“عدم الانحياز”.. قصة العين السينمائية التي وثّقت حرب التحرير الجزائرية

تستلهم المخرجة الصربية “ميلا تورايليتش” مواد فيلمها الوثائقي الجديد “عدم الانحياز” من لقطات ومشاهد أرشيفية نادرة يمتد عمرها إلى 60 عاما لم تُعرض من قبل، ومن المذكرات الشخصية غير المنشورة لـ”ستيفان لابودوفيتش”، المصور الخاص للرئيس اليوغسلافي الراحل “جوزيف بروز تيتو”، ومن ثماني مقابلات جديدة أجرتها مع أصدقاء للمصور “لابودوفيتش” ومعاصريه في بلغراد والجزائر ونيويورك، خاصة أنه أمضى ثلاث سنوات ونصفا مع جيش التحرير الجزائري وهو يوثق لحرب الاستقلال.

ونظرا لدأبه وشجاعته وإخلاصه للمهمة التي أسندها الزعيم “تيتو” إليه، فقد أُطلق على “ستيفان لابودوفيتش” لقب “العين السينمائية لحرب الجزائر”، وهو توصيف يُراد به الدقة والإحاطة والشمول، ومثل هذه العين الساحرة لا تفرُّ منها شاردة أو واردة.

فحينما ذهبت “ميلا تورايليتش” في زيارتها الأولى إلى الجزائر، شعرت بأنها تقوم برحلة عبر الزمن؛ رحلة أرجعتها إلى طفولتها البريئة الناصعة في يوغسلافيا الاشتراكية، فالطريقة التي يُروى بها التاريخ في المتحف العسكري الجزائري أعادت إلى ذهنها المتوقد مشاهد مألوفة ترّبت عليها في مقارعة الاحتلال الأجنبي.

وبينما كانت تتجول في أروقة هذا المتحف العسكري، صادفت عددا من الطلبة اليافعين يتلقون دروسا خاطفة عن الشخصيات الجزائرية التي قاتلت المحتلين الفرنسيين، فقفزت إلى ذهنها مشاهد المقاومة اليوغسلافية ضد النازيين في الحرب العالمية الثانية، مع فارق ضئيل هو أن ما تراه الآن وتسمعه يشبه رؤية قصة تعرفها جيدا، لكنها تُروى بلغة تجهلها تماما.

بوستر فيلم “لابودوفيتش”

لكن ثمة مفاجأة أذهلتها حقا حينما اكتشفت أنّ واحدا من أبناء بلدها قد أصبح جزءا من قصتهم الجزائرية التي تظل ناقصة من دون الإشارة إليه. فمُعلّمة التاريخ تقول إنّ هذه الكاميرا المحفوظة بعناية فائقة تعود لشخص يوغسلافي صديق للشعب الجزائري اسمه “ستيفان لابودوفيتش” كان يُصوِّر بهذه الكاميرا ليوثِّق مأساة الشعب الجزائري للعالم أجمع.

ومما ضاعف دهشة المخرجة “تورايليتش” أنّ هذا المصور اليوغسلافي الذي يبلغ من العمر 87 سنة، يعيش في بلغراد، نفس المدينة التي تقيم فيها، لكنها لم تسمع عنه قط مع أنه يُعدّ أفضل مصور في يوغسلافيا، ولعل فارق السن الكبير بينهما هو الذي خلق هذه الفجوة بينها وبين بطلها الذي سيحظى بحصة الأسد بين الرواة السبعة الذين يؤثثون المتن السردي للقصة السينمائية التي توثق لفيلم “عدم الانحياز.. مشاهِد من أشرطة لابودوفيتش” (Non-Aligned: Scenes from the Labudovic Reels).

والأغرب من ذلك أنّ الرئيس اليوغسلافي “جوزيف بروز تيتو” هو الذي اختاره سنة 1960، لدعم الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي. فقد كان مُصوره الشخصي بدءا من عام 1954 وحتى وفاته عام 1980م، وقد قام “لابودوفيتش” بـ56 رحلة زار فيها 55 دولة مختلفة مع رئيسه الذي كان نشطا وفاعلا في الساحة الدولية.

قبعة مزّقها الرصاص.. شاهدة على أيام الثورة الجزائرية

تتمحور مهمة “لابودوفيتش” على التصدي للدعاية الفرنسية ورفع معنويات المقاتلين الجزائريين طوال الفترة التي أمضاها هناك (ثلاث سنوات ونصف)، وقد أجرت المخرجة مقابلات حميمية معه ومع معاصريه من الثوريين الذين كرّسوا حياتهم للدفاع عن شعبهم ووطنهم، وقد رافقهم في السهوب والجبال والغابات وهم يتدربون ويقاتلون القوات الفرنسية، حتى أوشك أن يضحّي بحياته ذات مرة.

وإذا كان بعض الجزائريين يتخوفون من الصحفيين والمصورين والإعلاميين الأجانب فإن “لابودوفيتش” كان خارج هذه التخوفات، لأن الزعيم “تيتو” هو الذي اختاره بنفسه، ولأنّ المقاومين الجزائريين يثقون به ثقة عمياء لا تخالطها الشكوك.

تتنقل المخرجة “تورايليتش” بين صربيا والجزائر وتونس وأمريكا، لتنقل لنا حقائق دامغة في كل مدينة يطؤها أبطال هذا الفيلم الوثائقي الذي يجمع بين الرحلة والتاريخ والحرب والاستقصاء والطريق وصناعة الأفلام وما إلى ذلك.

ويمنح “لابودوفيتش” كل شيء مسحة رمزية يطعّمها بالتاريخ، فحتى قبّعته التي ضاقت وأراد أن يوسّعها قليلا، تحمل نفحة من التاريخ لحرب التحرير الجزائرية، فقد أُصيبت بشظية صغيرة ثقبتها من الجانب الأيسر، ومع ذلك فقد ظل يعتمرها طوال المدة الكاملة التي أمضاها مع مقاتلي الثورة الجزائرية.

ومع أنّ هذه القبّعة كانت متسخة ومنقعة بالعرق، فإنه كان يرفض أن يغسلها كي لا تتلف بسرعة، لكن زوجته وضعتها في الغسّالة يوما من دون أن تعرف أنّ التاريخ يمرّ عبر نسيجها الذي اخترقته الشظية الفرنسية، فظل يحتفظ بها حتى أودعها في المتحف العسكري الجزائري، شاهدةً على وحشية القطاعات الفرنسية التي لم تتورع عن استعمال الأسلحة المحرّمة كالنابالم وغيره ضد الثوار الجزائريين.

وقد بدأت الأمم المتحدة تناقش القضية الجزائرية التي ذاع صيتها في كل مكان، لكن الحكومة الفرنسية -كأي دولة استعمارية- رفضت المشاركة في الحوار، مُدعيةً بأنّ الفرنسيين يحلّون المشكلة الجزائرية على طريقتهم الخاصة، الأمر الذي دفع الجزائريين لأن يثوروا ويحوّلوا الانتفاضة إلى ثورة عارمة.

كاميرا المقاومة.. عدسة تكشف زيف الإعلام الفرنسي

يتحدث “لابودوفيتش” عن الأيام الأولى التي وصل فيها إلى الجزائر، فقد شرع بتصوير جيش التحرير الوطني حين نُقل مع وحدة مقاتلة كبيرة إلى إقليم الأوراس. فلم يمتلك الجزائريون في بادئ الأمر “الجريدة السينمائية” أو نشرة الفيلم الإخباري مثل الفرنسيين الذين يموهون الحقائق، ويسردون للناس قصصا كاذبة، من قبيل أن الشعب الجزائري قد ساعد الجيش الفرنسي، بينما لم يأتوا على ذكر القصف والتعذيب الوحشي للأسرى الجزائريين الذين يقعون بين أيديهم.

لذا لم يستغرب “لابودوفيتش” الأساطير والخرافات التي يختلقها الإعلام الفرنسي الاستعماري، لأنها أمرٌ مفروغ منه. بينما ترصد الأفلام والنشرات الإخبارية التي يُعدها “لابودوفيتش” التعايش السلمي بين القوميات والأعراق والديانات والمذاهب في هذا البلد الكبير جغرافيا الذي تفوق مساحته حجم فرنسا 4 مرات، وهي الدولة الغازية المحتلة التي عذّبت المواطنين الجزائريين وشوهتهم، وضربتهم بالنابالم المحّرم دوليا.

من لقطات “لابودوفيتش” المتفرقة التي جمعها في هذه الصورة

وتصحح “مايا بلاسفيتش” التي تعمل في الصليب الأحمر اليوغسلافي بعض المعلومات المتعلقة بوجوده في تونس قبل أن يلجأ إلى الأراضي الجزائرية، وكانت قد أخذت فكرة واهمة عن مناخها، فتصورته حارا جدا مثل وسط وجنوب القارة السمراء، فلا غرابة أن تذهب في شهر ديسمبر/ كانون الأول وهي مرتدية ملابس صيفية، ثم اكتشفت بنفسها الجبال العملاقة على الحدود التونسية الجزائرية، حيث استقبلت عددا من المقاتلين المصابين.

وكانت تلك المرة الأولى التي تلتقي فيها بالمصور الجسور “لابودوفيتش” الذي سيكون ندا كبيرا للإعلام الفرنسي الذي كان يعد الجزائر جزءا لا يتجزأ من فرنسا.

فقد استقبلت يوغسلافيا (سابقا) عددا كبيرا من الجرحى والمصابين بالحروق والكسور في أوائل عام 1960 وأعادت تأهيلهم. كما صورهم “لابودوفيتش” وعرض أفلامهم الإخبارية لاحقا، وكان حريصا على أن يضع “مايا بلاسفيتش” في غالبية اللقطات والمشاهد، حتى أنها أصبحت نجمة معروفة يُشار إليها بالبنان.

“لابودوفيتش”.. ذو الشارب العربي الذي يموّه ملامحه الأوروبية

تعترف “روزيكا” بأنّ زوجها “لابودوفيتش” كان إنسانا مغامرا، سافر إلى أماكن خطرة جدا، وكان يحب كاميرته إلى درجة العبادة، ولا تجد حرجا في القول إنه قد اقترن بكاميرته، وقد عززت لنفسها ذلك الشعور، وليس لديها ما تخاف عليه، فهي لم تشكُ ولم تتذمر أثناء، بل إنها لم تتصل مرة واحدة لتسأل أين زوجها، لأنها مُدركة تماما بأنه يحتضن كاميرته في مكان ما من عمله الذي يحبّه إلى حدّ الشغف.

صورة للمصور “لابودوفيتش” بالزي العسكري الجزائري

وتتابع “روزيكا” مع المخرجة “تورايليتش” أحد الأفلام التي صُوِّر فيها “لابودوفيتش” يوم كان شابا نحيلا ابن 32 سنة، وقد نما شاربه وصار يشبه رجلا عربيا يموّه به هيأته الأوروبية، وقد كتب في دفتر مذكراته بأن رشيد هو الذي صوّرهم بيد مرتجفة، ثم تلقّف “لابودوفيتش” الكاميرا، واستمر بتصويرهم مع الرئيس فرحات عبّاس، الزعيم الوطني وأول رئيس للحكومة الجزائرية المؤقتة. وقبل أن يتبوأ هذا المنصب الرفيع كان مسؤولا عن الدعاية، ويروّج للعروض والتقارير الدعائية لجيش التحرير الجزائري.

وقد كان “لابودوفيتش” مغامرا بمعنى الكلمة فقد صوّر في 30 مايو/ أيار 1960 القاعدة العسكرية الفرنسية في “عين زانة” من مسافة 300 م. ولكم أن تتصوروا حجم المجازفة التي كان يقوم بها على مقربة من أعدائه الذين يتحينون الفرصة للقبض عليه.

تلتقي المخرجة مع “هومونا أبو الأعراس”، وهو مقاتل في جيش التحرير الجزائري من مواليد 14 مارس/ آذار 1940م، وكان قد التحق بجيش التحرير الوطني عام 1957 عندما كان عمره 17 سنة. وقد طلبت منه أن يتحدث لها عن مدينة “غارديماو” (غار الدماء) التي تقع شمال غربي تونس على الحدود الجزائرية، فذكر بأنها مدينة تضم مقر القيادة التي ينظّمون فيها أنفسهم ويخططون للقتال. وقد أرتنا المخرجة متحف الذاكرة المشتركة التونسية الجزائرية الذي كان مقرا سابقا لجيش التحرير الوطني.

“لا قوة على الأرض تكبح توق الناس للحرية”

تتصل المخرجة “ميلا تورايليتش” بعدد من أصدقاء “لابودوفيتش” الحميمين، بعضهم فارق الحياة مثل السيد “بيكا” وبعضهم الآخر ما يزال محتفظا بصحته مثل فرحات بن رحّال الذي أخذوه إلى “ماكويز” وهو ابن 19، وحين بلغ 25 أصبح موظفا أقدم في هيئة الرئاسة. وبعد سنتين أصبح رئيس قسم في وزارة الدفاع الوطني ضمن جيل فريد يقود ثورة متميزة.

وبما أنّ الفرنسيين كانوا يسعون بشكل حثيث لتشويه سمعة الثوار، فقد أسموهم بـ”الفلاقة” (أي الذبّاحون بالسكاكين). وقد اجترحوا هذه التسمية بسبب الحقد والضغينة على المتمردين والثائرين المنهمكين بتحرير البلاد من الاحتلال الفرنسي.

المخرجة “ميلا تورايليتش” تدقق مع “لابودوفيتش” تفاصيل السفر وتتتبع سيرته الذاتية والإبداعية

ويستذكر فرحات الطريقة التي كانوا يعرضون بها أفلامهم في الغابة، فكانوا يثبتون قماشا أبيض بين شجرتين، ويربطون جهاز العرض على مولّدة كهربائية، ويشاهدون فيلما واحدا في كل أسبوع تقريبا. وغالبا ما تكون هذه الأفلام حربية أو من نوع أفلام الغرب الأمريكي (Western)، والهدف منها الترويح عن المقاتلين ورفع معنوياتهم، والتخلص من مشاكلهم وهمومهم اليومية.

ويؤكد فرحات بأنه جلب أفلاما عن المقاومة اليوغسلافية، لأنّ الجزائريين يحبون الرئيس “تيتو” كثيرا، إضافة إلى أوجه الشبه الكثيرة بين المقاومة اليوغسلافية ضد الألمان والمقاومة الجزائرية ضد الفرنسيين. وقد لعبت هذه الأفلام دورا مهما في تعزيز الروح المعنوية لدى المقاتلين الجزائريين.

ثم يُحيطنا عرفات علما بأن لديه غرفة عرض للأفلام في مدينة غارديماو، وهي البداية التي انطلقت منها “نيوزريل” (Newsreel)، الجريدة السينمائية الجزائرية التي تبنّت الرد على حرب فرنسا النفسية خلال تلك السنوات العصيبة من تاريخ الجزائر. وقد استطاعت الدعاية الفرنسية غسل أدمغة الكثير من الناس، فاتهموا المقاومة الجزائرية بالابتزاز وقطع الرقاب والسرقة، والقيام بالعمليات الإجرامية، وما إلى ذلك من تُهم باطلة.

وقد استطاعت الجريدة السينمائية الجزائرية الفتيّة أن تصوّر كثيرا من الأفلام الإخبارية، وتعرضها على مستوى عالمي. فثمة فكرة مهيمنة يمكن تتبعها على مدار الفيلم، مفادها أن “لا قوة على الأرض تستطيع أن تكبح توق الناس للحرية”.

“صوت العرب”.. إذاعة مقاوِمة خلف النوافذ المغلقة

تلتقي المخرجة بالأمين بشيشي، أول مدير لإذاعة الجزائر بعد الاستقلال، ويُذكرّنا بأنّ هذا الراديو قد انطلق في 6 ديسمبر/ كانون الأول 1956، وأنهم قرروا أن يصلوا إلى عامة الناس، وقد أسموه “صوت العرب”.

كان الناس يغلقون نوافذهم حينما يريدون الاستماع إلى هذا الراديو لأنه ممنوعا، لكنه كان يلبّي شغفهم ويستجيب لتطلعاتهم الفكرية، لا سيما أن قرّاء الصحف والمجلات محددون، ذلك لأنّ الأمية كانت متفشية، فتضاعفت الحاجة للمذياع، وخاصة للمرأة الجزائرية التي لم تستطع أن تذهب إلى المدرسة لأسباب كثيرة، لكنها تستطيع أن تستمع إلى المذياع، وتفهم منه أشياء كثيرة.

كما تتحفنا المخرجة بواحدة من إطلالات المذيع الجزائري عيسى مسعودي، وهو يتحدث عن صوت الجزائر التي يناضل شعبها الأبي من أجل الحرية والاستقلال.

المصور “لابودوفيتش” ونظرة على الأشرطة التي صورها في أثناء تواجده في الجزائر إلى جانب جيش التحرير الجزائري

وفي السياق ذاته تتوقف المخرجة عند ألبومين غنائيين ساهمت يوغسلافيا بطبعهما طباعة أنيقة، ويتضمن كل ألبوم عمودين؛ يحتوي الأول على أغان مشهورة، ويشتمل الثاني على أغان وطنية، خاصة أنّ عددا من البلدان الأفريقية كانت ترزح تحت الاستعمار الأوروبي، وتحتاج إلى هذا النمط من الأغاني والأناشيد الوطنية.

تُطعّم المخرجة “تورايليتش” فيلمها بإطلالة محببة للمطربة الجنوب أفريقية “ميريام ماكيبا” الملقبة بـ”ماما أفريقيا” التي يستذكرها بشيشي، فهو من كتب لها كلمات أغنيتها المعروفة “أفريقيا” التي تقول:

من ضحايا الليل في الجنوب
من زفير الأرض والقلوب
من الجنوب إلى الشعوب الأفريقية
وبناة الحرية..

وجه المقاتل الشهيد.. لمسات فلسفية من عمق المأساة

لا يخلو الفيلم من لمسات فلسفية عميقة هنا وهناك، فذات يوم كان “لابودوفيتش” يصور جنازة شهيد ارتقت روحه إلى السماء. وبينما كان يتأمل وجه المقاتل الشهيد الذي يبدو نائما، أيقن بأنّ الحياة لا تعني شيئا، وأنها يمكن أن تنطفئ عند أي إنسان في لحظة خاطفة، لينتهي بعدها كل شيء.

وعلى كثرة هذه المواقف التشاؤمية، فقد كان يمسك أعصابه، ويعوّد نفسه على هذه المواقف الصعبة ليعانق الأمل، والتفاؤل، وحُب الحياة وإن فاضت مرارتها اللاذعة في بعض الأحيان.

ومع أهمية وجود “لابودوفيتش” مع جيش التحرير الوطني الجزائري، فإن مشاركة الزعيم اليوغسلافي
“تيتو” في مؤتمر الأمم المتحدة، جعله يستدعي “لابودوفيتش” من الجزائر ليغطي وقائع هذا المؤتمر الدولي المهم.

مسيرات التحرير الجزائري كما وثقتها عدسة “لابودوفيتش”

وقد رأينا الترحيب الحماسيّ بالرئيس “تيتو” الذي قال بالحرف الواحد: مع أنّ نزع السلاح يبقى التحدي الأكبر الذي يواجهنا، فإنني أود أن أكرّس خطابي إلى أهم قضية استعمارية عاجلة، فأمامنا اليوم قضية الحرب في الجزائر منذ خمس سنوات، فإذا لم نجد طريقا لحلّها ديمقراطيا فإننا سوف نُشرعن استعمال القوة في منع طموحات الناس الشرعية.

ويتحدث “لابودوفيتش” عن الطريقة التي وُلد فيها فيلم “جزائرنا” الذي عُرض في الأمم المتحدة، ثم أخذ طريقه إلى العالم كله، بعد أن أنجزوا منه نسخا متعددة بالفرنسية والإنجليزية والعربية، كي يتيحوا للعالم أجمع أن يروا الجانب الآخر من هذه الحرب الخاضعة للدعاية الفرنسية.

إنهاء الاستعمار.. معارك شرسة في أروقة الأمم المتحدة

ثمة شخصية مهمة تُدعى “إيلين مختفي” (Mokhtefi)، وهي ناشطة ضد الاستعمار، كما أنها مترجمة وكاتبة أمريكية جزائرية تعمل في مكتب الإعلام الجزائري بنيويورك، وقد شاهدت غالبية الأفلام الإخبارية الجزائرية التي تطور خطابها بفضل “لابودوفيتش” سنة 1960.

تُورد “إيلين” أسماء المستعمرات الفرنسية العشرين في أفريقيا، مثل كونغو برازفيل وساحل العاج وفولتا العليا والنيجر ومدغشقر والكاميرون والغابون وتشاد وغيرها، إضافة إلى الجزائر، وهي اللقمة الكبيرة التي ستغصُّ بها فرنسا.

المخرجة الصربية “ميلا تورايليتش” تلاحق “لابودوفيتش” في كل مكان يتواجد فيه

أمّا ردّ ممثل الحكومة الفرنسية في الأمم المتحدة، فقد جاء مُداهنا ولا يحسن تغطية عيوبه ومثالبه، وقد وصف دعاوى المدافعين عن حرية الشعب الجزائري واستقلاله بأنها “إهانة وافتراء” ضد السلوك الحضاري الذي تتبعه فرنسا في مستعمراتها الأفريقية.

وتقتني “إيلين” صحيفة “نيويورك تايمز” يوميا، فهي الصحيفة الجيدة التي يمكن أن تعتمد عليها فيما يتعلق بالحرب الدائرة في الجزائر. وكان عمل فريقها ينحصر في التأثير على وفود الأمم المتحدة والجمعية العامة، من أجل تمرير القرارات لمصلحة الجزائر وإدانة السياسة الفرنسية.

ونظرا للضغوط التي تمارسها الجمعيات الناشطة في مجال حقوق الإنسان وإلحاحهم على مجموعة البلدان الأفروآسيوية أن يناقشوا تطورات الموقف في الجزائر، فقد قررت المجموعة أن تتدخل لتسريع النقاش حول الجزائر.

وفي 14 ديسمبر/ كانون الأول 1960م بدأ تبنّي فكرة إنهاء الاستعمار الفرنسي. وبعد سنة ونصف، أي في 5 يوليو/ تموز 1962 حققت الجزائر استقلالها. ومن الطبيعي أن يحضر “لابودوفيتش” هذه المناسبة الكبيرة التي كرّس لها جزءا من حياته، فأخذ يركض في أرجاء المدينة، مُصورا أكبر قدر ممكن من تفاصيل هذا الحدث الفريد في حياة الجزائر الحرة التي تخلصت من رِبقة الاستعمار الفرنسي.

“أحيّي الشعب الجزائري الذي كنتُ جزءا منه زمنا طويلا”

مثلما ابتدأ الفيلم بـ”ستيفان لابدوفيتش” وهو يتحدث عن ولعه بالكاميرا واللغة البصرية التي تدرّب عليها طويلا حتى أتقنها وتفنن بها، تختم المخرجة “ميلا تورايليتش” فيلمها بحفل التكريم الذي نظّمه مهرجان الفيلم الملتزم في الجزائر.

ولعل هذه اللحظة التي تهزّ المشاعر كان ينتظرها “لابودوفيتش” منذ زمن طويل، فقال فيها بكلمات متهدجة: “أحيّي الشعب الجزائري الذي كنتُ جزءا منه زمنا طويلا، فكل شيء فعلتُه فعلتُه من قلبي، فأنا أعرف ماذا يعني الاحتلال، لأنني عشتُ ذلك خلال طفولتي. وأنا أعرف كم هي قوية وعنيفة هذه المعركة التي قُدِّم فيها كثير من التضحيات؛ أكثر من مليون جزائري فقدوا حياتهم حتى يحصلوا على الحرية. ويبدو أن هذا هو مصيرنا، بأنّ الحرية لن تسقط من السماء، ولكنها تحتاج لمن يقاتل على الأرض.

كاميرا “لابودوفيتش” في المتحف الجزائري

لقد أيقن “لابودوفيتش” بأنه فعل الكثير من أجل الشعب الجزائري وترك لهم تاريخا مُصوّرا بذل فيه عُصارة جهده الفكري والبصري في آن معا، فاستحق التكريم، بدءا من رئيس الدولة، وانتهاء بأبسط مواطن جزائري يعرف بأنّ هذا الرجل اليوغسلافي يحب الحرية للآخرين مثلما يحبها لنفسه.

“ميلا تورايليتش”.. صانعة الأفلام الوثائقية الجادة

جدير بالذكر أنّ فيلم “عدم الانحياز” يتنافس على جوائز نجمة الجونة الذهبية والفضية والبرونزية، مع 11 فيلما وثائقيا آخر من بينها “ارتفاع عميق” لـ”ماتيو ريتز”، و”سبعة شتاءات في طهران” لـ”شتفي نيدرزول”، و “ليلة مظلمة” لـ”سيلفان جورج” في الدورة السادسة لمهرجان الجونة السينمائي لعام 2023.

“لابودوفيتش” مع طلاب مدارس جزائريين

وفي الختام لا بد من الإشارة إلى أنّ “ميلا تورايليتش” وُلدت في بلغراد بصربيا سنة 1979، وقد درست إنتاج الأفلام في كلية الفنون المسرحية بجامعة بلغراد، والعلوم السياسية في كلية لندن للاقتصاد، ثم تخصصت بعد ذلك في صناعة الأفلام الوثائقية في مدرسة “لافامي” في باريس، وحصلت أيضا على درجة الدكتوراه من جامعة “ويستمنستر”.

كما عملت باحثة ومساعدة إنتاج في “بي بي سي”، وقناة “ديسكفري”، و”آرت فرانس”، وأنجزت عددا من الأفلام الوثائقية، وهي “سينما كومونيستو” (Cinema Komunisto)، و”الجانب الآخر من كل شيء” (The Other Side of Everything)، و”عدم الانحياز.. مشاهد من أشرطة لابودوفيتش” (Non-Aligned: Scenes from the Labudovic Reels).