آثار ليبيا المنسية.. إنسان ما قبل التاريخ وإرث الحضارات المتعاقبة

تُعدُّ ليبيا شاهدا حيا على تاريخ حضارات عريقة سكنت الساحل الجنوبي للبحر الأبيض المتوسط، وهي متحف مفتوح يحوي عددا من الكنوز الأثرية، ولوحة فسيفسائية تكاد تبوح بأسرارها عن الحضارات والثقافات التي تعاقبت على أرضها عبر جميع العصور، لتفاجئنا كل يوم بهذا المخزون الزاخر من التراث الإنساني.

وقد أوْلَت الجزيرة الوثائقية هذه المتحف الإنساني اهتماما خاصا، فأنتجت له فيلما وثائقيا قيّما، سلطت فيه الضوء على مجموعة من المواقع الأثرية في ليبيا، وساقت من خلاله تاريخ هذه الأمكنة والمجموعات البشرية التي سكنتها، وعرضت هذا الوثائقي على شاشتها تحت عنوان: “الآثار المنسية.. ليبيا”.

أمّ العالم.. أقدم آثار ما قبل التاريخ في الشمال الأفريقي

في جنوب غرب ليبيا آثار لعصور من الماضي السحيق في منطقة الأكاكوس، وفي الشمال شرقا وغربا آثار تدل على استيطان العنصر البشري هذه الأرض منذ عصور موغلة في القدم.

وقد يكون كهف “هوا فطيح” في مدينة قورينا (شحات حاليا) بالشرق الليبي من أوضح الأدلة على هذه الحقيقة، فقد كشفت الحفريات التي أجراها البروفيسور “شارلز مكبيرني” في الخمسينيات، وكذلك البحوث التي تجري حاليا برئاسة الدكتور “غرام باركر”؛ أن هذا الكهف قد سكنه الإنسان منذ أكثر من 120 ألف عام، حتى أطلق عليه العلماء “أم العالم”.

كهف “هوا فطيح” في مدينة قورينا (شحات حاليا) بالشرق الليبي حيث سكن الإنسان القديم

بل ذهب البروفيسور “كريس هانت” من جامعة كوينز بلفاست إلى أن البشر سكنوا ذلك المكان منذ 350 ألف عام، حتى قبل نشأة كهف هوا فطيح نفسه.

يقول د. “غرام باركر”: اكتشف فريق آثار من جامعة كامبريدج هوا فطيح قبل أكثر من 50 عاما، ويعدّ من أقدم آثار ما قبل التاريخ في الشمال الأفريقي، ونحن هنا منذ 5 سنوات، ونقوم بتفريغ الحفرة التي أحدثها فريق جامعة كامبريدج بعمق 15 مترا قبل أن يردموها.

عظام الفك.. بقايا إنسان عاش قبل 100 ألف عام

بنى فريق د. “باركر” على الدراسات التي سبقتهم، وأخضعوا المعطيات للتقنيات المستحدثة، لاستنطاق المكان والبوح بأسراره. يقول د. “باركر”: من أهم الآثار التي اكتشفها فريق كامبريدج عظام فكَّيْ إنسان على عمق 9 أمتار من السطح، ولكنهم لم يستطيعوا تقدير عمرها، وهو ما استطعنا نحن تحديده اليوم بنحو 100 ألف عام، ولكن مع تقادم الأزمان تحولت الآثار في هذه المنطقة إلى حجارة، مما يصعب الحصول على معلومات عنها، لكننا نملك من الأدلة ما يثبت أن الإنسان عاش هنا منذ أقدم العصور.

جمجمة يعتقد أنها تعود لإنسان عاش في ليبيا قبل 100 ألف عام

ويرجح أن الكهف كان أكبر بكثير مما أصبح عليه الآن، ويمسح العلماء طبقات الكهف طبقة طبقة، للتعرف على تاريخه، ولعل أهم الاكتشافات هنا أن البشر سكنوا هذه المنطقة منذ القدم، بعكس التصور الذي كان سائدا من قبل، وهو أن الإنسان الأقدم قد سكن الجنوب الأفريقي فقط. إنه من أهم 20 موقعا أثريا في العالم، ونتمنى أن يبقى معزولا، ولا يلوث ببناء الفنادق والمنتجعات السياحية مكانه.

يقول د. “باركر”: خطتنا أن نستمر في الحفر والتنقيب حتى نصل إلى قاع الكهف، ونسجل الطبقات بكل دقة وبجميع التفاصيل، فنحن محظوظون للغاية بوجودنا في هذه المنطقة الرائعة، وقد وجدنا أدوات مهمة للغاية، وسنكون أكثر سعادة إذا لمسنا شيئا بشريا محسوسا مثل قطعة عظم أو مجموعة أسنان.

لبدة الكبرى.. آثار حضارة لعب فيها التاريخ أهمّ أدواره

إلى الشرق من العاصمة طرابلس، وعلى بُعد 120 كيلومترا تقع مدينة لبدة الكبرى، وهي المدينة التي توالى على سكّانها الأصليين من القبائل الليبية معظمُ حضارات العالم القديم، ولعب التاريخ على مسارحها أهم فصوله، وكانت واحدة من أهم مدن الشمال الأفريقي في عصر الإمبراطورية الرومانية.

مدينة لبدة الكبرى اشتهرت بآثارها العريقة كالمسرح الروماني والسوق اليونيقية وكنيسة البازيليكا

فقد اشتهرت لبدة بآثارها العريقة، كالمسرح الروماني والسوق اليونيقية وكنيسة البازيليكا وساحة الألعاب الرياضية وحمامات هادريان وقوس الإمبراطور “سبتيموس سيفيروس” الذي ينحدر من المدينة نفسها، وتشير النقوش والجداريات إلى أن الأثرياء من أهل لبدة نفسها هم من أنشأوا هذه المرافق الضخمة وصرفوا عليها من أموالهم.

واعتمدت روما بشكل كبير في اقتصادها على المدن الليبية القديمة مثل لبدة وصبراتة وأويا، ذلك أن هذه المدن تمثل أقصر طريق يصل بين روما وقلب الصحراء الأفريقية، وكانت هذه الطرق ممرات لتجارات رائجة ومهمة آنذاك لروما، مثل الحيوانات المفترسة التي كانت تجلب للمسابقات والترفيه في مسارح روما ومدرجاتها، وكذلك العبيد والعاج والأحجار الكريمة.

بناء المدينة.. أحجار تتحدى الاندثار وتنبض بالحياة

بُنيت المدينة من الأحجار الجيرية “الكلسية”، وقد قاومت هذه الأحجار القوية أمواج البحر والعوامل الطبيعية الأخرى كالرياح والأمطار، وكانت تعرف منذ القدم باسم “ليبتوس ماغنا” أي لبدة الكبرى، لتمييزها عن مدينة لبدة الأخرى الموجودة في تونس، واتخذها الإمبراطور عاصمة لمدن إقليم طرابلس.

واشتهرت المدن الرومانية عموما بنوعين من المسارح، فمنها الدائرية التي تستخدم حلبات للمصارعة، وهنالك أيضا المسارح نصف الدائرية المخصصة للأعمال الفنية، الصامتة منها والناطقة.

على بُعد 120 كيلومترا تقع مدينة لبدة الكبرى إحدى مدن ليبيا التاريخية

وكان الرومان يجلبون الحيوانات المفترسة إلى هذه الحلبات الدائرية ويستمتعون بمشاهدتها وهي تصارع العبيد، وغالبا ما كانت تصرعهم، ثم ينزل مصارعون من أمراء الرومان مدججين بأسلحة مختلفة ويلبسون الدروع الثقيلة لتحميهم من الحيوانات ومن ثم يصرعونها، وقد أبادوا كثيرا من هذه الوحوش بهذه الطريقة، لتتناقص أعدادها بشكل لافت في الشمال الأفريقي.

إرث الأباطرة.. مدينة عامرة بالأسواق والترفيه والدين

شيد الإمبراطور “جستنيان” في القرن الثاني الميلادي كثيرا من الكنائس في لبدة، وكان من أهمها كنيسة البازيليكا، وقد رُمم حوالي 70% من معالمها، مثل المنبر الذي كانت تلقى عليه المواعظ الإنجيلية.

وهناك “الباليسترا” أو ساحة الألعاب الرياضية، وكانت تقام فيها ألوان متعددة من الرياضات، مثل القفز والجري وقذف الجُلَّة ورمي الرمح، وكذلك السباحة التي أقيمت لها حمامات الإمبراطور “هدريان” على الخصوص، وإلى جانبها الحمامات البخارية الساخنة “الساونا”، وينقل إليها الماء الساخن من خلال أنابيب فخارية، وكانت تستخدم للاسترخاء والاستجمام.

في “الباليسترا” أو ساحة الألعاب الرياضية بمدينة لبدة كانت تقام ألوان متعددة من الرياضات

أما السوق اليونيقية فقد تأسست في القرن الثامن قبل الميلاد على يد رجل أعمال فينيقي يدعى “حنّا بعل”، ثم رُممت في زمن الإمبراطور “سبتيموس”، وبنيت على شكل أكشاك لبيع السلع، ووجدت في السوق مكاييل للحبوب وأخرى منحوتة في الصخر للسوائل، ومقاييس مرقمة لقياس الأقمشة.

وما زال يوجد الكثير لنكتشفه من لبدة الأثرية، فهناك 80% من المدينة لا يزال تحت الأرض، والمهم هو المحافظة على هذه المكتشفات وترميمها وصيانتها.

مدينة قورينا.. هجرة إغريقية إلى ذات السماء المثقوبة

لا تقتصر الآثار الليبية على اليابسة فقط، فسواحل ليبيا البالغة ألفي كيلومتر قد غمرت مياهها كثيرا من الكنوز والآثار الليبية، ولا تزال أعمال الكشف عن هذه الآثار في بداياتها، وهي تحتاج إلى فِرق مدربة ومعدات متخصصة، وبدأت هذه الأعمال بميناءي لبدة وسوسة، وأسفرت عن اكتشاف قارب أثري في مياه سوسة يعود للقرن الثاني قبل الميلاد.

مدينة قورينا الإغريقية ذات السماء المثقوبة لكثرة مياه الأمطار فيها

ننتقل إلى مدينة قورينا الواقعة على بعد 1200 كيلومتر شرق طرابلس، حيث يوجد حرم “أبولو” ومعبد “زيوس” ومنطقة الأجورة. هناك سوف يغزل التاريخ حكاية أثرية مختلفة.

أُنشِئت المدينة في القرن السابع قبل الميلاد بواسطة مهاجرين إغريق، ويذكر أبو التاريخ “هيرودوت” في سبب هذه الهجرة أن الجزر اليونانية أصيبت بالجفاف، فأشار الإله “أبولو” على سكانها بالهجرة إلى ما وراء البحر فأبحروا إلى الشواطئ الجنوبية للبحر المتوسط، حيث ليبيا، وحطوا الرحال في قورينا ذات السماء المثقوبة، كناية عن كثرة الأمطار والخيرات.

جارة الساحل.. موطن الأثرياء والقصور والحمامات

اصطبغت قورينا بالحضارة الإغريقية أولا، قبل أن تتعاقب عليها الحضارتان الهلنستية والرومانية. ومن معالم الحضارة الإغريقية معبد “أبولو” الذي تأسس في القرن السابع قبل الميلاد، وقبله كانت تمارَس الشعائر الدينية في معبد “أرتيمس”، وهي أخت الإله “أبولو” حسب أساطير الإغريق، ثم معبد “زيوس” كبير آلهة الإغريق.

وفيها قصر “سيلين”، أو قصر “يالا” الواقع على وادي يالا غرب لبدة، وهو من أهم القصور الساحلية التي كُشف عنها، ويُرممه اليوم مركز إيطالي مختص من روما، وهو قصر ساحر للغاية ينم عن الطراز الرفيع الذي حرص عليه أثرياء الرومان في منتجعاتهم الساحلية، وقد تضررت مسطحاتها الفسيفسائية كثيرا بسبب قربها من البحر.

قصر “يالا” الواقع غرب لبدة هو أحد أهم منتجعات أثرياء الرومان الساحلية

وهنالك أيضا الحمامات المنحوتة في الصخر، ويرجع تاريخها إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وقد جُددت في العصر الروماني بإضافة الأرضيات الفسيفسائية فيها. وهذه الآثار كانت من العوامل الرئيسية لإدراج مدينة قورينا على لائحة اليونسكو للتراث العالمي.

ننتقل إلى منطقة الأجورة التي لعبت دورا أساسيا خلال الحقبة الرومانية، في مجالات اقتصادية ورياضية وسياسية، ويعتبر مبنى “الجمنازيوم” معلما رياضيا إغريقيا هاما، بُني على أكثر من 110 أعمدة حجرية ضخمة، وتحول في العصر الروماني إلى ساحة مفتوحة لعقد المحادثات السياسية.

ومنطقة الأجورة هي السوق في الثقافة اليونانية، وفيها كثير من المباني مثل النصب التذكاري، وهو سفينة حربية ترجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد، وفوقه تمثال لامرأة تمثل آلهة النصر، وفيها أيضا معبد دائري الشكل للإلهة “ديمترا” ربّة الحبوب والخصب، وهنالك أيضا فيلا الرجل الثريّ “جيسون ماغنوس” كاهن الإله “أبولو” في القرن الثاني الميلادي.

مدينة صبراتة.. طراز رفيع من المعمار الروماني

تقع مدينة صبراتة غرب طرابلس العاصمة على بُعد 70 كيلومترا، وقد شهدت فصولا متتالية من التاريخ، فتعاقبت عليها حضارة الإغريق الذين أسسوها، ثم الرومان، وبعدهم الجرمان الذين دمّروها، وأعاد إعمارها البيزنطيون، ثم وصل إليها الفتح الإسلامي في نهاية المطاف.

مدينة صبراتة غرب طرابلس العاصمة هي إحدى المدن المسجلة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي

وهي مسجلة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وتزخر بعدد من المعالم الأثرية، وتختلف عن لبدة بطبعة حجارة البناء، فهنا حجارة رملية محلية ليست بصلابة الأحجار الجيرية في لبدة، الأمر الذي جعل الآثار هنا أسوأ حالا من مثيلاتها في المدن الأخرى بسبب عوامل الطقس.

وتكثر في صبراتة الأضرحة، وهي عبارة عن مسلّات ترتفع حوالي 20 مترا فوق الأرض، ويكون القبر بعمق 3 أمتار تحت الأرض، وكان القدماء يحرصون على دفن مقتنيات الميت وأشيائه الثمينة معه. وفيها مسرح صبراتة الروماني وهو من أجمل المسارح في الشمال الأفريقي.

متحف السرايا الحمراء.. تماثيل الأباطرة تحفظ التراث الليبي

يعتبر متحف السرايا الحمراء في طرابلس العاصمة محاولة وطنية للحد من السطو والإهدار الذي تتعرض له الآثار في طول البلاد وعرضها، وقد جمع المتحف بين جنباته تماثيل نادرة للأباطرة الأوائل الذين تعاقبوا على أرض ليبيا، وتماثيل أخرى تقص حكاية الحياة الإغريقية والرومانية آنذاك.

وحوى كذلك لوحات من الفسيفساء التي كانت تزين المدن الرومانية والإغريقية القديمة، إضافة إلى مقتنيات الحياة اليومية لعصور ما قبل التاريخ، وكان يستخدمها البشر في الصيد والقطع في تلك العصور الغابرة.

متحف السرايا الحمراء في طرابلس العاصمة يضم عددا كبيرا من آثار الأمم التي عاشت على أرض ليبيا

وفي إطار جهودها للمحافظة على الآثار وتسويقها عالميا، تسعى مصلحة الآثار الليبية إلى تدريب الطلبة والمهتمين الليبيين على أعمال الصيانة والترميم، وتحرص على الترويج للمواقع الأثرية الليبية كواجهة سياحية واقتصادية للبلاد.

وقد حرصت بعثات أجنبية كثيرة على القدوم إلى ليبيا من أجل البحث والتنقيب عن هذه الثروة من الكنوز الأثرية في ليبيا، فهنالك بعثات من الولايات المتحدة المملكة المتحدة وإيطاليا وفرنسا واليابان وبولندا، وجميعهم قد أبدى انبهاره بهذا المتحف الإنساني البديع، إذ لا يؤرخ لحضارات العالم فحسب، بل لوجود الإنسان بذاته على هذه الأرض.