“نفق الحمام”.. رحلة في العالم الخفي لسيد الروايات الجاسوسية “جون لوكاريه”

كيف يمكن أن تنعكس الحياة الشخصية للكاتب على ما يكتبه، لا سيما إن كان جاسوسا سابقا هجر المهنة وتفرغ لكتابة روايات الجاسوسية كما لم يفعل أحد من قبله، ليصبح سيد روايات التجسس والجاسوسية في العالم.

هذا السؤال ربما يكون هو جوهر الفيلم الوثائقي الجديد المثير “نفق الحمام” (The Pigeon Tunnel) للمخرج الأمريكي “إيرول موريس” (2023)، وهو سيد الأفلام الوثائقية المثيرة للجدل، وقد عرف بوصفه أحد السينمائيين القلائل الذين أعادوا الاعتبار للفيلم الوثائقي، وطوروه وأعادوا إطلاقه في ثوب جديد، يتخلص من التقاليد القديمة الجافة التي ارتبطت بسيطرة الفكرة الأيديولوجية وحدها، وكان البعد التعليمي هو الأكثر بروزا فيها.

“إيرول موريس”.. فن وثائقي يزاحم جاذبية الأفلام الروائية

تسعى أفلام “إيرول موريس” لتحميل الفيلم الوثائقي نفس جاذبية الفيلم الخيالي أو الروائي، ولأفلامه أيضا دراميتها الداخلية الخاصة التي تنبعث من تصادم الصور وطريقة تركيبها معا، وما تكشف عنه من مفاجآت.

ولعل أكثر العناصر الفنية بروزا في أفلامه، هو طريقته المميزة في المزج بين المقابلات الحية التي يجريها مع الشخصيات الرئيسية التي تظهر في أفلامه، وبين الوثائق المتعددة المباشرة التي يصورها، أو تلك التي يعثر عليها ويعيد توليفها معا في سياق خلاق، دونما حاجة إلى استخدام التعليق الصوتي المباشر.

إنه بهذا المعنى يصبح طرفا في الفيلم، يحاور بطل فيلمه حينا، وربما يعلق على ما يقوله، وعندما يطرح تساؤلاته يبدو وكأنه يوجهها أيضا إلى نفسه، فأفلامه كاشفة، تكشف جانبا من ذاته، تماما كما تسعى للكشف عن شيء غامض عن العالم.

هذا ما يمكننا ان نلمسه بوضوح في فيلم “نفق الحمام” بشكل يثير الإعجاب.

“ديفيد كورنويل”.. جاسوس هرب من المخابرات إلى الأدب الروائي

الشخصية التي اختارها المخرج “إيرول موريس” هذه المرة محورا لفيلمه، فهي شخصية الكاتب الإنجليزي المرموق “ديفيد كورنويل” الذي عرف باسمه الأدبي الشهير “جون لوكاريه”. وهو كاتب كان نادر الظهور في وسائل الإعلام.

ألان مهدي زاده الذي يظهر ممثلا في دور محامٍ كلفه لوكاريه بتعقب والده

“كورنويل” أو “لوكاريه”، هو صاحب روايات شهيرة، منها “الجاسوس الذي أتى من الصقيع”، و”البيت الروسي”، و”سمكري خياط جندي جاسوس”، و”قارعة الطبل الصغيرة”، و”الجاسوس المثالي”، والفيلم لا يطمح لرواية قصة حياة الكاتب، بقدر ما يركز على تأثير حياته المضطربة الغريبة على رواياته، لا سيما في طفولته، وبوجه خاص علاقته بأبيه.

ومن الملفت للنظر أن “لوكاريه” قبِل طواعية أن يجلس أمام كاميرا المخرج “إيرول موريس”، وفتح له قلبه وعقله، وأجاب على أكثر الأسئلة صعوبة، لكنه رفض التعرض لمغامراته العاطفية ووضعه المالي، مقتصرا على أنه يعد من “الأثرياء”.

“نفق الحمام”.. عنوان يرسم مسيرة حياة المؤلف

“نفق الحمام” هو عنوان الفيلم، كما أنه العنوان الذي اختاره “لوكاريه” لكتابه الوحيد البعيد عن روايات الجاسوسية، وقد صدر عام 2016، ويحمل عنوانا فرعيا هو “قصص من حياتي”، وفيه يروي سيرته الذاتية. وهو يقول في الفيلم إنه كان دائما يختار هذا العنوان لكل رواية من رواياته، لكنه كان يتخلى عنه.

يفتتح فيلم “نفق الحمام” بمشهد رمزي سوف يتكرر مجزأ إلى لقطات متفرقة، على مدار الفيلم، ليكون خلفية لما يرويه “لوكاريه”، فهو يقول إن والده “روني كورنويل” أخذه معه إلى مونت كارلو عندما كان مراهقا، فشاهد هناك فوق سطح الكازينو القديم أقفاصا يربون فيها الحمام ويغذونه، ثم يرغمونه على المرور من نفق طويل تحت الأرض، ينتهي بفتحة على البحر المتوسط.

لوكاريه يستعيد الذكريات

وعندما تخرج من فتحة النفق تجد الحمائم هناك من ينتظرها من الأثرياء، فيصطادونها ببنادق الصيد بكل قسوة، أما من ينجو منها فكان يعود إلى مكانه فوق الفندق، ليصبح مجددا حبيس الأقفاص، يُغذى ثم يطلق إلى مصيره مجددا.

تتقاطع هذه القصة مع فلسفة “لوكاريه” في نظرته لعالم الجاسوسية، الذي يعتمد على الخداع، أو لعبة تعتمد على الثقة في البداية، ثم خيانة الثقة. ولعل “لوكاريه” من أكثر الكتاب نقدا لعالم الجاسوسية، وهو يقول إن أبطال رواياته لم يكونوا يرغبون في أن يصبحوا مثل “جيمس بوند”، يعيشون عالما سحريا مغريا، بل كان يشغلهم القلق على مصيرهم.

“روني كورنويل”.. آثار الأب المحتال على تكوين الشخصية

أهم ملمح من الملامح التي يتوقف عندها الفيلم في تأمله لشخصية “لوكاريه”، هو علاقته بأبيه “روني” الذي كان محتالا محترفا، عمل مع عصابات إجرامية، وكان يكسب مالا وفيرا، لكنه كان ينفق أكثر مما يكسب، وكان دائم الديون، فقبض عليه وسجن مرات عدة.

نشأ “لوكاريه” في بيئة عانى فيها من الفقر والجوع، وتخلت أمه عن أسرتها، وفرت هاربة بسبب سوء معاملة والده لها، كما أخبرته بعد أن التقاها لأول مرة منذ أن غادرت المنزل، بعد 16 عاما، لكنه يعترف أنه لم يكن مرتبطا بها، كما أنها لم تترك تأثيرا كبيرا عليه.

وبسبب نبوغه في التعليم، التحق بمدرسة “إيتون” الشهيرة التي كان يقصدها أبناء العائلات الثرية، ثم التحق بجامعة أوكسفورد المرموقة، بعد أن جمع له معلّمه ما يلزم من المال عن طريق التبرعات، ولكن بدلا من أن يدرس القانون كما قال لوالده، اختار أن يدرس اللغات الحديثة.

ومن دائرة طلاب أكسفورد النابغين، جُنّد “لوكاريه” للعمل لحساب المخابرات البريطانية الداخلية، ثم الخارجية. لكنه لم يجد نفسه في عالم المخابرات، وبلغ يأسه مبلغه عندما وجد -كما يقول- أن ألمانيا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، أصبحت مرتعا للنازيين السابقين، وقد لمس الأمر نفسه عندما زار موسكو.

ازدواجية الثقة والخيانة.. عصارة من التجارب على أوراق الروايات

استقال “لوكاريه” من عمله بالمخابرات في خضم الحرب الباردة، واتجه لكتابة روايات الجاسوسية التي تقوم أساسا على فكرة ازدواجية الثقة والخيانة. وهي الفكرة التي يناقشها معه مخرج الفيلم “موريس”، مستندا إلى شخصيات من رواياته، ويعود خلالها إلى مقاطع من الأفلام الشهيرة التي اقتبست عنها.

كما يتوقف أمام مقاطع من صفحات الروايات نفسها كما كتبها “لوكاريه”، ويستخدم “موريس” في الفيلم عشرات من صوره الفوتوغرافية ونصوصه التي كتبها بخط يده، كما يستخدم المحاكاة التمثيلية، من خلال إسناد دور الوالد “روني كورنويل” مثلا إلى ممثل يقوم به، مجسدا أنه ظل دائما يبتز ابنه، بعد أن أصبح مشهورا وثريا من عائدات رواياته.

ويقول “لوكاريه” إن أباه رفع قضية ضده أيضا بعد أن قال في مقابلة تليفزيونية إنه لا يدين له بشيء، وقد استعان باثنين من المحامين الأذكياء، فتتبعوا والده لكي يعرفوا ما يقوم به وأين ينفق أمواله. ونحن نرى هذا في الفيلم من خلال إعادة التمثيل، أي أسلوب الدوكيو- دراما الذي يتميز به “إيرول موريس” في أفلامه الهجينة، أي التي تمزج الخيالي بالوثائقي.

مخرج الفيلم إيرول موريس مع بطل فيلمه

 

“لديك كل ما أنا عليه بقدر ما أعرف”.. بوح صادق

بناء الفيلم شعري يليق بأسلوب “موريس”، فهو لا يلجأ للسرد المباشر، مع شهرته بلجوئه لتوجيه الأسئلة المباشرة، وكما أنه يطرح أسئلة جريئة على ضيفه، فإنه يقبل أيضا ما يعكسه عليه “لوكاريه” بذكائه الحاد وأسلوبه الحاذق، عندما يحدثه عن نسبية الحقيقة، وأنه لا توجد حقيقة ثابتة، وأن كل شيء ممكن، وأن من الصعب تماما فهم الكائن البشري والإحاطة به، فما يظهره قد يكون عكس حقيقته.

وعندما يسأله “موريس” ماذا يريد من الناس؟ يجيبه قائلا “إنهم يظنون أنني مخادع وكاذب، وأنني أستغل سحري لكي أخدع الناس، والأرجح أيضا أنني أعذب أبنائي. يريدون أن يكشفوا قناعي، لكني أريد أن أعرف ما يوجد خلف القناع أولا، لديك كل ما أنا عليه بقدر ما أعرف”، أي أنه صادق فيما أفصح عنه خلال الفيلم.

على هذا النحو يسير الفيلم، انطلاقا من الصور والشخصيات الروائية الخيالية، فينتقل من الواقع إلى الخيال الروائي، ثم يرتد إلى الماضي، إلى زمن الحرب الباردة، ويتوقف أمام تجربة “لوكاريه” في برلين، قبل وبعد بناء الجدار الفاصل بين برلين الشرقية وبرلين الغربية، ولعبة الجواسيس، ونظرته النقدية القاسية للغرب أيضا، واستبعاد الفكرة السطحية التي يروجون لها، أي أن الغرب يمثل الخير، مقابل الشر الذي كان يمثله الشرق، وأن الأمر كله أشبه بلعبة كبيرة تقوم على الاستغلال.

لوكاريه داخل النفق المتخيل

ولا تقتصر إعادة التمثيل على شخصية الأب، فنحن نرى مثلا مشهد اصطياد الحمام في مونت كارلو، وقتله من خلال مشهد تمثيلي مصور، يتحول الى الحركة البطيئة مع إصابة الحمامة ونزفها، وهو مقطع يتكرر عبر الفيلم، لكي يذكرنا دائما بفكرة الخيانة التي تعد أساس روايات “لوكاريه”. كما يعيد تمثيل مشهد ذهابه إلى فيينا بعد وفاة والده، وقد تعرف عليه الحارس الليلي العجوز في الفندق، ووبخه باعتباره ابنا عاقا!

وعندما يتكلم “لوكاريه” عن والده، فإنه يستخلص من شخصيته فكرة الازدواجية، أي أن الإنسان قد يعيش داخل شخصيتين، فيظهر بمظهر ما، لكنه يخفي جوهرا مخالفا تماما، وهي فكرة انسحبت على كثير من شخصيات رواياته.

“كيم فيلبي”.. جاسوس خائن ترك بصمته في الروايات

يتوقف المخرج “موريس” مع “لوكاريه” أمام شخصية “كيم فيلبي” الذي كان مسؤولا كبيرا في جهاز المخابرات البريطانية الخارجية (إم أي 6)، وكان من حلقة أوكسفورد التي ضمت 4 آخرين معه، عملوا جميعا بالتجسس لحساب الاتحاد السوفياتي.

ويقول “لوكاريه” إنه كان معروفا داخل الجهاز أن “فيلبي” قد يكون جاسوسا خائنا، ومع ذلك كانت “المؤسسة” ترى أنه “واحد منا”، ولا يمكن أن يؤذينا، وحتى بعد معرفة حقيقته لم يصفّوه، بل تركوه يلجأ إلى موسكو عام 1963، فالقبض عليه ومحاكمته سيفضح هشاشة جهاز المخابرات واختراقه من الداخل!

لا يرى “لوكاريه” أن خيانة “فيلبي” كانت ناتجة عن ولاء فكري، بل كان يستمتع بلعب دور الشخصية المزدوجة التي تجعل صاحبها يشعر بالتفوق على الآخرين، وقدرته على خداعهم، بل إنه يصل إلى القول إنه -هو نفسه- كان على وشك أن يصبح خائنا، بموجب هذا الدافع الداخلي نفسه.

لقطة تشكيلية لصيد الحمام في مونت كارلو

كان “فيلبي” قد فر إلى بيروت، ويروي “لوكاريه” أنه عندما زارها كان هناك من عرض عليه مقابلة “فيلبي”، لكنه رفض قائلا إنه سيتناول العشاء مع سفير بريطانيا الموالي للملكة في المساء، فكيف يقابل الذي خان الملكة؟

استعان “لوكاريه” كثيرا في رواياته بالخلفية الشخصية لـ”كيم فيلبي”، وهو الجاسوس الأشهر الذي خدع “المؤسسة”، وقد كان ينتمي للطبقة الاجتماعية الثرية في بريطانيا، على عكس “لوكاريه”، فقد احتاج أن يبذل جهدا حتى يتعلم التحدث مثل أبناء هذه الطبقة التي لم يكن منها، وهنا نلمح -مرة أخرى- فكرة تقمص شخصية أخرى غير شخصيته الحقيقية.

تبادل الأدوار.. ذكاء يقلب الطاولة على المخرج

في بداية الفيلم يدور حوار طريف يكشف طبيعة “لوكاريه” وذكاءه الحاد ولباقته، بل قدرته على أن يجعل من يلعب معه دور المحقق فريسةً له، فيستجوبه ويواجهه أيضا.

يقول المخرج “موريس”: لا أعرف عادة مبتدأ الكلام، لكنك أعطيتني فكرة من أين أبدأ.

فيسأله “لوكاريه”: وما هي هذه الفكرة؟

فيجيب: سألتني عن طبيعة علاقتنا.

يقول “لوكاريه”: تعدى الأمر ذلك، بل قلت فقط “من أنت”، لأني شاهدت أعمالا كثيرة لك، تكون أحيانا شبحا، وأحيانا إلها، وأحيانا حاضرا. أردت أن أعرف إلى من أتحدث، هل أنت صديق مقرب، أم غريب على متن حافلة، من أنت؟

يصف “لوكاريه” الحوار بأنه “فن أدائي” مثل الأداء المسرحي، ويقول للمخرج “موريس”: ينبغي أن تفرق بين تقديم الأداء إلى العامة وتقديمه إلى النخبة، عليك أن تعرف طموح الناس الذين تتحدث معهم.

فيجيبه: وماذا لو لم أستطع الإجابة عن هذا السؤال؟ ليس لأنني لا أريد، بل فقط لأنني لا أستطيع.

ويأتي القول الفصل من جانب “لوكاريه”: إذن سنتصارع ونكتشف من أنت.

يقرر “لوكاريه” إذن أن الحوار واستعراض مفارقات حياته مع محاوره، سيصبح أيضا اكتشافا لحقيقة محاوره. الأداء هنا هو الأساس، وسيعود “لوكاريه” في مكان آخر متقدم من الفيلم لكي يشرح لنا، أن الواقع لم يكن له وجود في طفولته، بل فقط الأداء، أي التمثيل والتظاهر، وأنه -مع ما خبره في الحياة- شعر بأن الناس يظهرون خلاف ما يفكرون فيه.

حبس المحاور.. مأزق ضيق لاستخراج الكنوز الدفينة

يجلس “لوكاريه” في غرفة فسيحة، في إضاءة خافتة، واللقطة المأخوذة من زاوية منخفضة تجعله يبدو مهيمنا طاغيا على محاوره الذي لا نراه، والموسيقى التي تصاحب المشهد تشبه موسيقى الأفلام الغامضة التي بنيت على رواياته، ثم تتحول الصور بعد ذلك إلى الحركة البطيئة، فنراه وهو يسير داخل غابة تنطلق منها الحمائم، ليذكرنا ذلك بمأزق الحمام الذي ينطلق صوب الحرية، لكي يجد أنه تعرض للخيانة.

من معالم الأسلوب الذي ابتكره “موريس”، أن يُجلس بطل فيلمه في الأستديو وحده يواجه الكاميرا، ولكنه لا يجلس أمامه مباشرة، بل يظهر له على شاشة صغيرة ضيقة تشبه الصندوق من غرفة أخرى داخلية. والقصد أن يبدو المحاور باردا، لا يمكن للضيف أن يكتشف ملامح وجهه أو انفعالاته، ويأتي صوته مجردا كأنه صادر من جهة عليا. وهي طريقة تكفل الحرية بحيث لا يشعر الشخص المستهدف بوطأة وجود المحاور، لكنها تجعله يبدو أيضا محل استجواب قاس.

ينتهي الفيلم بعبارة تظهر على الشاشة تخبرنا بوفاة “لوكاريه” في عام 2020 عن 89 عاما، أي بعد فترة قصيرة من انتهاء تصوير الفيلم الذي اكتمل العمل عليه في خريف 2023.