المسجد العمري.. صواريخ الاحتلال تدمر أحد أقدم أماكن العبادة في العالم

في صباح الثامن من ديسمبر/كانون الأول المنصرم قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي المسجد العمري، وهو ثالث أكبر مسجد في فلسطين بعد المسجد الأقصى في القدس، ومسجد أحمد باشا الجزار في عكا، ويعد أحد أقدم أماكن العبادة في العالم.

وهو ليس المسجد أو المكان الأثري الوحيد الذي تدمره صواريخ الاحتلال دون اعتبار لأي تاريخ إنساني أو حضارة موغلة في الأحجار والجدران، بل دمرت قبله وبعده عشرات الأماكن الأثرية، وذلك منذ العدوان الذي شنته جيش الاحتلال على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، فقد قصفت الكنائس القديمة، ومبنى قصر الباشا، وأماكن أثرية كثيرة في البلدة القديمة الشاهدة على قدم مدينة غزة، وجذور الإنسان فيها.

المسجد العمري.. معبد وثني لسكان غزة في العصور الوثنية

ما لا يعرفه كثيرون أن المسجد العمري كان منذ آلاف السنين معبدا وثنيا للإله “مارنا”، رب أرباب الآلهة السبعة لسكان مدينة غزة في عصورها الوثنية، حين كانوا يعبدون الأصنام والشمس.

وبعد ظهور الديانة المسيحية -بحسب ما يروي كتاب “البنايات الأثرية الإسلامية في غزة وقطاعها” للباحث سليم المبيض- مع بداية القرن الخامس الميلادي، دخل معظم سكان المدينة في المسيحية، ودمروا المعبد الوثني، وأقاموا فوقه كنيسة يمارسون فيها شعائرهم على يد القديس “برفوريوس” أسقف غزة، وبدعم من الملكة “أفدوكسيا” زوجة الملك “أركاديوس” الذي أمر بإحضار 42 عمودا رخاميا يونانيا عن طريق البحر، لتشييد الكنيسة التي حملت اسم القديس.

وبعد قرنين ونصف في عهد الفتوحات الإسلامية، دخل المسيحيون في الدين الجديد، وأصبحت الكنيسة مسجدا، وأُطلق اسم المسجد العمري نسبة إلى الخليفة عمر بن الخطاب.

ومن يدخل المسجد يشعر باطمئنان غريب، ليس لمساحته فقطـ، بل يعود ذلك إلى لون حجره الرملي الرائق، وتوزيع ساحاته وبساطته وخلوه من التمذهب الحزبي والفكري، فكل رجل أو امرأة يستطيعان دخوله والصلاة فيه دون قيود في أي وقت، فالمكان حر ملكيته لله.

معمار المسجد.. زخارف تختزل تاريخ الأديان والممالك

يتميز المسجد بالساحة السماوية المفتوحة على السماء، وهي محاطة بأكثر من 20 قوسا معماريا من العصرين المملوكي والعثماني، ويختلف النمط المعماري في الارتفاع والزخارف، وتفتح أبواب المسجد الخمسة الخارجية على سوق غزة القديم وشوارع البلدة القديمة، وأحدها يفتح على “القيسارية”، وهي محلات صغيرة أضيفت إلى المسجد العمري في العصر المملوكي، وتستخدم حاليا لبيع الذهب.

وفي المسجد أروقة خارجية كثيرة يستند إلى جدرانها القديمة قارئو القرآن، وفي داخله ساحة الصلاة المكونة من عدة إيوانات كان معظمها موجودا منذ أن كان المسجد كنيسة، وأُضيف إليها في عهد المماليك إيوان جديد كبير، فأصبحت المساحة شاسعة، وفيها محراب متميز الزخارف والحجر، وتقطع هذه الإيوانات -دون أن تفصلها- الأعمدة اليونانية الرخامية الضخمة، وتعلو تلك الأعمدة تيجان “كورانثية الطراز” (Corinthian Capitals) كما يصفها كتاب “المباني الأثرية”.

وبحسب الكتاب نفسه فإن المئذنة بنيت على الطراز المملوكي، وتتألف من بدن مربع يعلوه طابق مثمن الأضلاع، تتخلله طاقات معقودة بعضها بفتحة، وأخرى بدونها، وقد زُينت جميعا بزخارف حجرية.

المسجد العمري يطلق عليه بعض سكان غزة اسم “الأقصى الصغير”، وذلك لتشابهه مع المسجد الأقصى (الأناضول)

والغريب أنك إذا نظرت إلى مكان المئذنة من الساحة الداخلية لباب المسجد الشرقي، فإنك ترى تجويف جرس الكنيسة حيث كان يدق للصلاة، أما بدن المئذنة الخارجي التي أطلق عليها في بعض المراجع “المنارة” فهو حديث، لأنه بُني في عام 1926 بعد تدمير القديم في الحرب العالمية الأولى، بحسب ما يذكر عبد اللطيف أبو هاشم في كتابه “المساجد الأثرية في مدينة غزة”.

وفي سقف الإيوان الشمالي الذي يزيد ارتفاعه عن 12 مترا هناك فتحة دائرية يرجح البعض أنها تدل على عبادة الشمس في الماضي السحيق، لكن ربما يكون هذا مستحيلا، بسبب ما مر على المعبد الوثني من عوامل الأمطار والرياح والزلازل، ومن المرجح أن تلك النافذة الدائرية ضمن مبنى الكنيسة، بحسب المرجعين السابقين.

إسلام غزة.. أغلبية تحول الكنيسة إلى مسجد

كانت مكتبة المسجد تحوي مخطوطات قديمة أصلية، وهي المخطوطات التي أهداها للمسجد الملك الظاهر بيبرس آنذاك، وكانت أكثر من 20 ألف كتاب، بحسب المراجع الدينية والتاريخية، كما أن المكتبة تتضمن أمهات الكتب الأصلية التي كتبها الرحالة والمؤرخون عن مدينة غزة.

وتطرح المساجد التي كانت كنائس يوما ما سؤالا حول سبب أنه لم يحدث العكس قط، أي لم يتحول المسجد إلى كنيسة، لكن بعض المؤرخين يرون تفسير ذلك بسيطا، ويعود إلى أن دين الاسلام جاء بعد المسيحية.

وفي الموضوع ذاته يرى المؤرخ والباحث الفلسطيني سليم المبيض في مقالات صحافية سابقة أن بعض الكنائس احتفظت بهويتها، وأهمها الكنيسة الأرثوذكسية في حي الزيتون بغزة، وأما مكان المسجد العمري فلأن مساحته كبيرة، وبعد تحول أغلبية أهل قطاع غزة للإسلام اتُّفق بين جميع الأطراف على أن تصبح الكنيسة مسجدا، مؤكدا أنه لا يزال يحتفظ بسمات الكنيسة مثله مثل مسجد آيا صوفيا في تركيا، فلا يزال يحتوي على أيقونات مسيحية تاريخية على حالها، لتدل على هويته في الماضي.

وذكر الباحث سليم المبيض أن من سمات المسجد العمري المعمارية التي تدل على كونه كنيسة أن البناء لا يزال يحمل الطابع العمراني البازيلكي، كما أنه يتجه من الشرق للغرب بشكل قائم، كما هو نظام الكنائس القديمة، والمسجد من الخارج ليس له قبة بل “جملوني”.

ويقول المبيض في أبحاثه إن المسجد يقع على مساحة 4100 متر، وقد ارتبط بكثير من المواقف التاريخية الكبرى، فكان منبع الاحتجاجات والتظاهرات التي خرجت ضد الاحتلال البريطاني، وفي عام 1932 اقتحمته القوات البريطانية، فأدى ذلك إلى استشهاد عدد من المحتجين وإصابة عدد آخر.

مسجد عثمان بن قشقار.. حرب على الدين والتاريخ والآثار

قبل تدمير المسجد العمري بيوم واحد، قصفت طائرات الاحتلال الإسرائيلي جاره، وهو مسجد عثمان بن قشقار الأثري في البلدة القديمة بمدينة غزة، مما أدى إلى وقوع إصابات في صفوف الفلسطينيين، وإلحاق أضرار مادية في المنازل المجاورة.

وقد تأسس المسجد عام 620 للهجرة، وعلى صغر مساحته، فإنه من أقدم المساجد والأعيان الأثرية في قطاع غزة، وهو موجود في حي الزيتون شرق مدينة غزة.

وتقول وزارة الثقافة الفلسطينية إن طائرات الاحتلال قصفت ثمانية متاحف، منها متحف رفح، ومتحف القرارة، ومتحف خانيونس، إضافة إلى تدمير معظم أجزاء البلدة القديمة لمدينة غزة، بما فيها عشرات المباني التاريخية.

مسجد عثمان بن قشقار الأثري في البلدة القديمة بمدينة غزة والذي قصفه الاحتلال

ودُمرت أيضا 9 دور نشر ومكتبات، كما تضرر عدد من المراكز الثقافية بشكل كلي أو جزئي، عُرف منها 21 مركزا، وتعرضت معظم أجزاء البلدة القديمة لمدينة غزة للتدمير بما فيها 20 مبنى تاريخيا، من كنائس ومساجد ومتاحف ومواقع أثرية، وتضررت 3 أستوديوهات وشركات إنتاج إعلامي وفني.

ترميمات المسجد العمري.. تاريخ مسجد يأبى الخضوع للمستعمرين

مر على تاريخ المسجد العمري كثير من الأزمات والانتكاسات، فقد هُدم ثم بُني، ثم هدم وبني من جديد، وبقي كذلك عقودا حتى هُدم الآن في التاريخ المعاصر. وتوالت عليه الترميمات المتعددة عبر التاريخ، وأبرزها بعد الحرب العالمية الأولى والدمار الذي خلفته، فأعيد بناء المئذنة وسطح الجامع.

وبدأ آخر الترميمات الشاملة للمسجد في العام 2000، وكانت انتهت قبل الحرب الحالية ببضع سنوات، لكن من الصور الحالية المؤلمة يبدو أن صواريخ الاحتلال دمرت المسجد كله، لذا فإنه يحتاج إلى البناء من جديد، وكما حدث دائما فإن تعمير المسجد العمري ممكن كما حدث في عصر كل المستعمرين، لكن هل ستكون الأخيرة يا ترى؟

 

المراجع:

العربي

الجزيرة