث في الفيلم، بعد المحافظة على المساحة الجمالية التي عكستها مثلا تلك المقارنات بين الماضي والحاضر، فبث مادة فيلمية موثّقة لفضاءات مترو الأنفاق وبنايات معينة وساحات، ومشاهد من نهر السين وأحد المستشفيات… إلخ.

ثم يعود للحاضر، فتتجول كاميراته في هذه الفضاءات الحاضرة، وكأنّه يقيم مقارنة سريعة بين الماضي والحاضر، مما يجعل المتلقي يستلذّ هذه اللعبة الجمالية إن صح هذا التعبير، ويشعر بالتعب والبحث والجهد الذي بذله المخرج وفريقه لتقديم هذه المشاهد المنوعة، وفي نفس السياق الجمالي لمسات الغرافيك التي استخدمت لتبيان كيفية انطلاق المسيرات، والشوارع التي مرت فيها، ونقاط التجمع التي حدثت هنا وهناك، وفضاءات مساكن الجزائريين، والفنادق التي كانوا يبيتون فيها.

وكل هذا في سبيل الإحاطة الشاملة بما كان يحدث وسيحدث للجزائريين المتظاهرين، ناهيك عن الاستعانة ببعض المشاهد من الأفلام الروائية التي تناولت هذا الحدث، لخلق درامية أكثر في الفيلم، وضمان الإحاطة المختلفة.

كما بث الفيلم معلومات عن القاعة الرياضية التي احتُجز فيها الجزائريون الموقوفون، وكان المغني العالمي “راي تشارلز” (1930-2004) يريد أن يقدم حفلة مهمة فيها، وبعد مراسلات عدة بين الجهة المسئولة عن المغني ومنظمي الحفل، حُوّل المعتقلون إلى فضاء آخر قريبا من القاعة، وحسب تصريح المخرج عقب انتهاء الفيلم، فإن هذه المعلومة تقدم لأول مرة في هذا الفيلم.

توازن الطرح.. سرد متنوع الأطراف يصنع ألوان الفيلم

كان الطرح الذي اعتُمد في الفيلم موضوعيا بدرجة كبيرة، ولم يُدنِ جهة على حساب أخرى، ولم يصدر أحكاما جزافية على أي جهة، وترك المتلقي/ الجمهور يُقرر بنفسه، ويصدر الأحكام التي يراها مناسبة، إذ قدم المخرج نظرة متوازنة للأحداث، عكستها أصوات الضحية والجلاد والآخر الموضوعي، وكل جهة لها مبرراتها وروايتها للتاريخ.

في الجانب الجزائري كان هناك عدد من الأصوات، منهم السياسي القائد في فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، والمناضل البسيط، لنسمع من أصدر الأوامر، ومن نفذها، وهي الفئة التي يمكن أن نصنفها في خانة الضحية. أما الجلاد فقد مثله شرطي سابق تابع لـ”موريس بابون” محافظ شرطة باريس، بالإضافة إلى الأصوات الفرنسية المهتمة بالتاريخ.

وأما الجهة الثالثة التي تحفظ الموازنة ونسميها بالآخر الموضوعي، فهم المؤرخون الناطقون باللغة الإنجليزية، وهذا لا يعني طبعا الانتقاص من مصداقية المؤرخ الفرنسي الحيادي، ناهيك عن سماع شهادة أقوى صوت، وهو المصور الذي وثّق للأحداث بالصورة، ليكون هناك تنوع في نقل الأحداث والشهادات، وهناك أيضا التمثيليات التي جاءت لتسهل فهم ما هو جمالي وما هو تاريخي، من أجل توسيع فكرة الفهم والتدقيق الجزئي والكلي للأحداث.

ليلة الجريمة.. أوامر عليا تغرق المتظاهرين في النهر

في الجانب الجزائري نرى المناضل علي هارون يقول ما معناه أن الشرطة الفرنسية كانت عنصرية إلى درجة كبيرة، والدليل أنها حظرت التجول على الجزائريين دون غيرهم، وهذا من الساعة الثامنة والنصف وحتى الخامسة والنصف، بأمر من المحافظ “موريس بابون”.

محاولة لترميم الجراح من قبل الرئيس الفرنسي

وفي الجانب الفرنسي يقول الشرطي إن هذا الإجراء عادي جاء لحفظ الأمن، خصوصا أن هناك تحركات كبيرة من قبل المناضلين الجزائريين لجمع الاشتراكات والمعلومات والقيام بعمليات اغتيال ليلا، وقد جاء هذا القرار لشلّ حركتهم، وفي نفس السياق يقول على هارون بأن الشرطة في تلك الليلة قتلت حوالي 200-250 جزائريا.

بينما يقول الشرطي إن هذا العدد مبالغ فيه، ولكي تكون لشهادته قوة أكبر يسرد قصة حدثت له، فقد اعترف له شرطي جديد بأنه استمتع بليلة 17 أكتوبر 1961، وعلى ضوء تصريحه هذا قاطعه طوال حياته، وفي نفس شهادة هذا الرجل يقول إنه التقى بنجل “موريس بابون”، وسأله عن تلك الليلة، فرد بأن الأمر صدر من الأعلى، أي من “ديغول” شخصيا، ولو أن أباه عارض الأمر لعُزل من منصبه.

مظاهرة الصباح.. خطأ تنظيمي أدى إلى المأساة

هناك شهادات مهمة نقلها الفيلم، من بينها كيفية تحرك المظاهرات، والأسباب الرئيسية التي عجّلت بها، فقد أصرت جبهة التحرير الوطني على أن تكون المظاهرة سلمية، وعليه كان يُفتَّش كل فرد، والدليل على السلمية هو مشاركة الأطفال والنساء، وقد ارتدى الكل أجمل ما لديهم متجهين إلى باريس، لكن أدى خطأ خفيف من بعض المجموعات، إلى خلق مساحة للشرطة كي تغلق كل المداخل والمخارج التي تؤدي إلى ساحات باريس.

وقد كان الخطأ في أن المظاهرة تنطلق في الساعة الثامنة ليلا، لكن هناك جهة انطلقت بالتظاهرة الثامنة صباحا، مما خلق الفرصة للشرطة الفرنسية في الاستعداد جيدا لها، لتقوم بعدها بقمع المتظاهرين، من خلال إطلاق الرصاص الحي والضرب بالعصي والاعتقال، ومن الجهة الأخرى غطت السلطات الفرنسية على الجريمة بتعتيم كبير، فراقبت كل الجرائد، ومنعت بعضها من الصدور، وحذفت بعض المقالات التي تعرضت للجريمة.

ويقول المصور في شهادته إنه كان يرى الشرطة وهي ترمي الجزائريين في النهر، وتسأل كل واحد قبل رميه هل تعرف السباحة، وإن كانت الإجابة نعم تقيده وترميه، وإلا فهو يرمى مباشرة، حتى أن أحدهم حاول وضع يده على حافة النهر فسحقها حذاء شرطي.

من جهة أخرى أيضا -وربما لأول مرة- قدم الفيلم شهادة من أخ لطفلة مناضلة اعتقلت في المظاهرات، فقال إنها بمجرد عودتها من المدرسة في الرابعة مساء، تركت حقيبتها المدرسية في البيت، وذهبت مباشرة إلى المظاهرة، ومنذ ذلك الوقت لم تعد، وقد قدّم والدها وقتها شكوى بالاختفاء، فضربته الشرطة، لكن في نهاية المطاف سجّلت له شكوى نتيجة لإصراره. يخرج الأخ بعدها الحقيبة التي كانت تدرس بها الأخت، إذ لا تزال العائلة تحتفظ بها إلى حد اليوم.

“ظنوا أني عربي”.. قضية تبناها الغريب وتنكر لها الأقربون

يقول المناضل علي هارون في شهادته المهمة من خلال هذا الفيلم، إن الجزائر بعد الاستقلال عتمت على هذه الحادثة، من أجل تقزيم دور فيدرالية جبهة التحرير الوطني بفرنسا، وهذا خلال حكم الرئيسين الراحلين أحمد بن بلة (1962-1965)، وهواري بومدين (1965-1978).

وقد عاد النقاش مجددا حول دور هذه الجهة وأحداث 17 أكتوبر 1961 قبل عشرة سنوات، ومن هنا كانت المعلومات حول هذا الأمر شحيحة جدا، وقد يساهم هذا الفيلم في فتح النقاش مجددا.

كان “غابرييل غارسيا ماركيز” يقول عندما يستذكر مظاهرات 17 أكتوبر 1961: ظنوا أني عربي. كانت القضية الجزائرية التي دافعت عنها هي القضية الوحيدة التي زرت من أجلها سجنا.