المغرب.. الحج من سكورة بين الماضي والحاضر

عندما ترك إبراهيم عليه السلام أهله “بوادٍ غير ذي زرع”، دعا الله سبحانه قائلا “واجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم”، ثم كان الجواب من العليم الخبير “وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً وعلى كل ضامر”، فقال إبراهيم عليه السلام “وما عسى أن يبلغ صوتي يا رب؟”، فقال له الله “عليك النداء وعلينا البلاغ”.

واليوم، وبعد 14 قرناً يرتفع الأذان من قمم جبال الهملايا في شرق الأرض إلى أعالي جبال أطلس في أقصى غرب المغرب.

هذا الفيلم الوثائقي الذي أنتجته الجزيرة الوثائقية ضمن سلسلة “رحلتي إلى الحج.. المغرب” يربط بطريقة شيقة بين حاضر الحج من المغرب بالماضي، وكأن الكاميرا تنتقل بك عبر الزمان لترى رحلات الحجاج مشياً على الأقدام من جنوب المغرب إلى شمالها، ثم إلى مدينة وجدة في شرق المغرب، ومنها إلى الجزائر العاصمة ثم إلى تونس العاصمة فطرابلس وبنغازي في ليبيا، ثم إلى مصر.

ولا تسل خلال هذه الرحلة الشاقة المضنية عما يتعرض له الحجاج من صنوف المعاناة، ولك أن تتخيل آلاف الكيلومترات من الصحراء القاحلة حيث لا ماء ولا طعام، إلا ما يرزقهم به الله عبر مصادفة بعض قوافل البدو في الواحات، ناهيك عما قد يعترضهم من قطاع الطرق والوحوش والسباع الضواري، وضربات الشمس والأمراض الأخرى التي قد تؤخرهم في بعض الأحيان عن موافاة فريضة الحج نفسها.

 

كل هذا ولا صاحب لهم في هذا السفر إلا الله، ولا سلوة لهم في هذه الطرق الموحشة إلا أملهم في الوصول إلى الديار المقدسة وإمتاع العين والفؤاد بالنظر إلى الكعبة المشرفة، وقد يموت بعضهم أثناء الرحلة فيدفنه أصحابه حيث مات ويتابعون مسيرهم.

في أحضان جبال أطلس

قرية سكورة على بعد 40 كلم شمال مدينة ورزازات التي تقع في الجنوب الشرقي من المغرب، اشتهرت بالقصبات الشامخة والمدارس العتيقة والزوايا الصوفية التي اشتهر منها زاوية عبد المومن وزاوية الحجر وزاوية آية سي يعقوب، وكانت معلماً يقصده الناس لتعلم القرآن وباقي أصناف العلم الديني والروحي.

وقد أخذت سكورة اسمها من قبائل شتورة التي جاءت من لبنان إلى اليمن ثم إلى تونس واستوطنت في إحدى واحات ورزازات التي عرفت فيما بعد باسم سكورة، وهي منطقة آية في الجمال الطبيعي بما فيها من جبال ووديان وواحات ونخيل.

ويجري بالقرب من سكورة وادي سيدي حجاج، وكما يدل اسم الوادي فإنه كان بمثابة ملتقى من ينوون حج بيت الله الحرام من أجل الراحة والتزود بالماء، كما كان هنالك على الدوام الفقهاء والشيوخ والحجاج السابقون الذين كان قاصدو الحج يسترشدون بخبراتهم في معرفة الطريق واختيار الصديق وأخذ الشعائر والمناسك.

وقبل موسم الحج بثمانية أشهر يلتقي من أراد الحج في وادي حجاج بعد ذكرى المولد النبوي للتوجه إلى الديار المصرية مشيا على الأقدام لزيارة مسجد الحسين، وبعدها إلى مدينة القدس لزيارة المسجد والقبة، ومن ثم العودة إلى المدينة المنورة ثم إلى البيت العتيق بعد أن ضبطوا توقيت وصولهم إلى هناك في شهر رمضان المبارك، ويبقون هناك حتى أداء مناسك الحج.

ويلتقي الفيلم هنا ببعض قبائل سكورة التي تودع أفراداً منها لأداء فريضة الحج هذا العام: قبيلة ولاد إبراهيم، ومنها الشيخ أحمد شواش، وهو ضرير عمرة أكثر من 70 عاماً ينوي الحج هذا العا.، وقبيلة تاريغيوت، ونلتقي فيها بمحمد بن الحاج الحسين بن محمد الذي حج قبل مئة عام مشياً على الأقدام. ثم قبيلة ولاد حساين، ومنها الحاج بريك الذي حج عام 1956 مشياً على الأقدام، حيث قابلنا ابنه محمد الذي كان يجلس ممسكاً بالعصا التي استخدمها أبوه في رحلة حجه قبل ستين عاماً خلت.

نورٌ في عيني الشيخ الضرير

ونعود للشيخ أحمد من قبيلة ولاد إبراهيم الذي لم يحالفه الحظ في الحصول عى تأشيرة حج طوال السنوات الأربع الماضية، وها هو اليوم يستعد للحج بعد أن منّ الله عليه بهذه الفرصة، وجُلّ أمانيه أن يدخل مقام إبراهيم “ومن دخله كان آمناً”.

الشيخ أحمد من قبيلة ولاد إبراهيم يستعد للحج بعد أن لم يتسنّ له الحصول على تأشيرة حج طول سنوات أربع ماضية

وندخل بيت الشيخ أحمد لنرى زوجته مريم اليعقوبي وهي تحضر الكسكسي، فاليوم هو الجمعة، وعادة أهل سكورة أن يكرموا المصلين بعد الجمعة، وقد قامت بتحضير ثلاثة صحون كبيرة مصنوعة من الطين، اثنان منها تذهب للمسجد وعليها بواكير الطعام مبالغةً في الإكرام، وهذه تسمى وجبة المعروف، والصحن الثالث وعليه ما تبقى من الطعام لأهل بيتها.

دعاهم الشيخ أحمد للمعروف فلبوا الدعوة، وفي المقابل دعوا له كثيراً بالتوفيق في رحلته وسامح بعضُهم بعضاً، ثم ذهب لقراءة الفاتحة على قبر والده توديعاً له.

وبطريقه يمر على آثار مسجد الحضار، ويخبرنا كيف كان هذا المكان مناراً لتحفيظ القرآن الكريم وإقامة الصلوات، ويخبرنا كيف كانوا يسخنون الماء في “المسخن” للوضوء في أيام البرد القارس.

وترجع به الذكريات إلى الوقت الذي أتم فيه حفظ القرآن في ذلك المسجد، حيث هنالك مراسم وطقوس تجتمع فيها القبيلة كلها، ويجتمع كبار المشايخ والفقهاء يشهدون للتلميذ أنه أتم حفظ القرآن بإتقان.

ويمر بداره العتيقة التي تزوج بها في العام 1956، ما زالت تحمل عبق الماضي السعيد، ينكت بعصاه التراب كأنه يستنطقه تلك الأسرار التي استودعها عنده في الأيام الخوالي، يذكر كذلك أنه تجند في الجيش طيلة عشر سنوات في السبعينيات وشارك في حرب الصحراء الغربية.

بقي يومان على موعد السفر، وها هو الشيخ أحمد يستقل السيارة للحصول على جواز سفره مختوماً بالتأشيرة من السفارة السعودية، وتصحبه زوجته مريم، كما توجه إلى مكتب البريد في ورزازات وهنالك تأكد من وجود اسمه في القوائم، ثم ذهب إلى المصرف حيث استبدل الدراهم المغربية بالريال السعودي.

هنا يستذكر الشيخ أحمد كيف كان الحج في القديم، حيث لم يكن هنالك لا جوازات سفر ولا عملات خاصة لكل بلد، فلا حدود تفصل بين أقطار المسلمين، وكانت قطع الذهب والفضة متداولة في كل ديار المسلمين، وكانت محطات التزود بالماء والغذاء على طول طريق الحجاج الطويل، وقد كان بعض الحجاج يضطر إلى القيام بأي عمل يتبلغ من خلاله مقصده المقدس.

ثم قصد الحاج أحمد قصر المؤتمرات بورزازات حيث يجتمع كافة الحجاج من الإقليم ليستكملوا الحصول على الوثائق الرسمية ويتم ترتيب المطوفين ويستمعون إلى الندوات العلمية التثقيفية والإرشادية لتوضيح مناسك الحج لهم.

ويحرص الشيخ أحمد أن يكون آخر عهده بأرضه قبل السفر أن يحصد محصول الزيتون بيده في ضيعته، وما زال لسانه يلهج بالحمد والثناء على الله الذي وفقه لرحلة العمر، ثم يأتي أبناؤه محمد والعربي وهشام وابنته ثريا لتوديعه.

بين الماضي والحاضر

في الزمن الغابر كان الرجل يعرض على زوجته أن يطلّقها أو أن تصبر حتى يعود، وذلك لأن المشقة وطول السفر كانت مظنة المهلكة، حتى إن القبيلة أيضاً تجتمع وتنظر في توزيع إرثه على الورثة.

معاناة أحد الحجاج في طريقه إلى الحجاز، حيث الصحراء القاحلة بلا ماء ولا طعام

وتحين لحظات الوداع الأخيرة ويتزين موكب السيارات بالأعلام المغربية، وينطلق عبر جموع المودعين في سكورة، وتنطلق الزغاريد وأبواق السيارات تعبيراً عن الوداع، وعندما يصل الموكب إلى بوابة مطار ورزازات، يقوم جميع الأبناء والأحفاد بتوديع الشيخ أحمد وزوجته، وتستمر وصايا الشيخ لأولاده بالتلاحم والتعاضد وعدم الافتراق حتى يفارفهم هو متوجهاً إلى قاعة المسافرين.

الكعبة.. يراها بقلبه

الشيخ أحمد في مكة أخيراً، وهو في مواجهة الكعبة المشرفة الآن، ولا تسل عن مدى بهجته وسروره على الرغم من أنه لا يستطيع رؤية الكعبة بعينيه المطفأتين، ولكنه يراها بسمعه وقلبه وجميع حواسه. وتأتيه مكالمة على هاتفه المحمول من المغرب، فيصف لهم المشهد بدقة تفوق وصف بعض المبصرين، “فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور”.

طقوس ومراسم استقبال الحجاج تستمر أياماً في خيام كبيرة أعدت لهذه المناسبة العظيمة

ثم يتوجه مع باقي أفراد بعثة الحج المغربية إلى أرض المشاعر منى، ومنها إلى عرفات الله، هناك دعا الله وأكثر الدعاء ولبى وبالغ في التلبية، وصلى الظهر والعصر جمعاً وقصراً، وبقي يدعو ويكثر الذكر حتى جاء الغروب وحان وقت النفرة.

وبكى، وبكى معه حجاج كثيرون وهم يرجون ويأملون أنهم في الملأ الذين أشهد الله ملائكته أنه قد غفر لهم وأعتقهم من النار، ثم توجهوا إلى مزدلفة وكأنهم ألقوا أحمال السنين وراء ظهورهم وعادوا أطهاراً كما ولدتهم أمهاتهم.

حج مبرور وعودة إلى سكورة

وتطوي مشاهد الفيلم الأيام لتعود بنا إلى سكورة التي تتجهز لاستقبال حجاجها عند عودتهم، فتُطلى الأبواب والجدران وتكتب عبارات الترحيب، وتُعد العدة للولائم من لحوم وخضار وسكر وغير ذلك، ويجهز الأهالي السيارات بدءاً لانطلاق موكب الاستقبال إلى مطار ورزازات.

خيام الرجال والنساء تفصَل في الاحتفالات، وذلك حتى يتسنى للنساء الغناء والفرح على طريقتهن

وحين تحط الطائرة في المطار ويترجل منها الحاج أحمد والحاجة مريم يكون في استقبالهما كل أبنائهما وأحفادهما مرة أخرى، وتعلو أصوات الزغاريد من جديد، وها هم أبناء القبيلة جميعهم فرحون بعودة حجاجهم سالمين.

وتستمر طقوس ومراسم استقبال الحجاج أياماً، تولَم فيها الولائم وتَكثر اللقاءات في خيام كبيرة أعدت لهذه المناسبة العظيمة، ويُفصَل بين خيام الرجال والنساء كما هي العادات في المغرب، وذلك حتى يتسنى للنساء الغناء والفرح على طريقتهن. ويشرب أهل القبيلة ماء زمزم ويأكلون من تمر المدينة تبرُّكاً، ويختمون ختمات القرآن ويكثرون الدعاء والذكر وبعض المدائح النبوية، ولا تخلو هذه الاجتماعات الطيبة من الأكل وشرب الشاي المغربي بطقوسه الخاصة.

وبذلك ينتهي موسم حافل من مواسم سكورة، ودّعت فيه حجيجها واستقبلتهم سالمين، مستذكرةً أنها في سالف الأيام كانت تودعهم فقط، ولا أمل يرجى في لقاء آخر، ولكنْ هي الأيام في هذه الدنيا، قضى الله أن تكون دولاً بين الفرح والحزن والأمل والقنوط، ولكنه سبحانه وعَد -ووعْدُه الحق- أن يجعل لعباده في الآخرة نعيماً لا ينفد وسروراً لا ينقضي وراحة دائمة لا عناء بعدها.