حرب الجزائر.. شهادات القاتل بعد صحوة ضمير متأخرة

أرض سقتها دماء الثوار سنوات طويلة، فأنبتت سنابل الحرية والاستقلال، لم تخضع للغاصب المحتل ولم تسمح له برسم مستقبلها، بل اشتعلت من تحته نارا تلظى، مارس الأغراب فيها سياسة القتل وإهلاك الحرث والنسل وتخريب الممتلكات.

إنها الجزائر، البلد الثائر الذي خرج من دفء رحمه الثوار، بلد المليون شهيد الذي ما زالت روايات البطولة عن شعبه قصصا تتناقلها الأجيال، وأما قصة المستعمر ورجالاته فهي هلع وخوف يطارده في أحلامه ويقظته.

في هذا الفيلم الذي تعرضه الجزيرة الوثائقية بعنوان “حرب الجزائر.. شهادات ضمير”، يستعرض المخرج شهادات خمسة مجندين فرنسيين حول الأحداث التي عايشوها في الجزائر إبان حقبة الاستعمار، وهم “بيار رامبو” و”جورج تريلو” و”ريمي سار” و”جورج غاري” و”لوي داتان”.

“ما حدث في الجزائر يؤرقني كثيرا”.. ذكرى الحرب الدنيئة

بعد مرور أكثر من 53 عاما على عودة “بيار رامبو” إلى بلاده، ما زال شعوره براحة البال ناقصا، وذلك لأن صور رفاق السلاح الذين قُتلوا في صبيحة يوم تسريحه من الخدمة العسكرية بقيت تلازمه كظله، مسببة له حالة من الخوف والهلع.

أمّا “تريلو” فيشعر بالخزي والعار ويقول: أي فخر لنا ونحن نشارك في حرب دنيئة؟ يحاربنا الجزائريون لتخليص أرضهم منا، لسنا كمن حرر فرنسا من النازيين، فذاك مدعاة للفخر.

ويتحدث “ريمي سار” عن كثير من المجندين الذين تورطوا في التعذيب والاغتصاب قائلا: من اقترف تلك الجرائم كان مختارا لا مكرها، لو كنت مكانهم يومها وأمرني قائدي في الخدمة أن أرتكب أيَّ عمل لوافقته على ذلك، ولما كانت صحيفة أعمالي بيضاء.

جورج غاري جندي بالجيش الفرنسي في الجزائر
جورج غاري جندي بالجيش الفرنسي في الجزائر

كثيرة هي أحداث تعذيب الموقوفين الجزائريين التي استخدم فيها المستعمر الفرنسي جهاز الصدمات الكهربائية، وهنا يقول “جورج غاري”: من واجبي رواية الأحداث والمجاهرة بالحقيقة حتى تسجلها كتب التاريخ.

أمّا “لوي داتان” فلم يعرف أبناؤه ولا زوجته تفاصيل إصابته في حرب الجزائر، إذ يقول: عرفت زوجتي أنني أصبت بطلقات رشاش ثقيل خلال كمين نصبه الثوار لنا ووقعنا فيه، لم أروِ حيثيات الواقعة لزوجتي إلا بعد مضي 50 عاما.

لكن “بيار رامبو” يقول: تدرك زوجتي أنَّ ما حدث في حرب الجزائر يؤرقني كثيرا.

“لا بد أن مشاهد حرب الجزائر زارتك في منامك”

لم يخفِ أحد من المجندين حالة الخوف والهلع المرافقة له، بوصفها أحد آثار حرب الجزائر حتى أثناء إقامته في بلده فرنسا. يقول “رامبو”: بعد سنتين قضيتهما في الجزائر، عدت إلى فرنسا عام 1958 وكان منزلي على ضفة البحيرة، ورجعت وموسم الصيد في أوجه، لكن فرقعة الخرطوش -وهو أحد الأسلحة التي تستخدم لأغراض الصيد- أوقعت الخوف في قلبي، فاختفيت عن الأنظار.

أمّا “سار” فإنَّ صوت طلقات بنادق الصيد في الريف الفرنسي كانت تدفعه إلى الارتماء على الأرض، فلم يكن يطيق سماعها. وكان “تريلو” إذا سمع فرقعة الطلقة ينظر يمنة ويسرة، ليتأكد أنها لم تخرج من بندقية رشاشة.

يستعرض المخرج شهادات خمسة مجندين فرنسيين على الأحداث التي عايشها هؤلاء في الجزائر إبان حقبة الاستعمار
المخرج يستعرض شهادات خمسة مجندين فرنسيين على الأحداث التي عايشها هؤلاء في الجزائر إبان حقبة الاستعمار

وعندما حضر “رامبو” ندوة عن التعذيب في حرب الجزائر غادرها مجهشا بالبكاء قبل أن تنتهي، ويقول معلقا على الأمر: تعلمون مدى الحرج الشديد من بكاء الرجل أمام الناس.

أمَّا “داتان” فقد لاحقته الكوابيس في منامه حتى إنَّ زوجته كانت تقول له بعد استيقاظه في اليوم التالي: لا بد أن مشاهد حرب الجزائر زارتك في منامك.

“لم أمسك بندقية في حياتي قبل التحاقي بالجيش”

قبل المشاركة في هذه الحرب أحس “رامبو” بالرعب وعدم الثقة فيما هو مقبل عليه، خاصة أن حياته بوصفه ريفيا لم يعترِها استخدام السلاح أو العنف، إذ يقول: لم أمسك بندقية صيد في حياتي قبل التحاقي بالجيش، ناهيك عن حمل بنادق رشاشة.

ويتابع الحديث عن بداية رحلته إلى الجزائر قائلا: نُقلنا إلى الجزائر بحرا، وكانت مارسيليا الواقعة على ساحل فرنسا الجنوبي المطل على البحر الأبيض المتوسط تعج بالمجندين الذين تراهم منتشرين بكثرة في كل زاوية وركن.

بيار رامبو جندي بالجيش الفرنسي في الجزائر سابقا
بيار رامبو جندي بالجيش الفرنسي في الجزائر سابقا

أمَّا “سار” فلم يسبق له أن رأى البحر من قبل، ولم يغادر قريته أفيرون في الإقليم الفرنسي التابع لمنطقة ميدي بيرينيه، ثم يتذكر والده الذي شارك في الحرب العالمية الأولى وجرح فيها، وهو يعلم ويلات الحروب، وأثناء الوداع شعر والده برغبة في البكاء، لم يُخفِ مظاهر القلق عن ولده التي كانت ظاهرة على محياه.

إخراج البربر إلى نور الحضارة.. معركة الجزائر

حاول رؤساء الحرب تزيينها بمآرب أخرى تنفي عن المستعمر الفرنسي صفة الإجرام الممارَس في الجزائر المحتل، وأخبروا المجندين أنها عملية لبسط الأمن والنظام وإخراج البرابرة الإرهابيين الدمويين إلى نور الحضارة، وقد حمل “سار” ورفاقه تلك الأفكار واتجهوا بها إلى الجزائر.

حياة بسيطة عاشها الفلاح في الريف الجزائري
حياة بسيطة عاشها الفلاح في الريف الجزائري

ومن الأفكار التي حاول “غاري” غرسها في الفتيان الجزائريين فكرة أنَّ أصولهم تعود إلى بلاد الغال، وهو اسم أطلقه الرومان على المنطقة التي يسكنها الغاليون، وتمتد على شمال إيطاليا وفرنسا وبلجيكا. إذ يقول: كنت معلما قرب مدينة غرداية شمال صحراء الجزائر، حاولت تعليم الفتيان أنَّ أصولهم تعود إلى بلاد الغال، وهذا الأمر لم يكن يثير استغرابا أمام التلاميذ، لأنهم لم يعيروا تلك الرواية أي اهتمام.

كان الفلاحون يعيشون حياة بسيطة في الريف الجزائري، وقد شاهدهم “داتان” يعملون طيلة النهار لا يأكلون إلا كسرة خبز مغموسة في زيت الزيتون، وأجرهم دريهمات معدودات، وأمَّا سكنهم فيصفه “تريلو” بأنه بيوت من طين، وأطفالهم يطلبون كسرة خبز أو قطعة شكولاتة.

ربما كانت حياة المجندين الفرنسيين السابقة حين كانوا فلاحين في الريف الفرنسي، جعلتهم يقدرون حجم المأساة التي يعيشها الفلاح الجزائري تحت وطأة الاحتلال، وهنا يقول “رامبو”: أثناء عملياتنا العسكرية كنا نشاهد الفلاح الجزائري يسوق بقرتين تجران محراثا خشبيا، وفي المقابل فإن الفرنسي يعيش على أرض الجزائر حياة من الرفاهية تظهر حجم التعالي والاستكبار.

“كان مبررا لي أن أكون سفاحا”.. رغبة الانتقام

كان “سار” من الرماة الذين يطلقون الرصاص على كل من دخل إلى المنطقة المحرمة في الجبال، ويروي قصة حادثة أثرت عليه حتى دفعته للتفكير بالانتقام من الفلّاقة (الاسم الذي أطلقه الفرنسيون على ثوار الجزائر)، وذلك عندما خرج 30 مجندا من رفقائه في مهمة عسكرية وبقي هو للحراسة، وفي اليوم التالي عادت الفرقة بعد أن قُتل 16 من رفقائه في السلاح. ويقول: ذاك الحدث كان مبررا لي أن أكون سفاحا، ولكن لم أسمح لذاك الإحساس بالتسلل إلى عقلي ووجداني.

لوي داتان جندي بجيش الاحتلال الفرنسي بالجزائر سابقا
لوي داتان جندي بجيش الاحتلال الفرنسي بالجزائر سابقا

في سياق متصل يصف “داتان” حالة الخوف والهلع التي ألمت به في 21 سبتمبر/أيلول عام 1956 عندما رأى 17 من رفقائه المجندين مذبوحين عراة في وادي يسر، وهو مجرى مائي يصب في البحر الأبيض المتوسط، فاعترته نتيجة لهذه الحادثة رغبة في الانتقام.

لكن تلك الرغبة لم تدم طويلا، بل بددها قرار آخر اتخذه عندما جهَّز مسدسا كي يقتل نفسه قبل أن يقع أسيرا في أيدي الثوار، فمشهد القتل الذي رآه جعله يفضل الانتحار على مواجهة المصير ذاته.

لم يخفِ “داتان” استخدامه للسلاح وقتله للجزائريين أثناء فترة تجنيده، بل قال: أصبتُ أشخاصا برشاشي الثقيل من طراز دوسات، كنت أسدد الرمية فيسقط الهدف أرضا، وبعد أن سُرحنا من الخدمة بقينا نحمل الحقد على كل الجزائريين، كنا ننعتهم بالمصطلح الدارج وقتها، بونيول.

ألوان العذاب.. تخبطات المحتل في أيام الثورة الملتهبة

مارس المجندون عمليات تفتيش ومطاردة لجيش التحرير الجزائري، وهو الجناح العسكري لجبهة التحرير الوطني إبان الثورة الجزائرية، وذلك من خلال اقتحام القرى، وقد حاولت المقاومة تفادي عمليات التفتيش بإرسال العيون لرصد تحركات الاحتلال الفرنسي من أعالي الجبال، ثم إرسال التحذير للمقاتلين، فلم تكن قوات الاحتلال تجد في القرى غير البؤساء وكبار السن والأطفال.

يقول “غاري”: كان الأطفال عندما يشاهدون رجالنا المسلحين يزمجرون يبدؤون في البكاء ويتعلقون بملابس أمهاتهم، وبعض العجائز كانت تشتمنا بالعربية أو بالأمازيغية ويكثرن من العويل.

أثناء التحقيق مع الموقوفين استخدم المجندون العنف ضد المواطنين لإجبارهم على الاعتراف، يقول “سار”: حققنا مع رجل خمسيني ضربناه حتى لم يعد يقوى على المشي، اعترف على مخبئ لم نجد له أثرا في أي مكان. لقد أراد الموقوف التخلص من سوء العذاب، حتى لو كان ذلك باعترافات كاذبة.

وفي عملية اقتحام أخرى لأحد البيوت يروي قصتها غاري قائلا: بعد إطلاق النار على بوابة أحد المنازل ثم اقتحامه، وجدنا رجلا ذا لحية بيضاء مصابا بثقب كبير في رئتيه غير قادر على التنفس ملقى على الأرض، لم نلق له بالا، ربما مات بعد هذه الحادثة.

ريمي سار جندي بجيش الاحتلال الفرنسي بالجزائر سابقا
ريمي سار جندي بجيش الاحتلال الفرنسي بالجزائر سابقا

تنوعت ألوان العذاب التي مارسها هؤلاء المجندون ومنها قيام “رامبو” وزملائه بربط جزائريين مصابين بجروح خطيرة إلى بطن دبابة، حتى انسلخ جلدهما بسبب الحرارة العالية وهم أحياء، وما كان لهم أن يفعلوا ذلك إلا استجابة لأمر الضابط المسؤول عن فرقتهم.

ولتسريع جمع المعلومات أثناء التحقيق، استخدم المحققون مولد طاقة مخصصا لأجهزة الراديو لصعق الأسير بواسطة الكهرباء، مما يجعل الضحية عاجزة عن الكلام مخرجة زبدا من الفم.

ومن وسائل التحقيق أيضا استخدام سارية مرتفعة تتدلى منها الحبال لتعليق الموقوفين بالأرجل والأيدي، ثم غمر رأس الأسير بالماء حتى يصل إلى مرحلة خطيرة قد تؤدي إلى اختناقه. ويروي “غاري” قصة عن ضابط كان يضع خنجره في ضلوع المعتقلين كي يجبرهم على الاعتراف، وآخر كان يضع قُمعا في فم السجين بعد طرحه على الأرض ثم يسكب فيه الماء ضاغطا على بطنه.

ومن الجرائم الأكثر دموية عملية قتل الأسير بعد إيهامه بالإفراج عنه، إذ يقتاد إلى غابة أو مكان مجاور للثكنة العسكرية التي يُحتجز فيها ويُقتل بالرصاص، ثم يقال إنَّ سبب قتله محاولته للهرب، وكان الجنود الفرنسيون الذين يرغبون في ممارسة مثل هذه الجريمة يسجلون أسماءهم لدى قادتهم للحصول على دور في مثل هذه العمليات.

سياسات التعذيب.. جريمة تنقذ كتيبة وتصنع ثائرا

كل تلك الممارسات الإجرامية لم تلق قبولا عند معظم المجندين في الخدمة العسكرية، بل تعرضت لانتقادات واسعة وتساؤلات مشككة في جدواها، وقليل منهم شارك في تعذيب الأسرى مكرها، أمَّا الجلادون فهم العسكريون الذين وجدوا في آلام أبناء الجزائر متعة كبيرة.

ذات مرة اقتحم الاحتلال الفرنسي قرية واعتقل رجلا مهنتُه صناعة الأحذية، ثم تعرض ذلك الإسكافي لضرب شديد جعله عاجزا عن المشي، ثم عُلق على شجرة ورُبطت يداه خلف ظهره، وبعد ذلك العذاب الذي وقع على الرجل لامَ “غاري” نفسه كثيرا، لأنه لم يصدر منه أيُّ احتجاج على تلك الحادثة.

وأمام ذلك التعذيب المروع لا يرى “داتان” نفسه بطلا ولا نذلا، كما أنَّه لا يعتذر عن أفعاله وهو مكره قائلا “أنا مجرد جندي مغمور”، ويرى أن سياسةَ التعذيب الشديد بحق الأسرى مفيدةٌ جدا، وذلك من خلال تجربته العملية مع أحد الموقوفين، فقد أدى اعترافه إلى إنقاذ كتيبة كاملة من الموت.

يختلف “تريلو” مع “داتان” في سياسة التعذيب، ويقول: لا أوافق على أساليب التعذيب القاسية، لأنَّ فاقد المعلومة لن يعطيها، كما أنَّ اعتقال كافة الموقوفين في القرى التي اجتاحتها القوات الفرنسية في الريف الجزائري، كان الهدف منه منع التحاق الشباب بجبهة التحرير الجزائرية.

وفي السياق ذاته ينفي “رامبو” عن نفسه ممارسة التعذيب ضد الجزائريين، ولكنه يقول “لو أنَّ الملازم طلب مني تشغيل آلة الصعق لاستخدمتها، فأوامر القادة لا تناقش”. وهنا يبرر “غاري” عدم مقدرة المجندين على عصيان الأوامر بأنَّ ذلك يؤدي بهم إلى السجن أو القتل.

وينقل “سار” عن الجنرال “بورالدير” قوله إنَّ التعذيب يصنع عددا أكبر من الأعداء، فالجزائريون الذين وقعوا ضحية للتعذيب أصبحوا أكثر استعدادا لارتكاب أي شيء من شأنه إلحاق الأذى والضرر بالجيش الفرنسي. لذلك وصف “تريلو” وزملاؤه الأسيرَ الذي يتعرض للتعذيب الشديد ثم لا يلتحق بالثورة بعديم الرجولة.

حسناء المقاومة.. جريمة اغتصاب جماعية لعقاب الثورة

من وسائل المقاومة الجزائرية التمويه بلبس زي الجنود الفرنسيين الذي كانت تغتنمه بعد كل معركة تنتصر فيها، ولكي تتغلب القوات الفرنسية على تلك الحيلة، فقد منحت كل جندي منديلا ملونا يلبسه أثناء المعركة، ليتميز به عن مقاتلي جبهة التحرير الجزائرية.

وذات مرة ألقي القبض على فتاة في غاية الجمال، وهي تنتزع ملابس جنود فرنسيين لصالح جبهة التحرير الجزائرية، فأدخلت تلك الفتاة إلى مكتب القائد، ثم إلى أماكن أخرى، وفي اليوم التالي خرجت وقد شوهت ملامحها تماما، وغُطي جسدها بالكدمات والدماء. يقول “تريلو”: فيما عدا هذه الحادثة لم أشهد على حوادث اغتصاب متواترة.

“كنتُ أقرب إلى الطفولة”.. يغنم المجند الندم وتغنم الجزائر الحرية

لم تؤثر تلك الحرب على إيمان “رامبو”، بل جعلته أكثر احتراما للإنسان، ولكنها في المقابل أثرت على كاثوليكية “تريلو” بعد أن رأى تناقضا في مبادئ القسيس المرافق للجيش المحتل، عندما حكم على الجزائريين بالقول “ليس للبرابرة إلا الأساليب البربرية”، وذلك بعد أن روى له حادثة مؤسفة قام الجيش الفرنسي فيها بأبشع الجرائم وأكثرها انتهاكا لحقوق الإنسان.

أيام خلت صنعت ذاكرةً حزينةً لدى المجندين الخمسة
أيام خلت صنعت ذاكرةً حزينةً لدى المجندين الخمسة

استشعر “سار” الحرج من طلب راتبه التقاعدي بعد استحقاقه، فهو من قدامى المحاربين وبلغ من العمر 65 عاما، ولكنه يرى أن تلك الأموال ملطخة بالدم الجزائري وتحيي ذكريات البؤس والمنكرات، لذلك فإنَّه لن يطلبها أبدا، وسيعمل بطريقة أو بأخرى، كي يتدبر معيشته ويحصل على مال يرضى عنه.

أحس “داتان” بألم تلك الحرب التي أخذت منه رجله بترا، وبعد العودة إلى فرنسا وحصوله على التكريم هناك لم يُعر الأوسمة والنياشين التي قُدمت له أي اعتبار، خاصة عندما جاءت زوجة الرئيس الفرنسي “شارل ديغول” مع ضابط رفيع المستوى إلى المستشفى لتكريمه، فرفض استلام الميدالية العسكرية قائلا: عندما وصل زوجك إلى الحكم مدد خدمتنا العسكرية لـ28 شهرا، ولو أنَّه لم يفعل لما بترت ساقي.

أمَّا “غاري” فيلوم بلاده حين تقلّد رتبة عسكرية وهو في سن الشباب في عامه الرابع والعشرين، حيث إنَّه لا يدرك معنى ذلك، ويقول: كنتُ أقرب إلى الطفولة، لم أكن ناضجا لأعرف الآثار الوبيلة لتدخلاتنا العسكرية في بلاد الآخرين.

بطبيعة الحال لم تكن تلك الحرب نزهة لشباب كانوا في زهرة العمر، أو سياحة لمن أحب التعرف على بلاد الآخرين، بل هي مواجهة تثقل على النفس روايتها، وأمّا الخوض فيها فهو أمرٌ عسير يشعر “تريلو” بالقرف الشديد، لأنَّ شريط الذكريات يمر أمام عينيه كلما تطرق لقصتها بالرواية.

أيام خلت صنعت ذاكرة حزينة لدى المجندين الخمسة، ورغبة في مغادرة تلك الأحداث الدامية لذاكرتهم التي عجَّت بمآسي الشعب الجزائري، حين احتلت فرنسا بلاده فترة طويلة من الزمن، وحين عادوا إلى فرنسا لم يعودوا لما كانوا عليه، بل لحقت بهم مشاعر الأسى، ولاحقتهم ضمائرهم، موقِظة أحلامهم من السبات. تلك قصص مجندين كسبوا المآسي والآلام، وأمَّا الجزائر فكسبت الحرية والاستقلال.