“منطقة الاهتمام”.. مدينة فاضلة في منزل قائد معسكر “أوشفيتز” ببولندا

بعد قرابة عامين من انتهاء معارك الحرب العالمية الثانية، أقدمت قوات التحالف الأمريكية على تنفيذ حكم الإعدام بحق “رودولف هوس”، وكان قائد معكسر “أوشفيتز” البولندي، بعد ثبوت تورطه في جرائم ضد الإنسانية.

بهذه الأقصوصة الصحفية، يسدل التاريخ الستار على أحد أكثر الشخصيات غموضا وريبة، لكن التنقيب والبحث الأرشيفي لا تزال معاوله مستمرة، ولعل أحدث حلقاته الفيلم الأمريكي البريطاني البولندي المشترك “منطقة الاهتمام” (The Zone of Interest)، وقد أُنتج عام 2023، وأخرجه وكتب له السيناريو “جوناثان غليزر”، وتستند أحداثه على كتاب للكاتب البريطاني “مارتن أميس” يحمل نفس الاسم.

تُرى ما الذي يدفع الباحثون وصناع السينما، إلى معاودة طرق السيرة الغرائبية لهذا الرجل؟

الواقع أن السرديات المتوارثة لا تحمل بين مروياتها ما يروي ظمأ هذه التساؤلات، ومن ثم تبدو أدخنة الغموض هي المُسيطرة، وهنا تسعى السينما لتفكيك تلك الأحجيات، التي تتوارى ألغازها خلف ستار الزمن العتيق، ولأن التاريخ يُعيد ذاته وفق دائرة مُحكمة الصياغة، فقد تلاقت معايير القدر والمصادفة، في اشتباك مضمون الفيلم مع مُعطيات الزمن المُعاصر.

فإذا كان مضمون الفيلم يشق من غير مواربة موضوعا إشكاليا كالهولوكوست، عَبر طرح أفكار شائكة فلسفيا عن الصمت والتجاهل الإنساني، تجاه ما أُثير لاحقا عن ما جرى من انتهاكات ومحاولات إبادة إنسانية، داخل معسكرات الاعتقال النازية، فقد شاءت الأقدار أن يتزامن استحقاق الفيلم جائزة الأوسكار، عن فئة أفضل فيلم أجنبي عام 2023، مع صمت وتجاهل المجتمع العالمي مواصلة آلة الحرب الإسرائيلية إبادتها المُمنهجة للشعب الفلسطيني، منذ اندلاع عملية طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

قائد المعسكر رودولف هيس يتأمل منزله الملاصق لأسوار معتقل أوشفيتز.

يقول مخرج الفيلم متحدثا عن الإبادة في غزة: يصور فيلمنا مآلات التخلي عن الإنسانية، وهي التي حددت شكل ماضينا وحاضرنا بأكملهما، الآن نقف هنا بصفتنا رجالا يرفضون، أن تُختطف يهوديتهم والمحرقة، على يد إحتلال، آدى إلى إندلاع صراع طال الكثير من الأبرياء”.

وفي اللقاء المجازي، بين فرضيات الدراما السينمائية، وما يوازيها من حوادث واقعية، يتجلى المعنى العام للفيلم، وهو يدور في فلك غياب الإنسانية، وحضور الأنانية الفردية التي تُجسدها الأحداث الدائرة في أربعينيات القرن الماضي، حيث ننطلق في رحلة وعرة، قوامها الحفاظ على عرين التماسك الأسري لمنزل قائد “أوشفيتز”، بعيدا عن أصداء ما يدور داخل المعسكر.

في ظل هذه الأجواء المُشتعلة، هل هنالك من يملك صكوك الحماية؟

حياة العائلة.. ضحكات وصخب واحتفالات وتجاهل

تكمن إجابة السؤال -الذي طرحناه آنفا- في المشاهد الأولى من الفيلم، فهي ترصد تسلسلات النزهة البرية بعين الكاميرا الثابتة، وفق حجم لقطات متوسطة الإطار، وتضم النزهة أسرة الضابط “رودولف هوس” (الممثل الألماني كريستيان فريدل)، وزوجته “هديونج هوس” (الممثلة الألمانية ساندرا هولر) وأطفالهما.

الملصق الدعائي للفيلم

بإيقاع متمهل مقصود، تتابع الكاميرا ما يدور في أثناء هذه الرحلة، ومكانها في الغابات المحاذية لمعسكر أوشفيتز، تتعالى أصوات ضحكات الكبار الممزوجة بصخب الصغار، ومن بين هذه المراحل المُتعاقبة، يمكن استنباط الإجابة المنتظرة، ويُمكن حصرها بين جدران كلمة واحدة، ألا وهي التجاهل.

تتدفق المشاهد متتالية وفق مصفوفة مُحكمة الصياغة بدرجة كبيرة، نُتابع بها احتفال الأسرة بعيد ميلاد الأب، ثم تنتقل الكاميرا لاقتناص معالم حياة الزوجة والأطفال داخل جدران المنزل المُتسع، وبعد أن تستغرق هذه المشاهد وقتا لا بأس به من الزمن، تصحبنا الكاميرا في جولة حرة، إلى مكتب عمل الزوج، حيث تدور عجلة الاجتماعات الرسمية التي لا تكاد تتوقف ديمومتها.

بناء الدراما.. عالمان متباعدان يربطهما النسيج السردي

جعل السيناريو أحداثه تدور بين شقي عالمين لا ثالث لهما، ومع أنهما متباعدين ظاهريا، فإن الخطوط المتقاطعة بينهما حاضرة وملموسة، فالعالم الأول نُتابع فيه الحياة الشخصية والأسرية لقائد المعسكر، في حين يقبع العالم الموازي بين جدران المعتقل، وكلما ازداد توغلنا في السرد تكشفت سمات كل عالم، وهي تندمج تلقائياً مع بعضها، وعَبر هذا التضاد تتدفق الأحداث وتندفع للأمام نحو الذروة المحتملة.

فقد اعتمد البناء السردي على تقديم عوالم السيناريو بصِبغة وثائقية، تُحافظ فيها الكاميرا على زواياها الثابتة المتوسطة الحجم التي تُقدم جرعة توصيفية، وتُساهم في ازدياد مُعدلات التأمل لدى المتلقي.

ومن ثم فقد لا تبدو الدراما حاضرة بقوة في نسيج الحكي، مع أن الهيكل الدرامي ملتزم بالقواعد التقليدية للسرد الخطي، الذي يرتكز على فصول درامية ثلاثة، يُسلم كل منها زمامه للآخر، في تسلسل إيقاعي مشدود كالوتر، ليست فيه لقطة زائدة، ولا يحتاج إلى لقطة تضاف إليه، فالرغبة في الوصول إلى صيغة تعبيرية عن تضاد العوالم السردية محل التناول، تجعل هذا الأسلوب هو الأكثر تناسقا ومواءمة من الناحية الشكلية.

بين حديقة الورد والأسوار الشائكة.. ملامح الجنة والنار

تعود الأسرة إلى المنزل بعد قضاء يوم النزهة، وفي الصباح نتجول مع أفراد البيت، نُتابع تدفق حياتهم اليومية المُكررة الإيقاع، فالزوجة منشغلة بالأعمال الصباحية المعتادة، والأطفال يلعبون، ثم ترتد الكاميرا مُرافقةً الزوجةَ إلى الحديقة المُلحقة بالمنزل، وهي أقرب إلى المعسكر، ولا يظهر فيها إلا أسواره الشائكة المرتفعة نحو الأعلى.

احتفال أسرة القائد في حديقة المنزل الملاصقة للمعسكر

بداخل الحديقة المُمتدة الأطراف، تجاور الأشجار الزهور في مظهر جمالي يوحي بالرقة والشاعرية، وتضيف الإضاءة الطبيعية بُعدا ساحرا على الطبيعة المكانية التي يدور بين إطارها ما تيسر من السرد، ثم ينطلق شِقه المقابل في أجواء المعسكر التأهيلي، وبين جدرانه ما يكفي ويفيض من اليهود.

لا ترصد الكاميرا هذا العالم المقابل، إلا بمشاهد ضئيلة البُعد الزمني، لكنها واسعة التأثير، وهنا يلجأ الإخراج إلى شريط الصوت، لتعويض غياب الصورة، مما يسمح لسلاح الخيال بالعمل وفق وتيرة مُتلاحقة، لبناء عالم موازٍ لما يدور في الداخل، فلا نراه لكن تطرق أسماعنا بعض أصواته، منها الصياح المتبادل، والزعيق والزمجرة الغاضبة، وبعض الأعيرة النارية المُتردد صداها في الأجواء.

ومع أن تصنيف الفيلم تاريخي حربي، فإن مشاهد الحرب والمعسكر لا تظهر على الشاشة، ولكن يشعر المتفرج بحضور أجوائها الغائبة الحاضرة، إما باجتماعات العمل التي يرأسها الأب، وفيها يتداول موضوعات السجن وأحواله الداخلية، وكيفية تطوير غرف الغاز، لتتسع لتوافد المزيد من اليهود المُنتظر حلولهم ضيوفا مؤقتين على المعسكر.

صورة بانورامية لاجتماع القادة العسكريين في حجرة ضيقة المساحة.

تتدفق الأحداث وتندفع نحو الأمام، عَبر هذا التضاد بين هذا العالم وذاك، عالم عائلي أشبه بنسخة مُصغرة من الجنة، في حين أن الناصية المقابلة تنطوي على كل ما هو خلاف ذلك، وتلك إعادة توليف وصياغة لثنائية الجنة والنار، فالعالم المثالي هو ما تسعى هذه الأسرة إلى تشييده، أما ما يقبع خارج حدود هذا العالم المألوف، فلا سلطان عليه.

المدينة الفاضلة.. شرنقة تحمي نفسها من تفاعلات الخارج

ينقسم السرد إلى ثلاثة فصول تقليدية المحتوى والهيئة، فالبداية مع التمهيد لعالم الفيلم، ثم يصحبنا السيناريو في الفصل الثاني إلى مسرح أحداثه، ويُزاح فيه تدريجيا ستار الغموض عن هذه الحياة ذات البريق الخارجي الخاطف، في حين يعتمل في الداخل صراع وجودي، قوامه الحفاظ على الهوية الأسرية، بعيدا عن أي ملوثات خارجية، فما يدور بين جدران المعسكر لا يُدركه أفراد الأسرة، وإذا اشتبكت بعض المؤثرات الخارجية مع الداخل، فالصمت والتجاهل هما السلاح الوحيد الفعال في المواجهة.

وهنا يخلق الفيلم نقطة صراع، تدور رحاها حول كيفية الاحتفاظ بحياة مثالية الأجواء، في عالم تشتعل فيه أهواء النزاعات العِرقية والطائفية، وكأنه لا رابط بينه وبين ما يدور في المُحيط الخارجي، وذلك تطبيق عملي لمفاهيم الصمت والتجاهل الإنساني.

سور المعسكر الملاصق للمنزل، ومنه تظهر الأسلاك الشائكة والمباني الداخلية.

بنظرة بانورامية على حياة الأسرة، يُمكن إدراك أن الحياة داخل هذا المنزل الكبير، ليست إلا تَعبيرا مجازيا عن المدينة الفاضلة، تلك المساحة المكانية التي لا تحوي بين رقعتها المُتسعة، إلا من كان لديهم حظ وافر من الصحة والعقل، وكذلك الحال بالداخل، أما النسخة المشوهة من هذه المدينة، القابعة بين أسوار المعسكر، فليس فيها حق الحياة أصلا.

وهنا تعود تساؤلات مشروعة عن مدى إمكانية الحفاظ على نقاء هذه المدينة الفاضلة، فتجيبنا المشاهد المُتعاقبة للأسرة في مُحطيها المنزلي عن هذه الأسئلة المؤرقة، وتكشف بتتابعها عن التباين بين مُتطلبات عمل الأب القاسية، وما يقابلها من واجبات أسرية، يُمارسها بأداء طبيعي لا تكلف فيه، وبذلك تبدو مبررةً مجهوداتُ الأب والأم، لإيداع حياتهما داخل شرنقة ذاتية التكوين، حتى لا تصل إليها تفاعلات الخارج.

لكن لكل وسيلة دفاعية ثغراتها الرخوة، فالإحساس بالواقع المُحيط تتسرب مُستشعراته في حياة الأطفال، فالطفل الأكبر يُتابع ما يدور في العالم المقابل من نافذة غرفته، ولذلك ينحصر نطاق لَهوه على مجسمات الألعاب العسكرية، وتلك إشارة للاقتحام غير المحسوس لبواعث البيئة المحيطة، وهي لا تخلو من ترهلات السلطة وشحومها المُسيطرة.

دولة الضباط.. عالم يحكمه وهم السلطة والأوامر العسكرية

دائما ما تُغرق الأنظمة الديكتاتورية ذاتها، وليس ذلك بحكم دوران عجلة الزمن فحسب، بل إن السبب الحقيقي يعود إلى تسليم بواطن الأمور وظاهرها لفئة لا ترى من الزوايا العريضة إلا الضيق والمُحاصر منها، وهذا ما حدث للدولة الألمانية، حين سلمت مقاليد سلطتها لحفنة من الضباط، لا هَمّ لهم سوى التنامي المُتصاعد لوَهم السلطة وزهوها الفاني.

وبما أن الفيلم يطرح على قارعته السردية أفكارا تتماس تلقائيا مع الفكر السلطوي، فإن اللجوء للغة الاستعارة يُعد أمثل خيار للتعبير عن مثل هذه الأطروحات الفكرية المُثارة داخل السرد الفيلمي.

يخلق السيناريو عالمه مُستندا إلى الفرضية التاريخية التي تكشف عن حياة “رودولف هوس”، هذا الضابط الذي تسبب -وفق اعترافاته أمام لجان التحقيق آنذاك- بمقتل نحو 3.5 ملايين يهودي، مُعتمدا على تقنيات غاز السيانيد السام، وحتى تتسنى لنا القراءة السليمة لمحتوى الفيلم الفكري، فإن الخلفية التاريخية تبدو رافدا رئيسيا لفهم ما يدور أمامنا.

الطفل يلعب بدمي العسكر، في إشارة لتسرب مؤثرات الحياة الخارجية للداخل.

فنحن أمام عالم تحكمه مجموعة من الضباط، تُشكل الأوامر العسكرية حيزا مُتسعا من حياتهم، وحتى يستطع السيناريو خلق مُحيط أحداثه بواقعية، يَعمد إلى زرع مشاهد عدة، تتضمن هذه الفكرة الجلية والواضحة عن السلطة، سواء عند الزوج أو الزوجة التي تأثرت بالحياة العسكرية لزوجها قائد المعسكر، والآمر الوحيد لهذه البُقعة المكانية المُنعزلة.

سيدة البيت.. تعطش الذات الإنسانية لمشتهيات السلطة

نرى تجليات تأثر الزوجة بالقائد في عدد من المشاهد، تكشف عن غلظتها المفرطة في التعامل مع أفراد حاشيتها المنزلية، بل عن إحساسها المُتصاعد ببريق السلطة، فالخدم المرافقون ينادونها سيدة البيت، وذلك تعبير ضمني عن تضخم وتوحش ذاتها المُتعطشة للمزيد من مُشتهيات السلطة.

قد يَبدو للبعض أن توسع الفيلم في رسم عوالمه السلطوية خروج عن المعنى العام المُراد قوله، لكن بقليل من التبصر يُمكن إيجاد خيط الترابط بين الفكرتين، فإذا كانت السلطات المطلقة لا تُعنى في المقام الأول إلا بتعظيم الإحساس بالذات، فإن كل من يصدح بالقول المُغاير، لن يُنصت لهمساته.

وهنا يُمكن الإمساك برباط التلاقي بين الفكرة الرئيسية للفيلم وما يقابلها من أفكار مرفقة، ويُمكن حصرها بين إطار السلطة وتأثيراتها الموازية، ففي أحد المشاهد التي ترصد اجتماع القادة العسكريين، تلتقط الكاميرا حشود القادة من زاوية عين الطائر، وهي هنا ذات دلالة مُغايرة عن المعنى السائد عنها، فالحصار والضيق هما ما توحي بهما تلك الزاوية المُستعارة، ويتسرب الإحساس فيما بعد إلى المتفرج، حتى يُصاب بالانقباض والرهبة، وهما يُسيطران على مفاصل الفيلم كله.

لغة الموسيقى والألوان.. أحاسيس خفية تتسرب لوجدان المشاهد

مع أن الفيلم يطرح موضوع الهولوكوست الذي قد استُهلك عرضا وبحثا، فإن التناول هنا مُغاير عن المألوف، فلا مشاهد مُتخيلة ترصد ما جرى، لانتفاء الحاجة إلى تلك البكائيات المعهودة، فالإحساس العام بالانقباض والوحشة يُمسكان بتلابيب السرد.

وقد ساهمت الموسيقى التصويرية التي صنعتها عازفة الكمان البريطانية “ميكا ليفي” في البلورة الحسية لهذه المشاعر المُتضاربة، وكذلك الصورة المطعمة بالفواصل اللونية التي تفصل كل مقطع سردي عن الآخر.

الخادمات يتأملن المتبقي من ملابس اليهود المحروقين بالغاز، للبحث عن ما يصلح لهن.

فكانت البداية بالسواد الذي يستغرق الشاشة بضع دقائق، ثم تنفتح الصورة على المشهد الاستهلالي، ثم مع بدايات الفصل الثاني يُسيطر اللون الأبيض، إشارة إلى رماد الموتى، حتى نصل إلى الذروة مع اللون الأحمر، وهو دال بلا ريب على انبثاق الدماء وتفشي سوائلها الفياضة.

“منطقة الاهتمام”.. هوية فكرية تلامس عناصر البناء الشكلي

يبدأ الفيلم بمشاهد تأسيسية لحياة أسرة قائد أوشفيتز الهادئة، ويستمر السرد على هذا المنوال، وكأننا أمام قوسي حكاية، ينفتح أولهما بالمشهد الرئيسي، ثم يلتقي القوسان معا في المشاهد النهائية للفيلم، وهي تلقي الضوء على الاجتماعات العسكرية للقائد برفقة زملائه.

ومنها نصل إلى المشهد الأبرز، فيندمج السرد الروائي مع الوثائقي في وحدة عضوية واحدة، في حين يقف بطلنا في الردهة بين مكاتب القادة، ينظر للأمام نحو البقعة المُظلمة التي تنفتح على المستقبل، ثم نرى عَبر مشاهده التحول الجذري للمعسكر إلى متحف يحوي بين جدرانه صورا وأشياء للقتلى، وذلك تعبير صريح عن حتمية الحكم التاريخي.

هنا تتجلى حرفية الإخراج في تضافر عناصر البناء الشكلي للفيلم مع هويته الفكرية، بمزيج ذكي حساس يقول الكثير وكأنه لم يقل شيئا، وهذه ذروة السلاسة الفنية، ولا يُجيد توليفها إلا الصناع المهرة، ومنهم مخرج الفيلم “جوناثان غليزر” بلا شك.

وبالعودة إلى المشهد السابق، يتماس المعنى المقصود بأحقية الذكرى للمجني عليهم مع الزمن الحاضر، فالتاريخ يغفل دائما عن ذِكر الجلاد، في حين يُخلد آثار الضحايا، ولأن المسارات الزمنية تُجيد قواعد لعبة تبادل الأدوار، فقد أصبح اليهود في فيلمنا جلادين في زمننا الآني، فإذا كانت طاقة الانتقام هي التي تُحرك سُعارهم الغاضب، فينبغي أن يراعوا دقة التصويب.