“داهومي”.. ما وراء عودة التماثيل المسروقة من كهوف العالم المتحضر

الفيلم الأفريقي مشغول عموما بتصفية الحساب مع التاريخ الاستعماري في أفريقيا السوداء، ويحاول السينمائيون الأفارقة دائما فهم العلاقة مع هذا الماضي، ومن الناحية الأخرى فهم العلاقة مع الأسلاف والتاريخ، بغرض الوصول إلى جوهر الهوية.

وذلك تحديدا هو الموضوع الرئيسي الذي كان يشغل بال المخرجة السنغالية “ماتي ديوب” وهي تصور فيلمها “داهومي” (Dahomey) الذي حصد جائزة “الدب الذهبي” في مهرجان برلين السينمائي الـ74.

الفيلم من النوع الوثائقي، ومدته 68 دقيقة فقط، ويتميز بصوره الجميلة الخلابة وموسيقاه المعبرة، وتلك العلاقة البديعة التي صنعتها المخرجة -من خلال المونتاج- بين الصوت والصورة، فأكسبت التعليق الصوتي طابعا شديد الخصوصية، بعد أن أضفت على التماثيل القديمة المستعادة حسا إنسانيا، وجعلتها تنطق بلسان الشعوب التي عانت من الاستعمار.

داهومي.. تمثال الملك يتحرر من كهوف العالم المتحضر

يستند الفيلم على ما حدث في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021، عندما شحنت 26 قطعة أثرية من تماثيل الملوك من متحف فرنسي، لتعود إلى بلدها الأصلي في جمهورية بنين، بعد أن كان الاستعمار الفرنسي قد نهبها في أواخر القرن التاسع عشر، عند احتلال البلاد التي أصبحت تعرف باسم بنين، وشحنها إلى فرنسا ضمن سبعة آلاف قطعة أثرية نادرة.

أما داهومي فهي المملكة الساحلية التي كانت تقع في قلب بنين، وكانت تتميز بالقوة وبشجاعة محاربيها من النساء، وظلت قائمة مدة 300 سنة.

في البداية نشاهد جميع القطع الأثرية في مكانها داخل متحف “رصيف برانلي” على الضفة الجنوبية لنهر السين في باريس، ثم ينصبّ تركيز الكاميرا على تمثال معين يُتعامل معه بحرص شديد، فهو يتميز بالهيبة والوقار. إنه تمثال الملك “غيزو” الذي كان يحكم مملكة داهومي حتى منتصف القرن التاسع عشر، أي في ذروة مجدها وقوتها.

تغلف القطع الأثرية وتوضع داخل صناديق خاصة بحرص شديد، حتى لا يمسها كسر أو خدش، ومعظمها مصنوع من الخشب وبعض المواد المعدنية الخفيفة والألياف. إنها ستصبح بعد قليل في الطريق إلى بلدها الأصلي.

هنا يبرز على شريط الصوت صوتٌ يبدو قادما من أعماق التاريخ، إنه صوت الملك “غيزو” نفسه، الذي يخاطبنا وكأنه قد عاد إلى الحياة، مبديا غضبه على احتجازه طيلة تلك السنين الماضية في ذلك “الكهف” البدائي، فيما يسمونه “العالم المتحضر”!

“غيزو”.. ملك مسروق يعود لعرشه الأفريقي

تبدأ الرحلة مع تمثال الملك “غيزو” وغيره من القطع الأثرية النادرة، ويمتد شريط الصوت يزودنا بكثير من المعلومات مع أصوات تبدو كالأنين أو صيحات الاحتجاج والشجب والإدانة، وكلها باللغة المحلية القديمة التي كانت سائدة في مملكة داهومي، وما زال بعض من السكان في بنين يتكلمونها.

تسمى هذه اللغة لغة “الفون”، ونحن نتابع ما يقال بها من خلال الترجمة المطبوعة على الشريط السينمائي، ومع ذلك فإن لها وقعا خاصا في الفيلم، فبهذا التغريب الصوتي، يكتسب الفيلم تأثير الرهبة والسحر.

لن يكون تمثال الملك “غيزو” الوحيد الذي يتكلم ويعبر لنا عن مخاوفه وهواجسه، بعد أن بقي طوال تلك السنين في الأسر. إنه يعترض على تسميته برقم 26، وهو آخر أرقام القطع الأثرية، ويتساءل لماذا لا يسمى باسمه الحقيقي؟

لكن هناك غيره أيضا من تماثيل الملوك والمحاربين، منهم الملك “بيهانزين” والملك “جيليه”، ومنهم من يتخذ رأسه في التمثال شكل رأس حيوان، أو كائن بحري أسطوري، جريا على عادة القبائل الأفريقية القديمة.

استعادة التاريخ جزء من لغة التعبير في “داهومي”

فتح الجراح.. فيلم رثائي شديد المعاصرة

هناك روحانية تصبغ هذا العمل، وكثير من الشعر في الكلمات والعبارات التي تروي وتتحدث وتنطق، كأنها تنطلق من روح قديمة قلقة، تتساءل عن ما سيحدث لها، وعن مصيرها القادم عندما تعود إلى بلدها، كيف ستُستقبل، وهل تتقبلها الأجيال الجديدة من شباب اليوم وتتعايش معها وتفهمها وتفهم تاريخها، بعد كل ما وقع في البلاد من تغيرات خلال سنوات الاستعمار الفرنسي، وأولها فقدان اللغة الأصلية وحلول اللغة الفرنسية في مكانها، وهو نوع آخر من الاغتراب.

من البداية يصاحب هذه الآثار القديمة عالم متخصص، يشرف على تغليفها ووضعها داخل الصناديق، ويتابع تحميلها ثم نقلها، وعندما تصل إلى بورتو نوفو -عاصمة بنين- يسجّلها في سجل خاص. إنه يتعامل معها باعتبارها تجسيدا لملوك الماضي ومحاربيه ودياناته، ينحني أمامها في تبجيل واحترام.

ومع كل تلك الهالة من التبجيل والاحترام وتقديس الماضي والحرص على استعادة لغته أيضا، مع استخدام الموسيقى الإلكترونية التي تبدو صادرة من أعماق التاريخ، فإننا لسنا أمام أحد أفلام الدعاية، أو مجرد فيلم يحتفي باستعادة بعض القطع الأثرية المنهوبة، فلو اقتصر الأمر على هذا الجانب المباشر، لما كان الفيلم ليثير كل ما أثار من اهتمام وتقدير. إن فيلم “داهومي” يكتسب أهميته من معاصرته الشديدة، من كونه يتوقف أمام الماضي، لكي يفتح كل جروح الماضي والحاضر.

يتضح هذا في المشهد الطويل المفصلي في منتصف الفيلم، وهو مشهد يدور بإحدى قاعات جامعة “أبومي- كالافي” في بنين، وقد نظمه صانعو الفيلم، وحرصت المخرجة على أن يتميز بقدر كبير من التلقائية في النقاش، مع تصوير جميع الآراء المتعارضة في جو ديمقراطي منفتح تماما.

“إهانة وحشية”.. أحاديث النخبة عن الواقع الأليم وظلال الماضي

في اللقاء الذي نظمه صانعو الفيلم بالجامعة، كان هناك من بين الطلاب من يرى استعادة القطع الـ26 “إهانة وحشية” فأين باقي القطع، آلاف القطع الأخرى؟ وهل الأمر مجرد ضحك على الذقون للادعاء من جانب الفرنسيين أنهم يحترمون تراثنا؟ أم هي وسيلة الحكام المحليين لادعاء الجدية في استعادة الآثار، في حين أن المسألة لا تعدو أن تكون إيماءة رمزية لا معنى لها؟

هناك من يرى أن الحدث يدل على رغبة فرنسا في التغطية على ما تواجهه الحكومة من مشاكل داخلية. وهناك فتاة تراه نجاحا أوليا يتيح الفرصة لفتح نقاش جاد حول الهوية الوطنية والفترة الاستعمارية، ولا بد أن تتبعه ضغوط أخرى لاستعادة باقي القطع المنهوبة من فرنسا.

وهناك امرأة أخرى تعرب عن شعورها بالاستلاب، لكونها لا تستطيع أن تعبر عن نفسها إلا بلغة المستعمر، أي الفرنسية، “فكيف نتكلم عن الهوية من دون اللغة الوطنية؟”. وتصرخ امرأة أخرى في غضب: “قيل لي إنني من نسل العبيد، لكنني أنتمي إلى الأمازون”، وتكرر عبارتها مرات عدة.

تركز المخرجة السنغالية على موضوع العبودية، وتتطرق لازدهار تجارة الرقيق، وأن مملكة داهومي نفسها صنعت مجدها وقوتها العسكرية -في فترة ما- باستعباد الشعوب المجاورة والمشاركة في تجارة العبيد. ويتوقف الفيلم أمام تمثال ضخم للملك، محاطا بتماثيل صغيرة تمثل تجارة الرقيق.

“ماتي ديوب” تحمل جائزة “الدب الذهبي”

“أنا وجه الميلاد الجديد”.. ملك من عمق التاريخ يختتم الفيلم

الملك “غيزو” هو الذي يختتم الفيلم بكلماته التي تقول: “أنا وجه الميلاد الجديد، سأعود وأسير على شواطئ الجرح.. والآن لم يعد للرقم 26 وجود، وفي داخلي يتردد صوت الأبدية”.

يثير فيلم “داهومي” -على قصر مساحته الزمنية- كثيرا من الأفكار عن الماضي وعلاقته بالحاضر، عن العلاقة الملتبسة بالماضي الاستعماري وبالدولة الاستعمارية أي فرنسا، وعن مغزى الاستقلال، وهل تحقق فعلا، وهل يكفي أن نستعيد رموز التاريخ أم أن من الضروري أيضا مواجهة تاريخنا، بما فيه من سلبيات وشوائب؟!

كانت مفاجأة أن يعرض هذا الفيلم داخل مسابقة مهرجان سينمائي كبير بقدر مهرجان برلين السينمائي الدولي، لكن المفاجأة الأكبر تمثلت في فوزه بالجائزة الكبرى- الذهبية للمهرجان، التي توجت للمرة الأولى مخرجة ذات أصول أفريقية بهذه الجائزة الرفيعة.

“أحب التحرر من التقاليد المتعلقة بالشكل”.. حديث المخرجة

تقول المخرجة ماتي ديوب عن تجربتها في الفيلم: ما يميز الفيلم الوثائقي عن الخيالي هو الكتابة، قبل كل شيء، وعلاوة على حاجتي الملحة لإخراج هذا الفيلم بعد فيلمي السابق “أطلسي” (Atlantique)، كنتُ بحاجة إلى إعادة تجربة عملية الكتابة والتصوير الحر، بدلاً من تجربة العمل في فيلم خيالي.

إنني أحب التحرر من التقاليد المتعلقة بالشكل، وأحب فكرة إعادة اكتشاف أسلوبي خلال الكتابة مع كل فيلم، لقد تصورت فيلمي السابق “أطلسي” حكايةً قوطية، أما “داهومي” فهو “فيلم وثائقي خيالي”، وإذا خرج الناس وهم يتساءلون عما رأوه للتو، بعد أن مروا بتجربة فريدة (مع الشعور بنوع من المشاعر بلا شك)، فإنني سأشعر بأنني ساهمت في جعل السينما أكثر إثارة للدهشة والابتكار.

وهذا أيضا ما أتوقعه شخصيا من أي فيلم، ففي الأفلام الوثائقية تعد الكتابة في المقام الأول وجهة نظر إزاء الناس والعالم، والكتابة تبدأ باستخدام لغة السينما التي تترجم علاقتك بالعالم وبالآخرين وبنفسك.