السّيناريو بين الوثائقي والتخييلي

د. أحمد القاسمي
 
ينزع بعض المهتمّين بالفنّ السّينمائي إنشاءً وفرجةً ونقدا إلى تقسيم إبداعاته إلى نمطين كبيرين هما سينما الحقيقة وسينما الخيال. فيُخفي هذا التّصنيف موقفا منتصرا إلى هذا النّمط أو ذاك. وبالمقابل يؤكد آخرون أنّ الهوّة بين النّمطين قائمة في الأذهان أكثر ممّا هي قائمة في الواقع. وحجتهم في ذلك قولهم باستحالة الوصول إلى الحقيقة المطلقة في السّينما الوثائقية قدر استحالة التّجرّد من تأثيرات الواقع والمعيش في السّينما التّخييليّة. وقد يكون هذا ما دفع السّينمائي والنّاقد جون لوك قودار إلى أن يقرّر في اطمئنان :
” أنّ كلّ أفلام التّخييل الكبرى تنزع نحو الوثائقي نزعة الوثائقيات إلى التّخييل.. وإنّ من يختار أحدهما بعناية يجد الآخر في نهاية الطّريق بالضّرورة” . 
 
ولعلّ التّمعّن في هذه المواقف وتصنيفها بحسب اختصاصات أصحابها أن يبرز لنا أنّ النقّاد عامّة أقرب إلى الاتّجاه الأوّل، اتجاه الحدود والفصل، فيما المبدعون أميل إلى الاتّجاه الثّاني، اتجاه التّفاعل والتّراشح. وهذا طبيعيّ فديدن المؤسّسات – والنّقد الفنيّ يشتغل بقانونها- التّصنيف والتّقنين وتسييج الظّواهر بالحدود التي يُمنع تجاوزها. وشأن الإبداع العمل المستمرّ على انتهاك الحدود والضّوابط التّمرد عليهما والبحث عنّ التّجربة الفريدة والنّصّ البكر. 
إنّ هذا الاختلاف ما يحثّنا على أن نخوض في المسألة، بحثا في المؤتلف من هذين النمطين والمختلف منهما، لا من منطلق الانتصار إلى فريق دون آخر، وإنما من منطلق الدّفع بهذا الجدل من دائرة الانطباع والانفعال إلى دائرة التمثّل الواعي المبرّر. وحريّ بنا الإشارة إلى أننا نتناول المسألة من زاوية محدّدة تعود بنا إلى مرحلة ما قبل البدء بتنفيذ الفيلم، نقصد مرحلة إنشاء السيناريو، باعتبارها النّقطة الخلافية الأبرز بين الفريقين، ونقطة التّباين الأعمق بين النّمطين. وحريّ بنا إلى ذلك الإشارة إلى أننا نقصر مقاربتنا هذه على سيناريو الفيلم النّمطي (Le film de genre) بالنّسبة إلى سينما التّخييل وعلى سيناريو الدّراسة الوثائقيّة (L’essai documentaire  بالنسبة إلى السّينما الوثائقيّة وذلك لاعتماد هذين الجنسين على أطرزة تكاد تكون ثابتة فيما تعمل بقيّة الأجناس في النمطين على مقاومة التنميط ومعاداة الأطر الجاهزة .
 
I) خصائص السيناريو في التخييلي 
 
آثرنا أن نبحث في سيناريو الفيلم التّخييلي من مستويات مختلفة هي ابتكار الحكاية وبناؤها وخلق الشّخصيّة وتنميطها وتحديد حاجاتها تأجيجا للّصراع وتذكية له. ونقدّر أنّ هذه المباحث كفيلة بإبراز خصائص هذا النّمط الفنيّ تمهيدا لمقارنته بالسيناريو في الفيلم الوثائقي في القسم الثّاني من مقالتنا هذه.
 
I-أ) بناء الحكاية:
يتولّى كتّاب سيناريو التّخييلي خلق الشّخصيات وضبط العلاقات بينها ورسم مسار الأحداث وتشكيل العقد الرئيسية والفرعية ضمن بناء ثلاثي يفرّع إلى:
فصل البدايةِ، وفيه يتأسس فيه الاصطدام المركزي المتمثّل في تعارض قوتين أو أكثر. ويمكن تفريعه إلى استهلال يعرض حياة الشّخصية الرّئيسية وما يحيط بها أو ما تلاقيه من المشاكل. ويعمل على خلق تعاطف معها من خلال تصرفاتها، سلبيا كان أو إيجابيا. وخاتمة تفضي إلى الحدث القادح، ذلك الحافز الذي يمنح القصة اتجاها جديدا ويدفع الشّخصيّة إلى مغامرات جديدة أو متاعب غير متوقّعة. 
فصل الوسط، وفيه تتطور المشكلة تطورا عنيفا فتتفرّع القصة الرئيسة إلى عدد من المشاكل الثّانوية التي تجسد أزمة البطل. وكثيرا ما عمد هذا الفصل إلى جعل المتفرّج يشعر بنفور من خصم البطل الرّئيسيّ. وفي هذه المرحلة تتّجه الشّخصيّة إلى عالمها الباطني في لحظات الأزمة، فتعيد النّظر في بعض المواقف والأفكار. وتصل في المنتصف من هذا الفصل إلى ما يُصطلح عليه بالانعطاف المركزي. حينها تصبح الشّخصية مسيطرة على الوضع أكثر من كونها تنساق مع الأحداث وتستحيل عودتها إلى الخلف ، ولا تسير في طريقها الى الهدف، بقدر ما تشرع بالعمل بصورة واعية على تحقيقه. فتكون أمام تحدي اتخاذ القرارات واختيار المواقف وتعمل على دفع المتفرّج إلى طرح الأسئلة التّالية: “هل تثق الشّخصية بنفسها؟ هل ستستطيع التّغلب على مواطن ضعفها؟..” وبالوصول إلى خاتمة هذا الفصل يكون النّص قد أدرك مرحلة الذّروة: تلك اللّحظة القصوى من التّوتر ومن المواجهة.
فصلِ النهاية: هو فصل حلّ العقدة. فيه تصل الشخصية إلى هدفها أو تقصر دونه (كأن تموت في المعركة). ولكن عامّة تمثّل النّهاية – في الفيلم النّمطي أساسا – لحظة انتصار المبادئ التي جسدتها الشّخصيّة وناضلت من أجلها. ويكون على كاتب السّيناريو تدبّر كيفيّة مجازاتها بطريقة مبتكرة ومعاقبة خصومها عقابا يرضي المتفرج ويجسّد المغزى الأخلاقي للحكاية.
 
 يختزل سيد فيلد هذا المسار فيقول “جميع الأشياء مرتبطة في السيناريو الذي تكتب، لا شيء يحدث مصادفة”  
ويبرز أنّ الأحداث تتضافر بين البداية والنهاية لتشكّل متّجها (Vecteur) يندفع إلى الأمام على هيئة مسار. ذلك شأن البدايات والنّهايات في النّموذج الهوليودي فهما “دائرتان متّحدتا المركز، مرتبطتان بعضهما ببعض، متوحّدتان إلى الأبد ومتعارضتان إلى الأبد”  .  
 
I- ب) من ابتكار الحكاية إلى خلق الشّخصيّة : 
بقدر ما يكون كاتب السّيناريو قادرا على خلق الشّخصيات المميّزة يضحي مبتكرا للحكايات الفريدة. ولكن لا يتسنّى له ذلك – إجرائيّا – إلاّ متى ضبط شبكة من الأسئلة وبحث لها عن الأجوبة المتناغمة نحو [ماذا تريد؟ من/ ماذا  يحول دونها وتحقيق أهدافها؟ كيف تتجاوز عراقيلها وتتغلّب على العقبات؟ هذه الشّخصيّة تعتقد أنها حرمت من حقّها في ترقية: كيف ستدافع عن نفسها] 
وضمن هذه الأجوبة تُحدّد سماتها وسياقها العام نقصد السياق التاريخي والحضاري كتحديد مكان الولادة وسنتها وانتماء العائلة الاجتماعي والاقتصادي والعرقي… ويُضبط سياقها الشّخصي [مستوى الشخصيّة التعليمي وقدراتها وأهدافها ومهاراتها أو عاهاتها الجسديّة التي تشكّل حافزا للبناء الدرامي  ] وللتّكوين النفسي والعمق الباطني والروحي أثر بيّن في تحديد مدى طرافة السيناريوهات وفي منحها بعدها الإنساني حتى يجد فيها المتفرّج شيئا من انتظاراته أو تحثّه إلى إعادة ضبط قيمه مع المثاليّ، وإن لم تكن الشخصيّة بشريّة. فمن سمات الشخصيّة أن تكون نامية أو مسطحة، انطوائية أو منفتحة متجهة للخارج، حدسية  قيادي أو طيّعة تميل إلى الانقياد..] ويقتضي التّكوين النّفسي للشّخصية جرحا نفسيا يكفل تفاعل المتفرّج وانخراطه في الفيلم كأن تعيش معاناة ما تمنعها من الحياة الهادئة. 
 
 من أنماط الشخصيات يمكننا أن نذكر الشخصيّة الرئيسيّة (protagoniste): وينحدر هذا الاصطلاح من [اللغة] الإغريقية فيفيد [proto] الأول و[âgon] معنى الصراع بما يعني “المصارع الأوّل” أو “الأول من المعركة”  على أنّ ترجمتها إلى العربيّة بـ[ـالبطل] لا يؤدي المعنى بدقّة لأنه لا ينسجم مع كلّ الأفلام فمن معانيه الجانب الكمّي إذ  يحضر في أغلب المشاهد ويكون حضوره ضروريّا للدّفع بالحدث ومن ثمّة يعيش أغلب الصّراعات ويواجه أعتى العراقيل . 
فمن سمات الفيلم النّمطي أن تكون للشّخصيّة الرئيسيّة (إنسانيّة كانت أو حيوانيّة، واقعيّة أو خياليّة) هدف وحوافز تدفعه إلى تحقيقه. ومن خلال ما تأتيه وعبر حركتها في سياق خاصّ يؤثر على سلوكها تنكشف للمتفرّج يسيرا يسيرا. وهذا ما دفع أبروش إلى يستنتج صعوبة خلق دراما من خلال الشّخصيّة الفاقدة للهدف وذلك لأنها “تكسر القاعدتين الأساسيّتين للدراما الكلاسيكيّة (ماذا تريد الشخصيّة؟ وإلى إي مدى تذهب في تحقيقه؟)” .
ويقتضي وجود الشخصية الرئيسيّة مناوئا (antagoniste) وهو المعرقل الذي يحول دونها وإدراك هدفها. ولهذا المناوئ أن يكون ذاتيا (عجز الشّخصيّة عن التّلاؤم مع محيطها لاختلاف في الدّين أو لون البشرة أو الأصل الاجتماعي أو لمعاناتها من عاهة جسديّة أو لتعلّقها بحبيبة أو بأمّ مريضة، بما يمنعها من الهجرة) أو خارجيا مداره على المواجهة بين الإنسان ومحيطه فيرد في شكل معرقل مادّي (حاجز يمنع من العبور إلى الوجهة المقصودة) أو إنسان (منافس في وظيفة أو غرام..) وأيسر هذه المواجهات على كتّاب السيناريو ما ينشأ من صدام مع المحيط العائلي والمهني وأقصاه ما ينشأ عن القلق الفكريّ الذي يدفع الشّخصية إلى التّصادم مع الوجود بأسره.على أنّ المواجهة تقتضي شيئا من التّوازن لأن المتفرّج أميل إلى التّماهي مع الشخصية المبنيّة بطريقة أفضل 
 
II- ت) من خلق الحاجة إلى تأجيج الصراع
تطرح جملة من الأسئلة على مستوى الإجراء من قبيل: كيف يُحدّد الهدفُ؟ وما العناصر المساعدة على تحقيقه؟ وكيف تخلق المواجهة؟ فيكون الصّراع أداة تساعد في اختبار قيم الشّخصية وقناعاتها وعواطفها. وكثيرا ما يتحوّل إلى مولّد للقصّ. ومن ثمّة يوجه سيد فيلد، الكتاب إلى خلق المواجهات في الفيلم إذ “يعكس كل عمل درامي صراعا، وإذا عرفت حاجة الشخصيّة فبإمكانك أن تخلق العقبات أمامها وصولا إلى ذلك الصراع” مقدّرا أن قانون نيوتن القائل بأن [لكل فعل ردّ فعل مساوي له في المقدار ومعاكس له في الاتجاه] ينطبق على بناء الفيلم تماما”  وعليه فمأتى الحكاية عنده من الجهد الذي يبذل لتجاوز العراقيل . وهذا ما يجعل السيناريو، نشكل مّا، استراتيجيا التّصرف في هذه العقبات وتنظيمها توزيعا بين الشخصيات أو على مدار الفيلم وتدرجا فيها بين عقبة رئيسيّة وأخرى فرعيّة. وإجمالا يلخّص في السؤال الدرامي (هل سيحقق البطل غايته وينال مراده). وهذا يقتضي جوابا دراميّا ايضا وهذا يقتضي جوابا دراميّا يقول سيد فيلد . بمعنى ضرورة جعل الهدف مجسّدا مرئيا فلا تظلّ السعادة مثلا فكرة مجرّدة وإنّما تترجم بصريّا وحدثيّا  (أن نربح القضيّة التي نخوض من أجلها المعارك القضائيّة) وضرورة أن يكون كاتب السيناريو متمكّنا من مختلف أوجه الصراع في الفيلم وأن يطوره – في مختلف جبهاته – بطريقة مقنعة للمتفرّج بعيدة عن  النهايات المفتعلة. 
 
  (II السيناريو في الفيلم الوثائقي: بين الحاجة والتّرف .
 
ممّا يُكسب الفيلم الوثائقي شرعية الانتماء إلى الفن السّينمائي تعاليه على اللّحظة العابرة والموقف الرّاهن وتجاوزه للهاجس التّواصليّ الإخباريّ إلى التعمق في سبر أغوار التّجربة المدروسة تحليلا واستدلالا. ولعمل مبدعه – بشكل دؤوب – على توظيف عبقريّة الوسيط البصري توظيفا يعمّق من وقع الأثر فكريّا وجماليّا دور حاسم في تكريس هذا الانتماء. ولعلّ منجز فارتوف وفلاهرتي أن يكون نموذجا لهذا التّعالي فكثيرا ما أشاد النّقاد بقدرة الأوّل على تصوير الصراع الطبقي وحلم الطبقات الكادحة ضمن ما اصطلح عليه بالتّشفير الشيوعي للعالم بقدر ما أشادوا بتوظيف الثاني للطبيعة وتجسيد صراع الإنسان العنيف معها فجعله صراعا دراميّا ونزّله ضمن غريزة حب البقاء.. 
وتتضمّن هذه الأحكام النقديّة مصادرة تفترض في هذه السينما الوثائقيّة الإعداد المسبق بحيث يكون الإخراج تنفيذا لخطاطات جاهزة تعمل على حسن تجسيد تصوّرات المخرج وهو ما يعني ضمنا اعتماد هذه السينما للسيناريو بشكل مّا..  وهذا ما يطرح سؤال جدوى السيناريو في السينما الوثائقية ويخوض في مدى حاجة الفيلم له.
 
II -أ) سيناريو الوثائقي وشبهتي التّخييل والذّاتية:
 
يسود اعتقاد راسخ لدى كثير من المتفرّجين مداره على أنّ الأفلام الوثائقيّة عامة هي أفلام “تسجّل الواقع والحقيقة كما هيّ تسجيلا أمينا، صادقا، دون تحوير أو تزييف”  وعلى أنّ مادته الوثائقيّة عنوان موضوعيّته “إذ يعتمد مصدرُ الصورة على الواقع الحيّ المباشر، أي على المادة الواقعيّة الموجودة موضوعيّا وغير المختلقة والتي تنتقل فيزيائيّا على طبقة الفيلم الحسّاس.”  فلا مناص لمخرج هذا الجنس من الأفلام من الابتعاد ما أمكن عن لوثة الإيهام والتخييل فـ”ـأهم إدانة للفيلم التسجيلي هي نعته بكونه خياليّا… أي مفتعلا.. وذلك من أجل جذب الجمهور دراميّا، أو بمعنى أدق، إن تقديم الحقيقة تعني بالنسبة إلى التسجيليين جمالا يفوق بكثير الجودة والإتقان الشكلي.”  
 
وما يبررّ هذا الاعتقاد أنّ للسّينما الوثائقيّة خصوصيات تميزها عن سينما التخييل. منها ما يتعلق بالموضوعات المعالجة ومنها ما له صلة بخصوصيات الإنشاء والتقبل والوسيط في آن لذلك يمثل الحديث عن السيناريو في هذه السينما بما، هو إعداد مسبق يضبط بمقتضاها محتوى الفيلم، مفارقا لطبيعة الإنشاء في هذا الفنّ، فإلى أي حد تحقق وظيفة التوثيق ونحن نضبط ما لم يتحقق بعد (التوثيق لأحداث حرب مثلا) أو نرتب ما لم نعرف بعد من الشهادات ووجهات النظر.. ولمّا كان السيناريو عنوانا لتدخّل المخرج في هذه الحقيقة المحض المتجرّدة من كل شوائب الذّاتيّة وتصرّفا مثّل مثار للاحتراز وعدّ اعتماده لوثة تشين الفيلم وتحطّ منه فنيّا وأخلاقيّا في آن. ويجد بعضهم في عزوف المدرسة السوفيتية عامة عن السيناريو الجاهز حجة تدعم هذا الموقف. فكل من فرتوف وإزينشتاين نزع هذا المنزع وجادل فيه بودفكين بحجّة أن العمل بدون سيناريو جاهز يقاوم هيمنة المنحى الأدبي أو المسرحيّ من المادة المصوّرة ويمنح الأولويّة في الفيلم إلى عبقريّة الفن السّينمائيّ فيعمّق من الطّاقات الإيحائيّة للخطاب البصري ووجد كلاهما في التّخلي عن السيناريو الجاهز هامشا من حريّة كبيرة تُنمح إلى المخرج فتخوّل له تنضيد مادته المصوّرة أثناء المونتاج وتمكنه من تجسيد رؤاه الفنيّة بعيدا عن قيد الحكاية ومتطلبات التّخييل. وهكذا أولى هؤلاء المعترضون أهميّة بالغة لعمل المونتاج حتى غدا المرحلة الأهم من مراحل تشكّل العمل وأضحى مصدرا للرؤى الجماليّة وللفلسفات المتباينة” . 
 
بعيدا عن هذا التصور المثالي الذي يعتقد في إمكانية الوصول إل�� الحقيقة المحض المجرّدة عن ذات المبدع أو رؤاه الفكرية والجماليّة أو تأثيرات الوسيط وظروف التقبّل وسياقاته استقرّ لدى النقّاد اليوم أنّ مأتى تفرد سينما التّوثيق ممّا يضمّنه المبدع من وجهات نظر خاصّة للوقائع وللحقائق وممّا يوظّف من رؤى سينمائيّة تخرق السائد. فأكدوا أنه حالما تحضر الكاميرا ينتفي الواقع والحقيقة ليحلّ التّمثل الشّخصي والرؤية الفردية، فكريةً أو جماليّةً. ومن ثمّة صادروا على أنّ المخرج، وهو يختار مادته المصوّرة وزوايا إدراكها أوّلا ثم وهو ويمنحها إيقاعها حينما يؤلف بينها في المونتاج ثانيا، إنّما يضمّن ذاته ضمن الموضوع ويدسّ رؤاه الخاصّة. وهذا ما يجعل الإمساك بالحقيقة المطلقة مطلبا عزيزا بعيدا عن التجسّد فعليّا. 
 
II- ب)   ملامح سيناريو الوثائقي:
ولئن انخرط كثير من السينمائيين في سينما مباشرة (Le cinéma directe)  تعمل على نقل الحقيقة وعلى النفاذ إلى صميم الأحداث والتقاط مواردها مباشرة أوان وقوعها دون إعداد ما قبلي  لزوايا التصوير ودرجات الإضاءة وطريقة المعالجة، ودون سيناريو جاهز يعدّ سلفا، فإنّ أجناسا وثائقيّة مثل الدّراسة الوثائقيّة (L’essai documentaire) والوثائقي بضمير الأنا (Le documentaire à la première personne) والوثائقي الشّاعري (Le documentaire poétique) تؤكّد مدى حاجة الفيلم الوثائقي إلى السيناريو. ومن ثمّة كان فلاهرتي، على سبيل المثال، يعمل، قبل البدء بالتصوير، على دراسة البيئة التي دور فيها أحداث وثائقياته ويعايش شخصياته لفترات قد تتجاوز السنة أحيانا. وما هذه المعايشة سوى رصد لوجوه من صراع الإنسان ضد الطبيعة وضبط لكيفية معالجتها بصريّا حتى ينجز فيلمه الإنجاز الأمثل. ولا يخفى أن دراسة الموضوع وسبل معالجته بصريّا من صميم عملية إعداد السيناريو الفيلم الوثائقي (la scénarisation) في نهاية المطاف.
 
وفضلا عن وظيفته باعتباره طرازا أعلى يفترض أن يتجسّد سينمائيّا لاحقا، يُنظر إلى السيناريو من جهة ثانية باعتباره وثيقة تصرف مالي. فليس يخفى أنّ السينما صناعة واستثمار بقدر ما هي فنّ وإبداع. وبقدر ما يحرص المخرج على تأمين المعالجة الفنيّة تحرص الجهات المموّلة على ضبط التقديرات لتكلفة الفيلم الماديّة والضغط عليها من ناحية وبحث أفاق ترويجه وهامش الربح فيه من ناحية ثانية. وبناء على ما يوفره السيناريو من معلومات تعرّفنا بشخصياته وأفضيته وخصائصه الفنية والتأثيريّة يمكن أن تحدّد الجهات المنتجة السوق المستهدف كأن تغلب عليه مسحة من البهجة والمغامرة فيناسب الشباب أو مسحة من الجديّة فيناسبا جمهورا ملتزما. وبالجملة يمثّل السيناريو مرحلة ضروريّة في بناء الفيلم الوثائقي وفي توجيه مسار حياته بعد إخراجه قليلا ما ينتبه المخرجون إلى أهميتها. 
 
ورغم هذه الأهمية لا يمكن الادعاء بوجود طراز دقيق لسيناريو الفيلم الوثائقي، كما هو الحال في سيناريو الفيلم التخييلي التي يتسنى فيها لكاتب السيناريو أن يضبط المشاهد بدقّة وأن يصف الديكورات ويحدّد الشخصيات ويضبط ما يدور بينها من حوار فيوفّر بناء أوّليا يتولّى المخرج ترجمه إلى لغة بصريّة. وهذا ما دفع برنار تارماج إلى أن يجعله وسطا بين الريبورتاج والفيلم التخييلي  مستنتجا “أنّ مقاربة سيناريو الفيلم الوثائقي تقاسم سيناريو فيلم التّخييل قواعده العامّة. و[لكن] لئن كان السيناريو الذي يوصف بالانفتاح  أكثر ملاءمة للوثائقي فإنّ عمل الإعداد على قدر من الضخامة بل أكثر صرامة. فبذل الوسع من الجهد ما يكفل خصوصيّة الفيلم، ومن اشتغل بالفيلم الوثائقي يدرك غواية الافتتان بتعدّد العناصر وخطورته وما ينجرّ عنها من دفع للمؤلف خارج الموضوع” .  
 
ومقابل دعوة برنار ترماج لأخذ سيناريو الوثائقي بصرامة يدعو كين دالي إلى شيء من المرونة عند صياغته فـ”ـيجب توخّي بعض الحرّية في العمل بالسّيناريو، للسماح بتلقائيّة الأحداث وعفويتها. وإلاّ فإنّ التأثير الذي يمنحه “الحدث غير المتوقّع” لابد وأن يختنق”  وبدلا من العمل على كتابة سيناريو دقيق مفصّل فإن “قائمة بالأفكار أو الأحداث الأساسيّة ضمن خطّة شاملة، بشكل عام تكون أكثر ملاءمة” .
 
II – ت)   مراحل إعداد سيناريو الوثائقي
وعلى خلاف السيناريو التّخييلي الذي ينجز دفعة واحدة يتمّ عمل السّيناريو في الفيلم الوثائقي على مراحل. فالدقة التي تضاهي دقة سيناريو الفيلم التّخييلي أو تفوقها صرامة، حسب برنار ترماج، لا تناسب جميع الأفلام الوثائقيّة التي تظلّ عملا استكشافيّا ينجز على مراحل. وضبط الرؤية الجماليّة بدقّة تحول دون الوفاء للسّيناريو أثناء التنفيذ لعدم التيقّن من محتوى الشهادات، ومن الوثائق والموارد البصريّة التي يمكن تضمينها في الفيلم.. وعليه فلا مناص من بناء هذا السيناريو على مراحل تختص أولاها بضبط الملخص الموجز والأهداف التي يرمي إليها إنجاز الفيلم “وفيها يجري وضع ملخّص للموضوع المعالج، نحدّد فيه بوضوح واختصار الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه من وراء إنتاج هذا الشريط، والجمهور الذي سيعرض عليه هذا الشريط” . تليها مرحلة المعالجة والتّحرير وتتضمّن البحث وإعداد الاستبيان وضبط الموارد البصرية مكتوبة ومرئية ومسموعة وسبل الوصول إليها وتحديد الأفضية والشخصيات والموضوعات التي سيتم تصويرها أو الحديث معها، كما تتضمّن الغوص في تفاصيل الموضوع وفحص وجهات النّظر المختلفة.. وكثيرا ما تقتضي هذه المرحلة معايشة الشخصيات الشاهدة قبل تصويرها لمعرفة ردود أفعالها وخلفياتها ولحيازة ثقتها حتى يتيسر لها الحديث بتلقائيّة أثناء التسجيل.
 
ولا تقل مرحلة إعداد الشّهادات أهميّة. ورغم أن الشّهادة تذكر أثناء التّصوير من قبل الشّخصية فلا بد فيها من  بحث ضبطا للمحاور التي ستُطرح وضمانا لعمق التّناول وتقديرا للمدّة الزّمنيّة وللمؤثر الذي سينتجه الفيلم كاستدراج المتفرّج إلى الانخراط العاطفي في الموضوع أو دفعه إلى التّأمل العقلي. ولا يتمّ ذلك إلاّ بضبط قائمة في الأسئلة الموجّهة للحوار أو الشّهادات، سواء ظهر السؤال أو تمّ لاستغناء عنه في المونتاج والاكتفاء بوظيفته باعتباره محفّزا. ويتمّ خلال مختلف المراحل الاستعانة بالصّور، أو بكاميرا محمولة حتى تختبر المؤثّرات المراد تحقيقها وزوايا التّصوير المراد اعتمادها فتكون هذه المحامل أقرب إلى مفكرة بصريّة يعتمدها المخرج تضاف إليها التّوجيهات الضروريّة .  حتى إذا ما أدرك المخرج مرحلة التّسجيل كان التّصوير بشكل ما إعادة لبروفة سابقة، شرط تحاشي التّصنّع وخداع المتفرّج. ويكون المعوّل في هذه المرحلة على جذاذات تتضمّن عنوان الفيلم وتاريخ التّسجيل وكل ما يحتاجه المونتاج من معلومات عن مرحلة التّصوير. 
 
عنوان الفيلم
التاريخ                                                      رقم شريط التسجيل
الصورة الصوت المدّة وصف رقم التسجيل (prise) الّلقطة
… … … … … …
… … … … … …
وتمثّل مرحلة المونتاج المرحلة النّهائيّة من السيناريو ويطلب منها أن تمنح الفيلم صيغته النّهائيّة. لذلك كان فلاهرتي يردّد في مقولة الشهيرة أن الفيلم الوثائقي يصنع على طاولة المونتاج. فتضمّنه ما يقتضي من موسيقى ومواد أرشيفيّة وموارد بصريّة كالخرائط والمقالات الواردة بالجرائد والصور والفيديوهات والتّسجيلات الصوتيّة وتصحّح ألوانه وإضاءته. ويطلب إلى هذه المرحلة أن تتحاشى السّير الخطّي للفيلم خلقا للتّفاعل بين الشّهادات، تضادّا أو تكاملا. فتسرد الواقعة نفسها بأصوات مختلفة أو أسلوب مختلف. وبيّن أن هذه المراحل قابلة للمراجعة باستمرار. ذلك أنّ السّيناريو هو معركة بين ما يريد المخرج وما يُتاح له تقنيا وماديا وذهنيّا.
 
إنّ تحديد هذه المراحل والاعتقاد بوجود قواعد عامة لتناول الفيلم الوثائقي مدارها على وحدة الموضوع ووحدة التّناول  الذين يفقد الفيلم بغيابهما تناغمه ويصاب بوهن يشتّت ذهن المتفرّج ويصرفه عنه، لا تعني أبدا القول بوجود طراز أعلى  وبنية عميقة يتمّ حبك الوثائقي في ضوئهما. فعديدة هي العناصر التي تُسهم في إثراء هذا الجنس السّينمائي وتفريعه إلى أنماط جزئيّة منها التّجارب الذّائعة في الإنشاء التي تسم أفلام السّيرة مثلا وتجعلها عن الوثائقيات الشّاعرية أو الوثائقيات التّخييلية أو الأفلام الوثائقيّة العلميّة. ومنها المدّة التي يستغرقها العرض فينزع الفيلم القصير إلى الاختزال والتّكثيف فيما يميل الفيلم الطويل إلى تقليب وجهات النّظر والإسهاب في عرض التّفاصيل. 
ولطريقة المقاربة والتّأثير المطلوب تأثير جليّ في تشكّل الفيلم الوثائقي فيعمل فيلم الإثارة على دمج المتفرّج في العمل وجدانيّا تشويقا وترهيبا، أما الفيلم الحجاجي فيعلن أطروحة يتولّى الدّفاع عنها والإقناع بوجاهتها على مدار الأثر ليخلص إلى نتيجة يرتئيها، وإن نضّد مادته ضمن بناء درامي شبيه بالتّخييلي فجعل دون الوصول إلى غايته وعوائق تصل إلى الذّروة ثم تفضي إلى الحلّ. وقد ينحو الوثائقي منحى تفسيريّا قوامه الانتقال من الجزء إلى الكل أو من الكل إلى الجزء. 
 
***
بيّن إذن أنّ الفيلم الوثائقي يحتاج إلى السّيناريو بالقدر نفسه الذي يحتاجه الفيلم التّخييلي. ولكن بيّن أيضا أنّ سبيل الأوّل غير سبيل الثّاني فالفيلم الوثائقي وإن كان تجسيدا لرؤية صاحبه الخاصّة للحقيقة فإنه يظلّ خاضعا لوطأة المرجع الخارجي فيما يبقى التّخييل قائما على الإرجاع الذّاتي مهما بدت صلته بهذا المرجع الخارجيّ عميقة. ومن ثمّة كان السّبيل إلى الابتكار في التّخييلي أيسر وأقرب أما التميّز بلغة سينمائيّة راقية في الوثائقي فمطلب صعب المنال ولكنّ أكثر المخرجين لا يعلمون. ومع ذلك تظل وثائقيات كثيرة عصيّة على الإعداد المسبّق ويظل سينمائيون، وإن كانوا من المبدعين يخالفون المبدأ القائل بأن معركة الفيلم تربح أثناء الإعداد فيرفضون الصدور في أعمالهم عن سيناريوهات جاهزة. ورغم هذه الاستثناءات فإن الحاجةَ إلى مفكّرة تضبط عمل المخرج وتدخّلَ المنتج تبرزُ ضرورة إعداد سيناريو الفيلم الوثائقي إعدادا لا تشترط فيه الصّرامة التي يقتضيها فيلم التّخييل بقدر ما تحبّذ منه المرونة التي تأخذ بعين الاعتبار ضرورة تفاعل العناصر الوسائطية والفنّية والجماليّة لتمنحه ثراءه وتعدده الدّلاليين.
***
الهوامش:
 

  Jean-Luc Godard par  Jean-Luc Godard, Paris, E
d. de l’Etoile, Les cahiers du cinéma, 1985, p.144
   
تعمل الدراسة الوثائقيّة على التقاط وجوه من الحقيقة متجاهلة وجود الكاميرا بغاية تحقيق عرض يوهم بواقعيّة الأحداث وتلقائيتها فيما يمثّل والوثائقي بضمير الأنا بحثا شخصيّا يعرض من خلاله  المخرج تجربته ورؤيته الشّخصيّتين، فيتعلّق على الأحداث ولا يكف عن تنبيه المتفرّج جوانب من موضوعه أمّا والوثائقي الشّاعري فيعمل على تكثيف اللّغة السّينمائيّة وتعميق وظيفتها الجماليّة مانحا المخرج هامشا واسعا من الحريّة في إعداد سيناريو فيلمه وفي التّخطيط لمختلف مراحله بغاية إظهار الموضوع المطروق على وجه مخالف للمعهود وتصويره من وجهات نظر جديدة ، بصريّة كانت أو ذهنيّة معنويّة. لمزيد من التوسّع أنظر أحمد القاسمي: الوثائقي في المدرسة السّوفياتية، ضمن الفيلم الوثائقي: قضايا وإشكالات ص 75.أما “الفيلم النمطي” فمفهوم مرتبط بالسينما الكلاسيكيّة يفيد احترام النصّ الفيلمي للنموذج أعلى كشترك في الإنشاء من جهة كتابة السيناريو وأسس الإخراج خلافا للفيلم النّمط  اللاّنمطي(Le film a-générique ) -وتفصيله إلى الفيلم التّجريبي والفيلم الشّاعري وسينما المؤلف- الذي يعمل باستمرار على مقاومة القوالب الجاهزة في الإنشاء وخرق أفق انتظار المتفرّج.

   لعرض السّيناريو سمات شكليّة آثرنا إيرادها الإلماع إليها دون التفصيل الذي لا يناسب مقامنا هذا. منه تفريع النصّ إلى جملة من المشاهد المنفصلة يتمّ التمهيد بعنوان يشتمل على المعطيات التالية رقم المشهد والفضاء(غرفة علي، في الحمام….) وزمنه ووصف الشّخصيات أو الفضاء أو الحركات (على ألاّ يتمّ إثقال العمل به وأن يكتب السّيناريو بلغة بسيطة بعيدة عن التعقيد البلاغي.
  لا يمكن للشّاب العاطل عن العمل التّراجع عن قراره بترك القرية أو لا يتسنّى للزوج الذي يعاني من خلافات جوهريّة مع زوجته أن يتجنّب قرار الطّلاق..

   سيد فيلد: السّيناريو، ترجمة سامي محمد، دار المأمون للترجمة والنشر، 1989 . ص 35 ويقول أيضا ” قد لا تقتنعون بفكرة البداية والوسط والنهاية. وقد يقول أحدكم إن الفنّ كالحياة ليس أكثر من لحظات مستقلّة معلقة في وسط كبير لا بداية له ولا نهاية. أنا لا أتفق مع هذا الرأي. أليست الولادة والحياة والموت بداية ووسطا ونهاية؟” م. ن: ص ص 26/ 27.  

  م. ن ص35  . يقول مفصلا هذه الفكرة: “- “المواطن كين” يوضّح هذا على نحو متقن، يبدأ الفيلم بشارلز فوستر كين (أورسن ويز) وهو يحتضر في قصره الكبير زانادو. إنه يحمل في يده مثقلة أوراق مصنوعة على شكل دمية. تسقط من يده وتتدحرج على الأرض. تتباطأ الكاميرا المثقلة _ على الدمية لترينا صبيّا ومزلجة. ونسمع كلمات كين المحتضر: “روزباد… روزباد…”.. (من) هو روزباد؟ وماذا (يعمل؟) الإجابة هيّ موضوع الفيلم. قد يسمى الفيلم “قصّة بوليسيّة عاطفيّة” حيث يكشف محرّر صحفي حياة شارلز فوستر كين يُحاول أن يجد معنى “روزباد” ومغزاه.. آخر لقطة في الفيلم تظهر مزجة تحترق في محرقة كبيرة، وحين تلتهمها النيران نرى كلمة “روزباد” تبدو للعيان، إنها ترمز إلى طفولة ضائعة تخلّى عنها شارلز فوستر كين ليصبح ما هو عليه” ”  م. ن : ص 81.

  يمكننا أن نعرّف الشّخصية في الفيلم التّخييلي بذلك الكائن البشري (أو الحيواني أو الخرافي) الذي يتولّى القيام بالأحداث ويخوض الصراع الدرامي فيفرّع إلى دور وشخصيّة وممثّل. أمّا في الفيلم الوثائقي فترد الشّخصيّة منجّمة تُعرض من خلال جمع الشهادات والوثائق والمواد الأرشيفيّة وترتيبها وتعهد للمتفرّج عمليّة الربط بينها كما يفعل لاعب المربكة. وكثيرا يضحي هذا العنصر الفاعل المسهم في الدفع بالحدث مدينة أو حضارة أو مادّة (صناعة الرّجام مثلا منذ اقتلاع الصخور من المقاطع إلى صقله وتحوّله إلى تحفة فنية) أو فكرة (كأن يعرض الفيلم تاريخ فلسفة مّا) أو سلوكا (الإدمان، القمار..) فينوب عن الشّخصية ويحلّ محلّها.

  “تحتاج الشّخصيّة حتى تعيش في المحيط الذي تعبّر فيه ماضيا. إنه ذلك الماضي الذي سيحدد حاضرها، كما بالنسبة إلى كل الشّخصيات أنشأها التّخييل أم لا والذي نحتاجه إلى التعرّف إليه قبل أن نشكّلها” PARENT-ALTIER, D., Approche du scénario, Paris, Nathan Université, collection cinéma-image 128, 1998.  p 63.
  تتجسّد هذه السّمات من خلال خطاب بصري: فشاب مّا لا يكون فاتنا إلا بتطلّع حسناء إلى عضلاته أثناء إصلاح لعجلة عربة قد حادت عن موضعها وإلى العرق المنساب على جبينه. “الفعل هو الشخصيّة” يقدّر  سيد فيلد: ص 51.”والمرء بما يفعل وليس بما يقول”. وعليه يدعو(PARENT-ALTIER, D.) م.ن. ص-ص 75-76 كاتب السيناريو أن يتذكّر في كلّ آن أن السينما وسيط بصريّ وأنّ كلّ العناصر الأساسيّة لفهم الأثر يجب أن تعرض، ما أمكن بصريّا” 

  لمزيد من التّوسع أنظر: Franck Haro : Écrire un scénario pour le cinéma, Groupe Eyrolles, 2009, P 52..
  PARENT-ALTIER, D., Approche du scénario, p71.
  أنظر: سيد فيلد، السيناريو، ص 34 يقول أيضا “متى حدّدت حاجة الشّخصية فباستطاعتك أن تخلق العقبات أمام هذه الحاجة. الدراما صراع. عليك أن تكون واضحا بشأن حاجة الشّخصية لخلق العقبات أمام حاجتها. هذا يعطي لقصّتك تأزما دراميّا يفتقره سيناريو وضعه كاتب تنقصه الخبرة” م. ن.، ص 41
  م. ن.، ص 87: “بناء حكاية هو اختيار بطل وأن تعهد له بهدف وأن تضع في طريقه عقبات يتعيّن عليه أن يتخطّاها”

  انظر م. ن.، ص ص 65-66

  يدعو سيد فيلد إلى أن يكون الهدف مجسدا فـــ”ــأن تكون سعيدا ليس هدفا سينمائيّا بما فيه الكفاية، لأنه [هدف] عام ومجّرد ” م. ن.، ص 68 ومن ثمّة يدعو إلى عرض هذا الهدف من خلال جملة من الأحداث الكفيلة بضمان سعادة المرء ” فلابد إذن من ترجمة مجسّدة لهذا الهدف: [شأن] الزواج من امرأة محبوبة أو الحصول على المال أو عمل” م. ن.، ص 68.

  يقتضي مبحثنا تعريفا للسيناريو، وفي هذا السّياق يتساءل سيد فيلد: “ما السيناريو؟ أهو دليل الفيلم أم خطوطه العريضة؟ أهو الخطّة أم مخطط العمل؟ أهو سلسلة من المشاهد على شكل حوار أو وصف؟ أهو صور متسلسلة على الورق؟ أهو مجموعة من الأفكار؟ أم هو حلم في أفق كامل؟ ما السيناريو؟” ولئن أجاب باختزال “السيناريو قصّة تروى بالصّور ” م. ن.، ص 23. فإنّ البحث ينتهي بنا إلى أنّ تعريف السيناريو يشمل الإجابة عن كل هذه الأسئلة. فبحسب محور المواءمة وجهة التناول يمثّل السيناريو مجموعة من الأفكار تكمن طي الحكاية والصور المتسلسلة فيكون دليلا للفيلم وخطة تمكن المخرج والمنتج من الضغط على التكاليف وربح الوقت…. Le scénario in : Christine de Montvalon : Les mots du cinéma, 1ere éd, Paris 1987, P 403.. على أنّ التأريخ لنشأة هذا المصطلح وما اعتوره من المفاهيم يعود بنا قرون خلت إذ “تنحدر الكلمة من الإيطاليّة (scenario) التي تعني الديكور، ومصدرها لاتينيّ [scenarium] يفيد ما معناه “مشهد مسرحيّ”. وعبر التوسّع عيّن السيناريو تنظيمَ المشهد والديكورات – وهو ما نصطلح عليه اليوم بالسينوغرافيا- ثم حبكة ما يدور على الرّكح والقصة التي يجسّدها الممثلون. وبعد أن استخدمت من قبل الروائيين أضحت تفيد عند السّينمائيين، اليوم، إعداد القصص لتُخرج سّينمائيّا.

   محمد علي الفرجاني:  فن الشريط التسجيلي، الدار العربيّة للكتاب، ط 1، تونس ليبيا دت، ص 26،  يستعمل مصطلح الشريط التسجيلي.

  سيّد سعيد: الفيلم الوثائقي، حدود الموضوعيّة والذّاتيّة بين الوثيقة والحقيقة، ضمن الفيلم الوثائقي: قضايا وإشكالات: تأليف مشترك، نشر الدار العربيّة للكتاب لبنان ومركز الجزيرة للدراسات، ط1، 2010 ص 44.

  غادة جبارة: مدارس الفيلم واتجاهاته، ضمن الفيلم الوثائقي: قضايا وإشكالات ص 56-57.

   أحمد القاسمي: الوثائقي في المدرسة السّوفياتية، ضمن الفيلم الوثائقي: قضايا وإشكالات ص 75.

  لا يمكن التّحكم في تقلّبات الحروب والثورات ولا يمكن توقّع الكوارث الطبيعيّة كالفيضانات والانهيارات الثلجيّة والحرائق.. ومن ثمة لا مناص من التسليم بأن ضربا من سينما التوثيق لا يحتمل إعداد سيناريوهات مسبّقة ولا سبيل للمبدع من التعويل على خبراته أوان التصوير وعلى حسن الرّبط بين المواد المصوّرة أثناء ال��ونتاج.
  فــ”ـفيلم الريبورتاج، الذي ينفرد به المجال الصّحفي، يكون واضحا، [إذ] ينزع إلى إبراز الوقائع وإلى التعليق عليها وتحكم الصحفيّ المكلف بإخراجه أولويتان: الانخراط في الموضوع والتحقّق من المعلومات وإجراء الاتصالات الضروريّة لنشر عمله أوّلا وتحديد ما نسميه في لغة المهنة زاوية التناول ثانيا” أما “الفيلم الوثائقي فيمتاز بسمة الضمنيّة، فهو يوحي بالحقيقة ويلمع إلى المتفرّج بإدراكها. وهذا الفارق الأساسيّ يستتبع بناءً وإعدادا مكتوبا يسعى إليه المؤلّف، كاتب السيناريو والمتعهّد بالإخراج… فالقيمة الجوهريّة لمشروع الفيلم، شأن التخييل، تبقى رهينة حبك الحكاية ضمن قصّ متين البنية الدراميّة. وكما يقول المخرج ألبيرتو كافالكانتي: لا ينبغي “إنجاز فيلم حول مركز البريد ولكن حول رسالة وينبغي أن تجعلنا هذه الرسالة نتعرّف إلى مركز البريد ونفهمه” فموضوع مركز البريد مجموع مجرّد فيما تمثل الرسالة عنصرا شخصيّا مثقلا بالمشاعر، يؤنسن القول” Bernard Tremege : Le Livre du Scénario, Comprendre l’art du scénario et apprendre à l’écrire, P 504

  م ن ص 504.
   كين دالي (Keen Daly): موسوعة فن الإنتاج السينمائي، ترجمة روبير عبد المسيح جودة، الدار العربيّة للموسوعات، ط 1، بيروت 2002، ص 24.
   م. ن ص 24.
   محمد علي الفرجاني:  فن الشريط التسجيلي، ص 287.
    تكون هذه التوجيهات نحو: الشخصية (أ) تقبل أن نتحدث إليها في الموضوع (ص) أو يتم إدراج صور لموقع الجريمة أو لآلة شبيهة بأداة الجريمة أثناء خوضها في الموضوع أو لا تتضمن اللقطة الوجه ولا يجب أن تتجاوز الصدر لاشتراط الشخصية عدم إظهار وجهها..