“في الشعر الجاهلي” لطه حسين.. عاصفة التشكيك في القرآن والعرب والأنبياء

 

أثار كتاب “في الشعر الجاهلي” للدكتور طه حسين عاصفة فكرية امتدت عقدا كاملا، وانطلقت معركة حامية الوطيس بدءا من العام 1926، وانتشرت في مصر وخارج حدودها لتشمل العالم العربي والإسلامي بأسره.

خُصصت هذه الحلقة من برنامج “خارج النص” الذي تبثه قناة الجزيرة لتناقش الكتاب الذي ما زالت النقاشات تثار حوله، ولا يزال الجمهور العربي منقسما تجاهه إلى فسطاطين أحدهما مؤيد انحاز لأفكار الكاتب ورحب بها وبجرأتها، والآخر معارض اعتبرها خروجا على ثوابت الأمة وتطاولا على الدين الإسلامي.

 

حوى الكتاب عددا من الفصول التي كان لها وقع حاد على الحياة الثقافية، متبعا مبدأ ديكارت، فقد شكك طه حسين بالشعر الجاهلي ورأى أنه موضوع، وأن المسلمين انتحلوه بعد الفتح لأسباب دينية أو سياسية وأخرى قبلية.

واتخذت هذه المعركة طابعا حزبيا أيدولوجيا، فهاجمته صحف الوفد وطعنت في كتابه، وعلى رأسها جريدة كوكب الشرق. وعلى الضفة الأخرى وقفت جريدة السياسة الناطقة باسم حزب الأحرار الدستوريين داعمة مدافعة عنه لأنه أحد مفكري الحزب البارزين.

لم يرض زعيم حزب الوفد ورئيس النواب آنذاك سعد زغلول عن طه حسين وكتابه، لكنه انتصر لحرية التعبير وطلب من نائبه عبد الحميد أفندي سحب الاستجواب، غير أن النائب رفض الامتثال لمطالب سعد زغلول، فهدد الأخير بالانسحاب من المجلس وسحب وزرائه، فرضخ نائبه لمطلبه.

خرجت الكثير من الدراسات والكتب والمقالات التي ردت على كتاب طه حسين، وقُدمت عدد من الشكاوى ضده للمطالبة باستجوابه، فنجحوا في معركتهم وسُحب الكتاب من الأسواق.

أحدث الكتاب ضجة فكرية ومنهجية لما طرح فيه. يقول الباحث الدكتور أحمد كريم: تتلخص فكرة الكتاب في عدم الاعتراف بكل النصوص التي وصلتنا من الشعر الجاهلي والتشكيك في صحتها وفي وجود الشعراء الجاهليين.

ركز كتاب طه حسين على أشعر شعراء العصر الجاهلي امرؤ القيس، فقد شكك في وجوده التاريخي

امرؤ القيس.. محور التشكيك

يحاول طه حسين في الكتاب من البداية وحتى النهاية الإجابة على ثلاثة أسئلة: من هم العرب في التاريخ، وما هو تاريخهم، وما هو تاريخ لغتهم؟

ركز الكتاب على أشعر شعراء العصر الجاهلي امرؤ القيس، وقد شكك في وجوده التاريخي. يقول طه حسين في الكتاب: “ما أدرانا أن يكون امرؤ القيس موجودا أصلا، وهذا البحث ينتهي بنا إلى أن أكثر هذا الشعر الذي يضاف لامرئ القيس ليس من امرئ القيس في شيء، وإنما هو محمول عليه حملا ومختلق عليه اختلاقا، حمل بعضه العرب أنفسهم، وحمل بعضه الآخر الرواة الذين دونوا الشعر في القرن الثاني الهجري”.

ومن هذا المنطلق، اعتبر طه حسين أن شعراء الجاهلية أما أنهم غير موجودين أو أن الشعر المنسوب إليهم لم يكن لهم.

ويرى أستاذ الأدب الدكتور إبراهيم عوض أنه ليس من المعقول أن يأتي طه حسين بفكرة ومن ثم يدعي أنها علمية، فإذا كان الأمر كذلك، فمن الواجب أن يكون لديه أسباب قاطعة تدفعه لذلك، فلا يوجد تبرير للتشكيك بامرئ القيس.

دعم طه حسين فكرته القائمة على التشكيك في الشعر الجاهلي بإثارة مسألة لغة التدوين، وتساءل: كيف كان التدوين باللغة العربية الفصحى وهي لغة القرآن رغم تعدد اللهجات في شبه الجزيرة العربية؟ ولم يجد تفسيرا سوى أنه دُوِّن من قبل المسلمين.

يقول في كتابه: “فإذا صح هذا كله، فمن المعقول جدا أن يكون لكل قبيلة من هذه القبائل العدنانية لغتها ولهجتها ومذهبها في الكلام، وأن يظهر اختلاف اللغات وتباين اللهجات في شعر هذه القبائل الذي جاء قبل أن يفرض القرآن على العرب لغة واحدة ولهجات متقاربة”.

ويرى أستاذ الأدب الدكتور عايدي أن هناك لغة عليا لكتابة الشعر ونمذجته يتفق عليها الجميع في كتابة القصيدة، وعلى الرغم من اختلاف اللهجة، فلغة الكتابة واحدة عند الشعراء. بينما يعتبر الدكتور مدحت الجيار أن طه حسين كان محقا في هذه الجزئية لأن الشعر الجاهلي لم يدوّن إلا بعد جمع القرآن، إذا فالراوي في هذه الحالة عربي مسلم.

اتبع طه حسين المستشرق “كليمان هور” في ادعائه أن شعر أمية بن الصلت يشبه القرآن في كثير من تجلياته

أمية بن الصلت.. ادعاءات مستشرق فرنسي

ادعى المستشرق “كليمان هور” في إحدى مقالاته بمجلة الجمعية الآسيوية الملكية عام 1904 أن شعر أمية بن الصلت يشبه القرآن في كثير من تجلياته، ويحتوي -كما القرآن- شيئا من سير الأولين مثل هود وثمود.

وذهب طه حسين إلى هذا المنحى فقال: “ولكن في شعر أمية بن الصلت أخبار وردت في القرآن كأخبار ثمود وصالح والناقة، ويرى الأستاذ هور أن في ورود هذه الأخبار في شعر أمية بعض المخالفة لما ورد في القرآن دليلا على صحة هذا الشعر من جهة وعلى أن النبي استقى من أخباره من جهة أخرى”.

حصر طه حسين المسألة بين أمية والرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وليس بين أمية والوحي، لذا اعتبر مصطفى الرافعي أن طه حسين يتهم الرسول محمد من طرف خفي أنه أتى بالقرآن من عنده.

يقول طه حسين في كتابه “مرآة الحياة الجاهلية”: “يجب أن تلتمس من القرآن لا من الشعر الجاهلي، ذلك أني لا أنكر الحياة الجاهلية وإنما أنكر أن يمثلها هذا الشعر الذي يسمونه الشعر الجاهلي، فإذا أردت أن أدرس الحياة الجاهلية، فلست أسلك إليها طريق أمرئ القيس والنابغة والأعشى، وإنما أسلك أليها طريقا أخرى وأدرسها في نص لا سبيل إلى الشك في صحته، أدرسها من القرآن فالقرآن أصدق مرآة للعصر الجاهلي”.

يشكك طه حسين في شعر الحياة الجاهلية ويرفض شعر امرئ القيس والنابغة والأعشى دليلا عليها

العرب المستعربة.. التشكيك بوجودهما وبإبراهيم وإسماعيل

كما تعرض طه حسين بالشك في قصة الوجود التاريخي للنبيين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، ورمى بسهام شكّه في قصة هجرة إسماعيل إلى مكة ونشوء العرب المستعربة بها، وهي من أبرز الإشكاليات في كتابه.

يقول: “للتوراة أن تحدثنا عن إسماعيل وإبراهيم، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين في التوراة والقرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة التي تحدثت عن هجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها”.

ذهب طه حسين لتكذيب حديث القرآن عن إبراهيم وإسماعيل، واعتبر أنه ليس دليلا كافيا على وجودهما بالفعل، ويؤكد الدكتور إبراهيم عوض أن القرآن لم يربط دينه بإبراهيم فحسب، ولكنه نزل على جميع الأنبياء من قبل، وهذا ليس دليل إدانة.

ويضيف أن كلام طه حسين كلام سائب ومرسل لا يستند إلى دليل، كما أنه شكك في نسب رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وكان أسلوبه يفتقر إلى اللياقة الأدبية، ووجب عليه احترام المسلمين.

ويعتبر الدكتور محمود خليل مدير إذاعة القرآن الكريم، أنه لا يوجد في الكتاب مكان خير، فهو لم يترك للعرب فضيلة إلا وازدراها، ولم يترك موقفا أو شخصا إلا عابه، حتى النبي الله محمد صلى الله عليه وسلم لم يسلم منه.

واتهم محمود خليل طه حسين بأنه مجرد ناقل لأفكار المستشرقين ومروّج لها، وأن تلك الأفكار تعود للمستشرق البريطاني ديفيد صموئيل مارغليوث.

ويرى أستاذ الأدب الدكتور مدحت الجيار أن تلك الفكرة مضحكة، لأن مارغليوث نفسه أخذها من أصول فرنسية وما هو إلا ناقل لبعض المفاهيم الفرنسية، وقد قام طه حسين بقراءتها من مصدرها الفرنسي، وقرأتها له زوجته.

ويؤكد الدكتور عبد المنعم تليمة أن القضية أثيرت قبل ذلك بكثير قبل 1300 عام من قبل ابن سلام الجمحي، وهي قضية عربية الأصل رددها طه حسين.

وأيا كان مصدرها، فقد قامت جريدة الأهرام المصرية عام 1986 بنشر مقالة مترجمة لمارغليوث برأ فيها ساحة طه حسين من السرقة، وقال إن ما جاء به طه حسين من بنات أفكاره.

العديد من الكتب هاجمت كتاب طه حسين وعلى رأسها كتاب “تحت راية القرآن” لمصطفى صادق الرافعي

تحت راية القرآن.. محاكمة الكتاب والكاتب

ظهرت عدد من الكتب التي هاجمت كتاب طه حسين، ويأتي على رأسها كتاب “تحت راية القرآن” لمصطفى صادق الرافعي، وكتاب “الشهاب الراصد” لمحمد لطفي جمعة، وكتاب “نقض كتاب في الشعر الجاهلي” لمحمد الخضر حسين، وكتاب “النقد التحليلي لكتاب في الأدب الجاهلي” لمؤلفه محمد الغمراوي.

واعتبر شيوخ الأزهر أن كتاب طه حسين مليء بالزندقة والإلحاد، وهو دليل على مروق مؤلفه، وأنه يعمد أن يهدم المعلوم من الدين بالضرورة.

وارتفعت الأصوات المطالبة بمحاكمة طه حسين، ورأى علماء الأزهر أن على الدولة أن تتخذ موقفا مما جاء في الكتاب من نصوص وأفكار صادمة لمشاعر المسلمين.

وفي الخامس من يونيو/حزيران 1956، أرسل شيخ الأزهر مرسوما خطيا للنائب العمومي محمد بيك نور، وتضمنت المذكرة رأي علماء الأزهر واعتراضهم على الكتاب مطالبين بتقديم طه حسين للمحاكمة.

وبالفعل مثل طه حسين للتحقيق أمام النائب العام، وكان الاتهام الموجه إليه هو إهانة الدين الإسلامي والتشكيك في نسب إبراهيم وإسماعيل.

وكان رد طه حسين على تلك الاتهامات أن ما كتبه مجرد فرضيات علمية وضعها لخدمة البحث على المستوى العلمي، لكن على المستوى الإنساني رأى أن ما جاء به القرآن صحيح.

كان النائب العام عنيفا في الرد على طه حسين وأنه صدم الأمة بأعز ما لديها، وقال إنه أساء ولوث نفسه بالخوض في هذه المسألة.

أما بالنسبة لما قاله عن الوجود التاريخي لسيدنا إبراهيم وإسماعيل لم يوجه إليه اتهاما بل عاب عليه سوء التعبير وسوء العرض.

ويرى الدكتور عبد المنعم تليمة أن محمد بيك نور عامل طه حسين بكل احترام وكتب في التقرير: “الأستاذ الجليل باحث وعالم ويفتش في التاريخ المروي والمدون عن سند تاريخي أو وثيقة ليجد ما يبحث عنه”، لكنه اعتبر أن محمد بيك كان محاصرا.

ويرى البعض أن المحكمة كانت مساندة له لأبعد حد، حتى أن محمد بيك كان يقول الكلمة وعكسها ويدينه ثم يعود ليبرئه.

لقد انتهى التحقيق وتمت تبرئة طه حسين، وسحب الكتاب من الأسواق لكن أعيد نشره تحت مسمى جديد، وبقي حاضرا بقوة على الساحة الفكرية حتى يومنا هذا.

ويرى مهاجموه أن الكتاب لو لم يتعرض للإسلام لن يأبه به أحد. بينما يرى آخرون في الكتاب باعثا لنهضة العقل العربي وإفاقته من كبوته.