“عودة الوعي”.. فأس حول صنم عبد الناصر

للمثقف دورٌ هام في إنتاج الوعي لدى الشريحة الاجتماعية التي تشاركه الحياة، فهو يرى الأشياء كما هي دون أن تؤثر على مشاهدته لها أي محسّنات تضلل الرؤية، بخلاف غيره الذي سيعتقد بسبب دور الاعلام المسيس، أن السراب ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا بل وجد النصر هزيمة والعزة ذلا والقوة ضعفا.

 

ربما يحتاج المثقف لهامش من الأمن على حياته كي يعلن للناس الأسرار ويذيع الفضائح والأخبار، وبين أيدينا أحد برامج خارج النص الذي بثته قناة الجزيرة بعنوان “كتاب عودة الوعي” لتوفيق الحكيم، ذلك المؤلف الذي ظهر عام 1972 كاشفا عن حقيقة عهد الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر والهزائم التي حدثت في زمنه وعلى رأسها احتلال إسرائيل لأجزاء جديدة من الأرض العربية.

توفيق الحكيم.. الأب الروحي لثورة الضباط الأحرار

في عام 1933 نشر الكاتب والأديب المصري توفيق الحكيم رواية بعنوان “عودة الروح” وجاءت فيها فقرة تقول: ” إن هذه الأمة لن يقيلها من عثرتها إلا فتى من فتيانها”. تأثر الرئيس المصري جمال عبد الناصر بهذه الفقرة -وكان حينها ابن ١٧ عاما- فألهمته أن يكون ذاك الفتى، ولأجل هذه الرواية اعتبر توفيق الحكيم الأب الروحي لثورة يوليو عام 1952 التي قادها عبد الناصر وأسقطت الملكية في مصر.

توفيق الحكيم كاشف حقيقة عهد الرئيس المصري جمال عبد الناصر والهزائم التي حدثت في زمنه

وبعد الثورة بعشرين عاما أصدر الحكيم كتاب “عودة الوعي” عام 1972 متحدثا -كما تقول الكاتبة الصحفية بهيجة حسين- عن تدمير عبد الناصر لمصر من خلال حل الأحزاب وقتل القضاة وحروب عام 1957 وحرب اليمن وحرب عام 1967، فجاءت هذه الرواية كاشفة للمستور من الحقبة الناصرية واتهاما لعبد الناصر بمسؤولية غياب الوعي.

عبد الناصر.. معبود مصر وحاكمها الفرد

من المآخذ التي حملها “كتاب عودة الوعي” على عبد الناصر هو تفرده في الحكم والقرار؛ يقول توفيق الحكيم: هذه أول مرة في تاريخ مصر الحديث يحدث فيها أن يظهر معبود أراد أن يكون لإرادته في كل البلاد العربية من القداسة والعظمة والسلطة ما لم يكن يملكه الأنبياء والرسل.

“كتاب عودة الوعي” فضح دكتاتورية عبد الناصر وتفرده في الحكم والقرار

فقد شهدت سنوات حكمه لأول مرة اعتقال النساء، وكذلك زج المثقفين في الأسر عام 1958 فكانت تلك الحقبة شبيهة بالفترة الهتلرية والفاشستية، ويرد على هذه الأوصاف المؤرخ محمد الشافعي قائلا: “اختار عبد الناصر الوسطية ورفض التطرف بشكليه الديني المتمثل بالإخوان المسلمين والدنيوي المتمثل بالشيوعيين”، لذلك فلا يمكن أن يكون عنصريا مثل هتلر أو فاشيا مثل نظام موسيليني.

يذكر الكتاب أن عبد الناصر لم يكن رجل سياسة، فهو لا يسمع إلا لنفسه فقط، وأما السياسي فيجب أن يستمع أيضا لآراء الآخرين، ولم يستفد من لقائه بالديمقراطي “نهرو” أول رئيس وزراء للهند بعد الاستقلال، ولم تنفعه لقاءاته بالشمولي “تيتو” أول رئيس لجمهورية يوغسلافيا، وقد كانا ينصحانه دائما بالتزود من الحكمة، وفي نقيض تلك النصائح في مؤتمر “باندونغ” لحركة عدم الانحياز عام 1955 قال “نهرو” إن أكبر الرابحين هو جمال عبد الناصر.

“إزالة آثار العدوان أكبر من الجلاء”.. تغليف الهزائم بثوب الانتصار

ينتقل بنا مخرج الفيلم إلى مشاهد من حرب عام 1967 التي مُنيت فيها الجيوش العربية بخسائر فادحة كلفتها احتلال إسرائيل لبعض الأراضي العربية الجديدة، وفي خضم أحداث الهزيمة يخرج عبد الناصر إلى الإعلام قائلا: إزالة آثار العدوان أكبر من الجلاء عن سيناء.

إعلام النظام المستبد لا يرى في هزائم الزعماء إلا انتصارات وهمية يسوقها على الشعوب العمياء

ربما كانت تلك الهزيمة بسبب انفراد عبد الناصر بالقرار، وهذا ما حذر منه الحكيم في رواية بعنوان “السلطان الحائر” عام 1959، ولكن دون أن تجد تحذيراته أي صدى في أروقة السياسة المصرية، ومن المشكلات التي عانت منها سياسة عبد الناصر آن ذاك تغليف الهزائم بثوب الانتصار. يقول الروائي إبراهيم عبد المجيد: “استمرار ادعاء النصر يجعل المدعي مع الوقت يؤمن بما ادعاه وإن كان مجانبا للحقيقة”، وهذا ما حدث مع عبد الناصر.

قداسة عبد الناصر.. مناكفات حول الكتاب

تعرض الكتاب ومؤلفه لهجوم مضاد، فاعتبره البعض انقلابا من الحكيم على عبد الناصر الذي قلّده في عهده أرفع وسام في مصر، ويرى آخرون أن في الكتاب تملقا للنظام الجديد ممثلا في أنور السادات، ويجمع الناقد الأدبي مدحت صفوت بين فترة إصدار الكتاب وانتقادات وزير خارجية الولايات المتحدة الامريكية “كسينجر” لعبد الناصر، وكذلك اتُهم الحكيم بسعيه للحصول على جائزة نوبل.

توفيق الحكيم يتهم نفسه والمفكرين بالاتباع الأعمى لعبد الناصر كونه قام فقط بثورة ضد الملكية

واجه الحكيم منتقديه بالرد على شبهاتهم في طبعاته الجديدة للكتاب بكل موضوعية، ومن ضمنها اتهام أشهر الصحفيين المصريين والعرب حسنين هيكل الذي وصفه بالخوف والنفاق في عهد عبد الناصر بقوله: إنّ من يتعرض لقداسة عبد الناصر سوف يجد من يهبّ بالدفاع عنه بالحق وبالباطل، ذلك أن الراكبين على جواد عبد الناصر في كل مكان هم دائما أكثر الرابحين.

كثير من هذه المناكفات التي كان مسرحها الصحافة والإعلام تناولت الكتاب والتشكيك في شخص مؤلفه ومنها اتهام العالم والمفكر محمود أمين كتاب توفيق الحكيم بأنه سلاح خطير وغذاء مسموم معادٍ للتجربة الناصرية ومنجزاتها الكبيرة.

يقف الحكيم أمام هذه العاصفة من التشكيك داعيا المنتقدين لأسلوبه ومضمونه بالعودة إلى حقيقة الحقبة الناصرية قائلا: تبقى التهم في صميمها باقية، والجرائم في حقيقتها قائمة، والتساؤل الدائم هو: هل وقعَت أم لم تقع؟ هل ارتُكبت أو لم ترتكب؟ هنا كل القضية من يملك الإجابة الجادة فليتقدم بالوثائق، أما غير ذلك فمهاترات وشعارات.

ما أريكم إلا ما أرى.. عهد تكميم الأفواه

لم يستطع أحد في عهد عبد الناصر أن يقول غير الذي يراه الرئيس، فضلا عن انتقاد نظام حكمه، وإلا تعرض للسجن أو الطرد من البلاد، في ذلك الزمن يقول الحكيم: كانت المعارضة تُشوّه من قبل الناصريين، بحيث تُلصق بصاحبها الخيانة أو الانحراف أو العمالة الأجنبية أو العقائد التخريبية.

لطالما اتصف العهد الناصري بالدكتاتورية التي جعلت منه زعيما عربيا لا مثيل له

وعلى الرغم من ذلك، يشير الكاتب والصحفي ماهر حسن إلى عدة مؤلفات أصدرها توفيق الحكيم في الحقبة الناصرية مثل رواية “السلطان الحائر” منددا باستخدام السيف بدلا عن القانون، وكذلك رواية “حمار الحكيم” التي تُصنّف نقدا اجتماعيا وسياسيا، ورواية “بنك القلق” التي يعبّر فيها عن حال المجتمع وقلقه في عهد عبد الناصر وملاحقة الأجهزة الأمنية لأي محاولة لتعبير الشعب عن قلقه.

قيمة الحرف من قيمة كاتبه.. تاريخ أدبي غزير

على الرغم من غزارة الإنتاج الأدبي لتوفيق الحكيم فإن كتاب “عودة الوعي” ما زال محل جدل واسع ومتجدد، ويرى ناقدو الكتاب أن الحكيم كاتب كبير خانه التوفيق، وكتابه يمثل خطأ مقصودا، ومع ذلك فهو لا ينتقص من مجمل تاريخه شيئا.

الصحافة الناصرية هاجمت توفيق الحكيم بشدة مدعية أنه يسوق نفسه لجائزة نوبل

وتكمن أهمية الكتاب -كما يراها الروائي إبراهيم عبد المجيد- في كاتبه وهو مثقف كبير له وزنه المصري والعالمي وكتاباته تصل إلى الناس أكثر من كل المراجعات لثورة يوليو/تموز والحقبة الناصرية برمتها.

أراد توفيق الحكيم أن يكشف عن حقبة زمنية لها ما لها من حسنات وعليها ما عليها من سيئات، تلك فترة لم تكن بدعا في تاريخ مصر بل عقبها نظام قال رئيسه أنور السادات في أول خطاب له: “إن للديمقراطية أنيابا أشرس من الديكتاتورية”، أراد الحكيم أن ينزع القداسة عن الرموز البشرية التي وضعت نفسها في علياء لا يصلها كافة البشر، معتبرا أن محاسبة الرمز المتهم حقّ من حقوق الأمة.