المحرقة وغرف الغاز.. مبررات قيام دولة الاحتلال وإبادة شعب فلسطين

تتردد في العالم منذ سنوات كلمة “هولوكوست” التي تصيب من يسمعها أو يقرأها بالرعب، فقد أدخلتها القوى الصهيونية إلى جميع اللغات الحية، وجعلتها مرادفة لمعنى “الإبادة الجماعية لليهود” على أيدي النازيين الألمان. فما معنى هذه الكلمة، وما هو السياق التاريخي الذي أصبحت تستخدم فيه؟

يذكر د. عبد الوهاب المسيري في “موسوعة المفاهيم والمصطلحات الصهيونية” أن الهولوكوست كلمة يونانية تعني “القربان الكامل”، وأنها تستخدم في العصر الحديث للإشارة إلى إبادة اليهود على يد النازيين، ولكن الكلمة كانت في الأصل اصطلاحا دينيا، يشير إلى القربان الذي يُضحى به للخالق ويُشوى، أو على الأصح يُحرق كاملاً غير منقوص على المذبح، ولا يترك أي جزء منه لمقدم القربان ولا للكهنة. ولذلك كان الهولوكوست أكثر الطقوس قداسة، وكان يقدم تكفيرا عن جريمة الكبرياء، والمقصود من اختيار المصطلح هو تشبيه الشعب اليهودي بالقربان المحروق أو المشوي، وأنه حُرق لأنه أكثر الشعوب قداسة.

أما تعريف “الهولوكوست” حسب دائرة المعارف البريطانية، فهو القتل المنهجي تحت رعاية الدولة لستة ملايين يهودي وملايين آخرين، على يد ألمانيا النازية والمتعاونين معها خلال الحرب العالمية الثانية، وقد أطلق الألمان على هذا اسم “الحل النهائي للمسألة اليهودية”.

ويستخدم اليهود في إسرائيل كلمة عِبرية مرادفة لكلمة “الكارثة” و”الهولوكوست”، هي كلمة “شوا” (Shoah). وهي كلمة مشتقة من الشواء أي حرق الأحياء.

والمقصود من هذا المصطلح أن ما وقع لليهود أمر فريد في التاريخ البشري، وأن اليهود حرقوا -أو تعرضوا للإبادة- لأنهم أكثر الشعوب قداسة، ولا شك أن يهود أوروبا قد تعرضوا للاضطهاد على أيدي النازية الألمانية، وكانت لذلك أسباب عدة، منها ما هو سياسي واجتماعي واقتصادي.

ولكن من المؤكد أيضا أن الحركة الصهيونية شجعت الاضطهاد النازي لليهود الأوروبيين، بل إنها تعاونت مع الألمان في تحقيق ما عُرف بـ”الحل النهائي”، وهو “الحل الجغرافي” الذي تصوره “هتلر” لدفع يهود أوروبا للهجرة أو لتهجيرهم قسرا، أو تهجير الذين سيبقون أحياء بعد الحرب العالمية الثانية، إذا صمدوا لأهوالها وأهوال العمل داخل معسكرات العمل الإجباري، طبقاً لنظرية “هتلر” الخاصة في “الانتقاء الطبيعي” والبقاء للنوع الأقوى.

“في هذا المكان قتل النازيون أربعة ملايين يهودي”

يزعم الصهاينة أن النازيين قتلوا ستة ملايين يهودي أوروبي خلال الحرب، ويتشبثون بهذا الرقم لترويع العالم، والزعم بأنهم تعرضوا لما لم يتعرض له أي شعب آخر في التاريخ، فقط بسبب أصلهم “العرقي”، مع أن اليهودية ديانة وليست جنسا، فلا يمكن اعتبار يهود الحبشة مثلا من نفس العرق الذي ينتمي إليه يهود بولندا.

لقطة من فيلم “قائمة شندلر”

ومع ذلك فهم يزعمون أن الملايين الستة من اليهود، إنما قتلوا لكونهم يهودا فقط، وكان ذلك باستخدام أكثر الوسائل بربرية في كل العصور، أي بالغازات السامة (داخل غرف الغاز)، ثم حُرقت جثثهم (داخل الأفران)، أي بأدوات جهنمية صنعت خصيصا بغرض إبادة جنس بأكمله، وباستخدام أقصى ما وصلت إليه تكنولوجيا القتل في ذلك الوقت.

لكن منذ عام 1949، بدأ كثير من الدارسين والباحثين في الغرب -على رأسهم الفرنسي “بول راسينييه”- يتشككون في هذا الرقم، ويطرحون تقديراتهم المختلفة، ويراجعون المقولات السائدة عن وجود غرف الغاز وقدراتها الأسطورية، مما أرغم المنظمات اليهودية والباحثين اليهود من أصحاب نظرية “الإبادة”، على إعادة النظر في الأرقام المنشورة.

ودليل ذلك أن “متحف معسكر أوشفتز” في بولندا كان يعلق منذ عام 1963 تسع عشرة لوحة مكتوبة بتسع عشرة لغة، تقول إنه “في هذا المكان قتل النازيون أربعة ملايين يهودي”. وفى عام 1994، أزيلت هذه اللوحات ووضعت سلطات المتحف بدلا منها لوحات أخرى كتب عليها رقم مليون ونصف مليون ضحية (وقد ذكر “روجيه غارودي” هذا في كتابه الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية).

ومع ذلك، وما تلاه من إنقاص عدد ضحايا معسكر أوشفيتز إلى مليونين ونصف مليون ضحية، فقد ظل الإعلام الغربي والصهيوني يتشبث برقم الستة ملايين يهودي.

وهْم غرف الغاز.. خرائط تثبت استحالة الأمر علميا

في عام 1976، نشر البروفيسور الفرنسي “روبير فوريسون” للمرة الأولي في العالم صورا للخرائط الألمانية الأصلية، للمحارق الثلاث في معسكر أوشفتز- بيركناو الذي يعده اليهود “مصنعا للموت”.

وتثبت هذه الخرائط استحالة وجود إمكانية معمارية أو تقنية لوجود ما سُمي غرف الغاز، وأن ما يوصف بأنه غرف غاز لم يكن إلا غرفا تستخدم لحفظ جثث من يموتون في المعسكرات، جراء انتشار الأوبئة والأمراض المعدية الفتاكة، مثل التيفوس بسبب سوء التغذية ونقص الأدوية، مع استمرار القصف العنيف للحلفاء.

وقد نشر “فوريسون” سلسلة من الدراسات العلمية التي توصلت لاستحالة تشغيل وإدارة غرف غاز ضخمة لقتل ملايين البشر بمعدل عشرة آلاف شخص يوميا، من غير أن يؤدي هذا إلى كوارث حقيقية تقضي على حياة الضباط الألمان أنفسهم.

وترفض القوى الصهيونية والسياسيون الإسرائيليون تشبيه ما يحل بالشعب الفلسطيني من إبادة جماعية ثابتة بموجب قرارات محكمة العدل الدولية، بأنه “هولوكوست” آخر فلسطيني هذه المرة، يمارَس في غزة، فالهولوكوست يجب أن يبقى حكرا على اليهود وحدهم.

معسكر أوشفيتز.. مبرر “أخلاقي” لقيام دولة الاحتلال

يشكك نقاد الهولوكوست -ومنهم باحثون يهود- في عنصرين، وهما رقم الستة ملايين يهودي، وحقيقة غرف الغاز، وإن كانوا يعترفون بوقوع عمليات اعتقال وترحيل جماعي لملايين من يهود أوروبا إلى معسكرات العمل الإجباري الشاق في بولندا أساسا، حيث لقي كثير منهم حتفهم لأسباب مختلفة، منها انتشار الأمراض والأوبئة، ثم المجاعات التي اجتاحت هذه المعسكرات خلال الفترة الأخيرة من الحرب العالمية الثانية، نظرا لتعذر وصول الإمدادات، بسبب القصف المستمر للطرق ووسائل المواصلات.

ويعترف هؤلاء الناقدون بوجود “المحارق”، ولكن المحارق ليست غرف الغاز، ومع أن المحارق موجودة في كثير من معسكرات العمل النازية، فإنه لا يوجد أي أثر لغرف الغاز. وقد ثبت أن غرفة الغاز الموجودة في معسكر أوشفيتز الأسطوري -الذي كان ولا يزال محورا لآلاف الأفلام القصيرة والطويلة- قد بُنيت عام 1949، لتكون نموذجا للعرض على زوار المعسكر، وقد أقر بذلك مدير المتحف نفسه.

أما المحارق فكانت مخصصة لحرق جثث من ماتوا تحديدا جراء إصابتهم بمرض التيفوس، خشية أن ينتقل بالعدوى، وكان التيفوس وقتها سريع الانتشار في شكل وبائي، ويصاب المرء بالتيفوس من عضات البعوض والبراغيث والقمل، وكانت هذه الحشرات منتشرة في معسكرات الاعتقال النازية، وكانوا يقاومونها بمادة الزيكلون- ب، بتطهير الملابس وعنابر السجناء، ولكن أصحاب نظرية الإبادة في غرف الغاز قالوا إنها كانت تستخدم في توليد الغاز السام، بغرض القتل الجماعي لليهود.

وكان تكرار الحديث عن “غرف الغاز” هو المبرر “الأخلاقي” الذي قامت عليه دولة الاحتلال الإسرائيلي، فلو لم ترسخ عقدة الذنب لدى شعوب أوروبا تحديدا، لما سمحت بتدفق المهاجرين اليهود على فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية، وتأسيس الكيان الصهيوني والتغاضي المستمر حتى اليوم عن ممارساته “النازية”.

إنكار المحرقة.. تهمة تلقي بصاحبها خلف القضبان!

يوصف كل من يتشكك في رقم الـ6 ملايين يهودي، أو في وجود غرف الغاز، بأنه “منكر للهولوكوست”، أما لو كان يهوديا من يطرح التساؤلات حول طبيعة ومعنى الهولوكوست، فإنه يوصف بأنه “كاره ليهوديته”. ويتعرض كل من يشكك في رقم الـ6 ملايين يهودي، إلى حملات تشويه السمعة والتهديدات التي تصل إلى الاعتداءات البدنية، كما حدث مع “روبير فوريسون”، أو مقاضاتهم وتغريمهم وسجنهم كما في حالة “روجيه غارودي”.

مع أن هناك مراجعات كثيرة حدثت خلال الخمسين عاما الماضية لرقم الملايين الستة، حتى وصلت إلى إلى ما بين 630-710 آلاف شخص، بحسب تقدير الباحث اليهودي “جان كلود بريساك”، المؤمن بنظرية الإبادة في غرف الغاز.

في يوليو/ تموز عام 1981، أصدر الكنيست الإسرائيلي قانونا يحظر إنكار الهولوكوست، وينص على ما يلي: “يعاقب بالسجن مدة خمس سنوات، كل من ينشر كتابة أو شفويا، أي عمل ينكر الأفعال التي ارتكبت خلال الحكم النازي، وتشمل الجرائم ضد الشعب اليهودي أو الجرائم ضد الإنسانية، وكذلك أي عمل يقلل من أبعادها، بغرض الدفاع عن مرتكبي تلك الجرائم أو تأييدهم أو التماثل معهم”. وكان الكنيست قد رفض مشروعا ينص على فترة عقوبة تصل إلى عشر سنوات من السجن.

وفي فرنسا استطاعت المنظمات اليهودية إصدار قانون خاص عام 1990، يعاقب بالسجن خمس سنوات كل من يشكك في الهولوكوست، ولا سيما وجود غرف الغاز (وليس القتل بأي طريقة أخرى)، وفي رقم الـ6 ملايين يهودي، في حين يحكم على من يروج للإلحاد بالسجن سنة واحدة فقط. وقد صدرت قوانين مماثلة في معظم البلدان الأوروبية.

الهولوكوست.. مصطلح تلقّفته السينما بعد حرب 1967

تناول كثير من الأفلام الوثائقية والروائية، موضوع “الهولوكوست”، ولكن هذه الكلمة لم يكن لها وجود قبل يونيو/ حزيران 1967، وهو تاريخ لافت يرتبط بالحرب التي شنتها إسرائيل على ثلاث دول عربية، واحتلت بعدها الضفة الغربية والقدس الشرقية ومرتفعات الجولان إلى يومنا هذا.

وكان المبرر أن إسرائيل كانت “تواجه خطرا وجوديا” من جيوش الدول الثلاثة، تماما كما يقول اليوم القادة الإسرائيليون والإعلام الإسرائيلي، في تبريرهم جرائم الجيش الإسرائيلي من إبادة جماعية للفلسطينيين في غزة.

غرفة الغاز في معسكر أوشفتز (بنيت عام 1949)

ومن المشاهد المألوفة في الأفلام، تصوير المحرقة على أنها معادل لغرفة الغاز، في حين أن المحرقة أو أفران حرق الجثث موجودة في معظم المدن الأوروبية، لمن يختار أن تُحرق جثته بعد وفاته، وحرق الجثث لا يعني أن أصحابها قتلوا بالغازات السامة داخل غرف الغاز، بل إن تلك الغرف لم يثبت وجودها علميا، وهو ما توصل إليه المفكر الفرنسي الكبير “روجيه غارودي”. لكن هذا الخلط مقصود، وقد أصبح أكثر رسوخا مع تكرار استخدام كلمة “المحرقة”.

وكثيرا ما تصور الأفلام كومة كبيرة من الأحذية والحقائب وكتلا كبيرة من الشعر، مع تعليق صوتي مؤثر، وموسيقى درامية حزينة، ومناظر لغرفة خالية كئيبة مشققة الجدران، للإيحاء بأن أصحاب هذه الأشياء قتلوا داخل غرف الغاز، وهو استهتار وتلاعب مقصود بالصور.

“منطقة الاهتمام”.. تجاهل أسطورة غرف الغاز في السينما

اختفى ذكر غرف الغاز عمليا من الأبحاث العلمية الرصينة والكتابات التاريخية المدققة، بعدما ثبت أن اعترافات “رودولف هيس” قائد معسكر أوشفيتز كانت تحت التعذيب، وأنه أُرغم على التوقيع على اعترافات مكتوبة بلغة لا يفهمها، أقر فيها بأنه قتل مليونين ونصفا من اليهود في غرف الغاز، وهو ما ثبت فيما بعد أنه رقم غير حقيقي كما يقول “غارودي” في كتابه الموثق، ومع ذلك فإن الفكرة ظلت مستقرة عند صانعي السينما والمسرح والدراما المصورة.

كان فيلم “قائمة شندلر” (Schindler’s List) الذي أخرجه “ستيفن سبيلبرغ” عام 1993، أكثر الأفلام تأثيرا في مجال تصوير الإبادة داخل غرف الغاز بشكل درامي كبير. ومع ذلك فقد جاء أحدث هذه الأفلام عن معسكر أوشفتز خاليا من أي ذكر لغرف الغاز، وهو فيلم “منطقة الاهتمام” (The Zone of the Interest) الذي عُرض عام 2023، وفاز بجائزة أفضل إخراج في مسابقة “الأوسكار”، وهو من إخراج اليهودي البريطاني “جوناثان غلايزر”.

من فيلم “ليل وضباب” الوثائقي من عام 1955

يدور معظم الفيلم داخل منزل قائد المعسكر “رودلف هيس”، وهو ملتصق بالمعسكر، ونسمع منه أصوات صرخات وطلقات رصاص باستمرار، ونعرف أن هناك كثيرا من اليهود داخل المعسكر، وأن هناك تعذيبا وقتلا ومحارق ومدخنة عملاقة يتصاعد منها الدخان، لكن لا ذكر لغرف الغاز.

“جوناثان غلايزر”.. حملة شرسة ضد مُخرج كاره ليهوديته

كان مخرج الفيلم “جوناثان غلايزر” -وهو يهودي بريطاني- شجاعا عندما وقف وهو يتسلم جائزة الأوسكار، وأعلن إدانته الممارسات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وقال: نقف هنا ونحن رجال يدحضون أن تُختطف يهوديتهم والمحرقة، من قِبل الاحتلال الذي أدى إلى نزاع لدى كثير من الناس الأبرياء، سواء ضحايا السابع من أكتوبر في إسرائيل، أو الهجوم المستمر على غزة.

لا ينكر “غلايزر المحرقة، لكنه يرفض أن تستخدم مبررا لمسلسل القتل المستمر في غزة، ومع ذلك فقد كان هذا كافيا لتثور في وجهه حملة منظمة من قِبل المنظمات والقوى الصهيونية، ويتهم بإنكار “يهوديته”، وقد وصفه الرئيس السابق لرابطة مكافحة التشهير “آبي فوكسمان”، بأنه “صفع ذكرى أكثر من مليون يهودي ماتوا لأنهم يهود، بإعلانه أنه يدحض يهوديته”.

ولعل أكثر ما يلفت النظر في كلمة “فاكسمان” هو رقم “المليون” الذي ذكره، فها هو ذا أخيرا واحد من أشد المتعصبين الصهاينة، يتراجع عن ذكر “6 ملايين يهودي”. ومع ذلك ستبقى وسائل الإعلام والسينما تكرر الرقم، بعد أن أصبح ديانة جديدة في مجتمعات الغرب.

وقد صدق “غارودي” حين كتب أنه حاول في كتابه شجب هرطقة السياسية الصهيونية التي ترمي إلى استبدال رب إسرائيل بدولة إسرائيل، وأن دولة إسرائيل ما هي إلا “رد الرب على الهولوكوست”!