اللــــون في الســـــينما

لوحة "الحقول الصفراء" لفان جوخ

قيس الزبيدي

·        أمامنا تاريخيا تياران أحدهما يرجع إلى أرسطو ومعناه ان الضوء الأبيض متجانس وينشأ من تحويره للتجانس، والثاني يرجع إلى غريمالدي ومعناه أن الضوء غير متجانس وأنه يتحلل إلى ألوان متجانسة. ومَثَّل غوته التيار الأول وتبنته فلسفة الطبيعة الألمانية والفلسفة الظواهرية، ومثل نيوتن التيار الثاني الذي تبنته الفيزياء الحديثة والمعاصرة .إن الاختلاف بين هذه التيارات تعترف بآثار المعنى الرئيسية التي تخصّ تشكيلية الضوء. ويبدو أن أتباع غوته هم أكثر تأثرا باللون والمادة وتصوروا الضوء كمبدأ للتشتت والانتشار، أما أتباع نيوتن فركزوا على البريق والإضاءة واعتبروا الضوء أساسا للتحرُّك الإشعاعي. وتبدو الخلافات العميقة بين هذه التيارات عموما وكأنها تتفق حول آثار المعنى الرئيسية التي تخصّ تشكيلية الضوء.

·       يعتبر جون هيوستن مخرجاً عظيماً، إلا أن الرسام تولوز لوتريك أعظم منه !

هل يعني هذا أن على فناني السينما محاكاة اللون في فن الرسم؟

يشكل اللون في اللوحة التشكيلية أساس التعبير لأنها تعتمد على تمييز الأشياء من خلال اللون، وترميز وضع المرسوم، بمعزل عن الحقبة، التي أظهرت في تيارات الرسم الحديث تجارب وأساليب عديدة، تباين فيها استعمال اللون. بحيث كان اللون وما يزال في  مصلحة ما يُلَوَّن في بنية لوحة الرسام. وتبرز في اللوحة عناصر أربعة تشكل المَحاور التشكيلية الجمالية، هي أولا الأشكال forms، ثم الألوان colors، والتكوين composition   وأخيراً الملمس texture الذي يستثير إدراكاً حسياً لمسياً. وأن الطلاء اللوني يكسب اللوحة ثنائية الأبعاد صفة ملموسة تُشكِّل بعدها الثالث.

يشترك التكوين السينمائي من الناحية الشكلية مع تكوين اللوحة المرسومة في الاعتماد على:

•الكُتَل والأشكال والتوازُن والخطوط والإيقاع والألوان والنسيج والضوء والظلمة.

•التغلب على الطبيعة المسطحة للصورة ذات البُعدَين، ويعمل على خلْق الإيهام بوجود عمق أو بُعد ثالث للإطار أو الكادر، وذلك من خلال حسن تنظيم مُكمِّلات المقدمة والوسط والخلفية.

وتعتمد خاصية محور تكوين اللوحة التشكيلية الثابتة في فن الرسم على السكون. بينما يعتمد تكوين الصورة  في فن السينما على الحركة .

يعدد جيل دولوز أشكال ثلاثة من ألوان الصورة هي:

  • اللون السطحي للسطوح الواسعة ذات اللون الموحد في الرسم.

·        اللون الجوّي الذي يُخصِّب كافة الألوان.

·        اللون – الحركة الذي ينتقل من درجة لونية إلى أخرى.

ويجد أن اللون – الحركة الوحيد الذي ينتمي ربما إلى السينما، فعندما يتابع اللون- الحركة من مشهد إلى آخر، فإنه يضيف غنى جديداً على التعبير السينمائي ويزيد العمل عمقاً. اما اللونان الآخران فينتميان كليا إلى الرسم مع أن الصورة- لون في السينما تتقاسم خاصيتها مع الرسم لكنها تعطيه إمكانية ووظيفة مختلفتين. ويذكر دولوز عبارة لغودار: “هذا ليس دما إنه لون أحمر” ثمة بالتأكيد رمزية للألوان لكنها لا تدلّ على تطابق بين لون وبين تأثيره، كأن يدل الأخضر على الأمل، بل إنه التأثير ذاته.

يشكل اللون في السينما عموما واحدا من عناصر بنية مركبة للغاية، تتشكل وتتركب من محاور/عناصر عديدة: تكوين الصور المنفردة وصور المشاهد والتعامل مع الضوء واللون والحوار وكتابة النصوص المنطوقة والمكتوبة والتمثيل أمام الكاميرا واستخدام الصوت والموسيقى، وأخيرا وليس آخرا، مونتاج الصوت والصور.

التكوين، أو بتعبير آخر، الجغرافيا الداخلية كأداة أساسية من الأدوات التشكيلية الجمالية. وللتكوين في واقع الأمر دور جوهري في ترتيب الرؤية ترتيباً تسلسلياً، وفي توجيه حركة عين القارئ، ليس إلى رؤية الصورة، إنما أيضا إلى قراءتها. ويلعب البناء المعماري في الصورة – سواء كان لوحة تشكيلية أو لقطة سينمائية – الدور الرئيسي. فهو يساير، أو ينبذ عدداً من القواعد الاصطلاحية، التي ظهرت، وترسخت على مدى السنين، وتتبدل تبعاً للعصور والأساليب.

تتكون الألوان:

1. من ألوان أساسية لا يمكن الحصول عليها عن طريق مزج الألوان الأخرى وهي الأحمر والأصفر والأزرق.

2. من ألوان ثانوية، يمكن الحصول عليها عن طريق مزج لونين أساسيين من البرتقالي والبنفسجي والأخضر.

3. من ألوان مُشتَقة تقع بين الألوان الأساسية والثانوية وهي ستة، تنشأ من خلط لون أساسي بلون ثانوي وينتج عنها: اللون الأصفر يقابله ويكمله اللون البنفسجي واللون الأزرق يقابله ويكمله اللون البرتقالي واللون الأحمر يقابله ويكمله اللون الأخضر.

تواجه عملية استخدام الألوان في الفيلم أولا بمبدأ معرفة الألوان في الطبيعة، قبل استخدامها من الناحيتين الفنية والدرامية في الفيلم. كما تواجه معرفة الألوان ودلالاتها المختلفة بمعرفة الخواص التي تعرف اللون طبقا لدائرة الألوان الدافئة أو الباردة.

فالمصمّمون والفنانون يمزجون الألوان الدافئة والباردة بقدر كثير أو قليل لإثارة أحاسيس معينة في الدماغ، كما أنهم يستعملون أساليب مختلفة لجعل الألوان مثلا كوسائل أسلوبية لتعبر بأشكال مختلفة عن الانسجام والتضاد.

تستخدم الألوان الدافئة في تصاميم، تعكس الشغف والسعادة والحماس والطاقة. وتتضمن:

  • الأحمر والبرتقالي والأصفر ومتدرجات منها. وهي ألوان النار، أوراق الخريف، الشروق والغروب وبشكل عام توحي بالطاقة.
  • الأحمر والأصفر كلاهما ألوان أولية والبرتقالي يقع بينهما، مما يعني أن الألوان الدافئة دفئها أصيل ولا ينتج عن الجمع بين لون دافئ ولون بارد.

تستخدم الألوان الباردة في تصاميم حينما يراد إضفاء شعور بالهدوء أو الاحتراف. وتتضمّن الأخضر والأزرق والبنفسجي وهي دائمًا أقل سطوعًا من الألوان الدافئة، كألوان الطبيعة والماء والليل لذلك هي ألوان مهدئة للأعصاب وتدعو للاسترخاء وبطريقة ما تبدو محتشمة. فالأزرق هو اللون الأولي الوحيد من بين الألوان الباردة، مما يعني أن بقيتها ينتج عن الجمع بين الأزرق وأحد الألوان الدافئة (مع الأصفر ينتج الأخضر ومع الأحمر ينتج البنفسجي). ويحظى اللون الأخضر ببعض سمات الأصفر والبنفسجي وببعض من الأحمر.

يرتبط إعداد الضوء ارتباطا وثيقا بتصميم الألوان في الفيلم، والاستحواذ على الألوان يُعَدُّ أول عملية إدراك ملموسة من قبل الناس للأطوال المختلفة داخل نطاق ترددات الضوء المرئي قبل أن يتمكنوا من تمييز بعضها عن بعض.

وما يلفت النظر أولا في طريقة صنع الفيلم كون الضوء ليس فقط أساساَ لتقنية الفيلم، بل إنه يجسد أيضا مظهره الجمالي بشكل حاسم. فالصورة تبقى في النهاية حيادية في كل مكان لا تسلط عليه إضاءة أو تكون الإضاءة ضعيفة. فالضوء مكوِّن مهم في الصورة. كل زخرفة المكان تأتي من هيمنة الضوء وبدون الضوء لا يمكن أن نحصل على بلاستيكية الصورة. ويلعب الضوء أيضا في تمثيل الناس والمكان وظيفة حاسمة، لأن الإنارة تنتج أجواء مختلفة وهي خاصية للحالة وللمكان أو الأشخاص، لأن الإنارة تقدم أجواء وتخلق إحساسا ومزاجا كما تتيح لنا ما نشاهده.

يأخذ تحليل تكوين الضوء بنظر الاعتبار مكونات خمسة:

كمية الضوء و مصدر الضوء و لون الضوء و اتجاه الضوء، و تباين الضوء.

ويجب بالتالي لتقييم دور الإضاءة، معرفة مصدر الضوء، وهنا يتم التمييز بين المصادر الطبيعية كضوء النهار والإضاءة الصناعية المخفية أي البروجكترات، فحينما يتم خلق مؤثرات ضوئية كأسلوب في واقعية الفيلم نجد مثلا  في فيلم “باري ليندون وموليير” كيف تمت إضاءة مشاهد كاملة فيه فقط بضوء الشموع.

ويوجد بالنسبة للون الضوء في الأفلام مجالان:

  • التحليل الشكلي للون، فضوء اللون وحرارة اللون لهما أهمية كبيرة.
  •  تغيير لون الضوء عبر فلترة “ترشيح” اللون من خلال العدسة أو تغييره في مرحلة الإنتاج الأخيرة عبر الحاسوب.

وفي يومنا أصبحت أفلام الأسود والأبيض حالة استثنائية ولا تستخدم في الأساس إلا وفقاً لاعتبارات فنية. وغالبا ما يستعمل الأسود والأبيض بالتعارض مع الفيلم المُلَوَّن، كأن يعبر بصريا عن حدث أو مستوى واقع آخر على شكل فعل في الماضي أو حلم. ويمكن أن يحصل العكس كأن يُلوَّن فيلم الأسود والأبيض جزئيا للتعبير عن لمسات معينة.

ونتعرف في طريقة التعامل مع الضوء كمعنى تعبيري إذا ما كان الفيلم في تفاصيله قد صنع بعناية أسلوبية، حتى يتم التعبير فيه عن جو مميز وتقديم الشخصيات.

من ناحية أخرى، فإن تأثير عناصر التكوين في إطار سينمائي يعتمد على عدّة عوامل نفسية وتجاربية لا تختلف كثيرًا من مُشاهد إلى آخر، فالمناطق أو الأجسام الـمُضاءة تجذب العين قبل المناطق المظلمة، وشخص يقف منفردًا في مواجهة كتلة من البشر سوف يحظى باهتمام أكبر، لدرجة تسرق فيها الشخصية المتحركة الاهتمام اللازم من الشخصيات الساكنة. وبسبب الطبيعة الحركية Kinetic nature للسينما فإنه من النادر أن يكون تكوين الإطار السينمائي ساكنًا، ومن ثم فإن التأثيرات السيكولوجية لذلك التكوين تظل في حالة من التدفُّق الدائم.

واجهت الألوان في السينما دائما مشاكل ذات طبيعة تقنية إلى إن بدأ اللون الطبيعي (و) اللون التعبيري يشكلّان بتقدم تقنية الفيلم الملوّن خياراً حراً في التعبير بنفس القدر، فحتى في حالة إزاحة الألوان الطبيعية في الصورة أو حتى تغريب الألوان تماما، فإن عملية فهم الألوان وتأويلها في الفيلم تصبح ممكنة. مع مراعاة أن عملية تأويل الألوان والإضاءة، وكذا الأشكال، هي بدورها عملية أنثربولوجية – علم الإنسان – ، لأن إدراكنا الحسّي للألوان والإضاءة، شأنه شأن أي إدراك حسي آخر، هو ممارسة، تستند إلى مرجعية ثقافية (…) فالمعروف حقيقة، أن اللون والإضاءة، يؤثران على المشاهد، تأثيراً ذا طبيعة نفسية – فيزيولوجية. ولعل سبب ذلك، يعود إلى أن المرء «يدركهما بصرياً ويعيشهما نفسياً». ويضعانه في حالة، “تشابه” الحالة التي عاشها، لحظة تجاربه الحياتية الأولى، والتأسيسية، مع الألوان ومع أنواع الضوء: كالضوء المنحرف، وقت الشروق، وعند الغروب، أو ضوء أيام الشتاء، والأحاسيس التي ارتبطت به. أو كالضوء الشاقولي، والشمس في كبد السماء، وانطباعات الصيف. نور الشمس أو ضوء النار، المصباح. قوة وعنف الأحمر، لون الدم والنار؛ زرقة السماء الخفيفة الناعمة، أو خضرة وريقات الشجر المريحة. كلها مرجعيات، تستدعيها الذاكرة، بقليل من الجهد، وتعيد إحياءها الخيارات اللونية، في الصورة التي نراها، مع تفاصيلها الاجتماعية والثقافية، بطبيعة الحال. ونعلم أن الأسود، ليس لون الحداد، بالنسبة لكل الناس، كما أن الأبيض، لا يمثل النقاء للجميع.

مع تطور تقنيات اللون في السينما أصبح اللون واحد من أهم الابتكارات الجمالية في الأفلام وأخذ اللون ينتشر، باعتباره عنصرا هاما في تنظيم الصورة وفي وظيفته الدرامية وفي الوقت نفسه عنصرا أساسيا في استقبال الفيلم. ولم يكن من قبيل المصادفة أن بدأ مخرجون مثل برغمان ودراير وفيلليني ورينيه ومن بينهم أنطونيوني يشعرون بوقت واحد تقريباً وبنفس الدرجة إلى حاجة أفلامهم إلى اللون، بعد أن ظلوا لسنوات طويلة مخلصين للأسود والأبيض. ويقول برغمان عن اللون في فيلمه “صرخات وهمسات” عام 1990 المُصَوَّر وفق مخطط لوني موجه بصرامة للون الأحمر والأبيض والأسود “كل أفلامي يمكن تصورها بالأسود والأبيض ما عدا فيلم “صرخات وهمسات” الذي يعبر عن صور أحلام، يهيمن فيها اللون الأحمر. فأنا منذ مرحلة طفولتي الروحية أتصور بشرة الجلد الرطبة في تنويعات حمراء”.

بدأت الأفلام تنتج بالألوان في عام 1960، مع أنها كانت تُلوًّن بالفعل منذ عام 1900. وكانت أحد التقنيات المُكْلِفة  تلوين اللقطات أو الـمَشاهد الـمُراد تلوينها بطريقة يدوية، إطارًا بعد إطار ويتم اختيار لونٍ ما ليعبر عن طبيعة حدث معين في الفيلم. وكان يستعمل اللون الأحمر مثلا أينما كان هناك مشهد حريق، واللون الأزرق أينما كان هناك مشهد ليلي. أو يستعمل اللون البني الداكن للمشاهد الداخلية. كذلك بدأت عملية تُعرف بالتلوينTinting  تجري على قاعدة تلوين الفيلم الموجب الذي تُطبَع عليه النسخة. وكانت تجري بالتزامُن مع عملية الصباغة Toning التي تهدف إلى صباغة حُبَيبات الفضة الدقيقة في الطبقة الحساسة للفيلم، وهو ما يعني غلبة اللون المختار وسيطرته على جميع مناطق الصورة وكافة مُكوِّناتها. لهذا كثيرًا ما شاهدنا أفلامًا تم تطبيق العمليتَين عليها، حتى تكون كافةُ مناطق الصورة ومُكوِّناتها قد اكتسبت اللون أو الألوان المطلوبة.

“جذبتني الألوان في السينما – يقول آيزنشتاين – منذ أن شاهدت أحد أول الأفلام الملونة – من إنتاج عام  1903 – “مملكة الجنيات” لجورج ميليه، وقد لوّن يدوياً، ويحكي عن “مملكة تحت الماء” يختبئ فيها مقاتلون بين فُكوك حيتان خُضر، وهم يحملون دروعاً ذهبية لامعة. ومن زبد البحر تخرج حيتان زرق ووردية اللون. وكانت تجربته الأولى في مجال اللون حينما قام: ” بتلوين علم المدرعة في فيلم “بوتيمكين” الأحمر باليد، ولم يكن تأثيره راجعا إلى اللون نفسه بل إلى معناه”.

في عام 1949، سيعود فنان التحريك الكَندي ذو الأصل الإسكتلندي نورمان مكلارن في فيلم “سيمفونية الألوان” برسْم وتحريك مجموعة من الخطوط والأشكال الهندسية، مستخدِمًا أسلوب الرسم باليَد على شريط السِليولويْد مباشرة دون استخدام كاميرا على الإطلاق. من أجل خلْق مُعادِل بصري لشريط الصوت الذي كان يتضمَّن كونشيرتو للبيانو. ولكن بأسلوب آخر، كما في فيلم الباليه الميكانيكي Le ballet mécanique الذي أخرجه دودلي مورفي Dudley Murphy وفِرنان ليجيه Fernand Léger عام 1942.

تم استعمال اللون في السينما بداية  كزخرفة أضافية لا أكثر على هذا كتب إيزنشتين في مقالته “ليس بالألوان الزاهية انما باللون:” علينا ألا ندع الشاشة تتحول إلى قطعة من القماش المنقوش بألوان زاهية. نريد أن تعرض لنا الشاشة الجديدة الألوان في وحدتها العضوية مع الصورة والموضوع، مع المضمون والدراما ومع الحدث والموسيقى. فاللون إضافة وسيلة جديدة سينمائية قادرة على التأثير، وسيلة جديدة في لغة التعبير الفيلمي، لأن كل عناصر التعبير تشترك في صنع الفيلم، كونها عناصر للفعل الدرامي وعلى كل عنصر منها أن يوضع في مكانه الصحيح. (…) نحن نعتبر اللون من عناصر الدراما في الفيلم ووضع اللون يبدو مشابها لوضع الموسيقى. وكون اللون موجودا في كلية الفيلم، بعكس الموسيقى، التي قد لا تستعمل إلا عند الحاجة، فذلك  لا يغير من الأمر شيئا.

وسبق أن كتب بيلا بالاج: كان التفكير في صنع أفلام ملونة بالكامل،  يثير قلقي لأن صورا ملونة أمينة لألوان الطبيعة،  ليس لها فائدة في السينما.

(…) لكننا رغم مخاوفنا الجمالية وجدنا ضرورة استعمال اللون لكن ليس محاكاته بشكل أعمى كما هو في الطبيعة (…)  فطالما يتاح للسينماتوغرافيا استعمال صور ملونة طبيعية، فإنها تكون إزاء الطبيعة، في المجال الفني، غير مخلصة حتى للطبيعة. وفي عام  1949 عاد ليكتب: للون قوة عظيمة رمزية وإيحائية استثنائية ملهمة للمشاعر.

في عام 1933 أنتج والت ديزني أول فيلم قصير بالألوان “الخنازير الصغيرة الثلاث” وأخرجه برت جيلليت  وتم فيه استعمال أسلوب تلوين لا سابقة له: كانت الحيوانات تطير وترقص وتجري وتغير أشكالها، لتعبر في كل حالة عن لون بارد أو دافئ ، بألوان لا تنطبق على الواقع، بل تتوافق مع إيقاع الصوت المستمر. فقد اعتقد ديزني أن الألوان تشكل :” عنصراً مكملاً للصورة، ولاستخدامها معنى أكبر بكثير من مجرد نقل آلي للواقع”.

وفي الفيلم على الجليد” – أنتجه والت ديزني وأخرجه بن شاربستيين عام 1935 – يضيع الكلب بلوتو في جبال الألب ويتجمد تدريجياً فيتحول لونه إلى الأزرق. وعندما يعثر عليه كلب سان برنارد، يصب الكحول في فمه، يتلون بلوتو بلون دافئ بعد أن يذيب المشروب تجمده. وفي فيلم “سنووايت والأقزام السبعة” 1937، يعبر المخرج ديفيد د.هاند عن هروبها إلى الغابة بتبدّل مفاجئ لمزيج من الألوان يتحول إلى خيال مرعب، يشبه استخدام اللون في فيلم “عيادة الدكتور كاليغاري“.

انصرف الاهتمام في عصر السينما الناطقة إلى فك شفرة ما هو رمزي وإيحائي بدقة، ليتحول استعمال اللون إلى أسطورة. فقد جرت محاولات عديدة في الفيلم الناطق للارتقاء باستخدام اللون ويعقب  كارل دراير: “ها مضى على عروض الأفلام الملونة على شاشات العالم عشرون عاماً. ولم يرسخ منها في ذاكرتنا أفلاًم تحمل قيماً جمالية عالية سوى فيلمين أو ربما ثلاثة أو أربعة أو خمسة على أكثر تقدير”.

خلال كل تلك السنوات، كانت هناك خمسة أفلام ملونة ترضي من الناحية الجمالية. وهذه نتيجة متواضعة. فقد تمكن ريناتو كاستيلاني من الارتقاء بفيلمه “روميو وجوليت” 1954 إلى مستوى أحد هذه الأفلام بالإضافة إلى فيلم لورنس أوليفيرهنري الخامس” الذي تم اقتباس أفكاره في تصميم اللون من المخطوطات السائدة في الفترة التاريخية التي تجري فيها أحداث الفيلم. واقتبس كيفر غاسا في فيلمه “بوابة الجحيم” من حفر الخشب التقليدي في اليابان. ” 1953، وكانت ألوانه منسجمة مع الجو البطولي لليابان القديمة.

ولم تكن الألوان في الفيلم إضافة تجميلية، بل عنصراً أساسياً في بنية الفيلم، الذي كانت الألوان تشعّ بين جزء وآخر منه ، بعلاقة الطِّباق.

 بالإنجليزية Counterpoint: في الموسيقى هو العلاقة بين الأصوات التي تعتمد على هارموني و تستقل في الإيقاع والمعالم. ويعدّ نوع من البوليفونية حيث يستمرّ خطّان لحنيان أو أكثر مستقلّين وميلوديين أساسا (غالبا يطلق عليها “أصوات”) في تزامن، مما يبتكر تفاعلها نسيج هارموني معقد إيقاعيا.

بداية من التناغمات الحمراء والبرتقالية التي تصفّ الفوضى في القصر الإمبراطوري، إلى الأزرق الفولاذي في مشهد الاغتيال الذي هو ذروة الدراما في الحكاية.

وفي محاولات أخرى للارتقاء باستخدام اللون في السينما اقتبس جون هيوستن في “الطاحونة الحمراء” عام1952  عن حياة الرسام تولوز لوتريك من ألوان الرسام نفسه كذلك فعل المخرجان فنسينت ميننيلي وجورج كيوكر في فيلم “شوق للحياة” 1956 عن حياة الرسام فان جوخ. وخضع اشتقاق اللون في الفيلمين دون مراعاة كون الألوان في فن صور السينما تخضع بتشكيلها للزمان، وليس فقط للمكان، كما في فن لوحات لوتريك وفان جوخ.

يبدأ  فيلم “الطاحونة الحمراء” عام 1933 بمشهد للدخان، يملأ الغرفة بأسلوب يدعو للإعجاب، أما ماعدا ذلك ، فقد كان عادياً. وكان الفشل في دمج الألوان مع الانسياب الدرامي المرن، سبباً في ضعف الفيلم، فقد كان اللونان الأخضر والأزرق مهيمنان. لكن لم يكن هناك مثلا أي حركة لتطور اللون ما بين لقطة وأخرى، أو في تتابع المشاهد.

أما في فيلم “شوق للحياة” 1956 فكما يرى دولوز أن اللون الأصفر كان عند فان جوخ أثناء ما كان يقترب من ابتكاره للون، رونق إبداعه، هو الذي استغرق كيانه وعقله.

وحددت الألوان الأصفر والبرتقالي والأحمر والأسود الأسلوب البصري، ولم تكن أكثر من لقطات منعزلة تتتالى بأسلوب يهدف إلى إثارة حالة درامية، ويستثنى من ذلك الجزء الأخير من الفيلم فقط، حيث تعدت الألوان ونجحت في التأكيد على الخط الدرامي العام. فكان اللون يتبدل بين لقطة وأخرى عندما بدأ عقل فان جوخ بالاضطراب، متحولاً إلى الجنون التدريجي، وبدأت الألوان الحمراء والبنية تختفي تدريجياً، إلى أن بقي لون حقول القمح الأصفر الشاحب، مولداً شعوراً غامضاً بالقوة، ومنذراً باقتراب الموت.

يموت الفنان في النهاية، وتمزق أسراب الغربان اللون الأصفر ليحل محله لون أسود. وقد كان تأثير هذا التبديل المفاجئ ما بين الأصفر والأسود قوياً ومعبراً من الناحيتين الدرامية والنفسية. لأن تصميم الألوان والتكوين جاءا من لوحة رسمها الفنان لحقل مع الغربان، في الفترة التي اقترب فيها من الموت.

هناك محاولات لاستخدام اللون بأسلوب أحدث وأكثر تطرّفاً وتعقيداً، يتجاوز ما يمكن الحصول عليه عند تقليد أساليب الرسم الملتزمة، أو ألوان الطبيعة، تميز بها فيلمان يمكن اعتبارهما ترجمة للحالة الذهنية لامرأتين من خلال أسلوب الاستخدام الذاتي للون.

يقول أنطونيوني عن فيلمه الملوّن الأول “الصحراء الحمراء” (1964): ولد اللون مع ولادة الفيلم: فبطلة الفيلم امرأة تعاني مرضاً عصابياً. وكان سلوكها يخرج عن حدود المنطق، لهذا يذهب الفيلم في استعمال اللون من وجهة نظرها الذاتية.  ويضيف: لقد أخرجت خلال خمسة عشر عاما  تسعة أفلام وجزءاً من فيلم محاولة انتحار، في فيلم “حب في المدينة” كانت كلها بالأبيض والأسود. ومع ذلك فان استعمال اللون أثار حماستي، كما أن الصعوبات التي واجهتني في الأبيض والأسود تبدو وكأنها تضاعفت ثلاث مرات مع اللون.

يصف أنطونيوني استخدامه الخاص للألوان بأنه محاولة لإبعاد الواقع المعتاد واستبداله بواقع اللحظة الراهنة، لكي تعطي تناغمات ألوانه وانحرافاتها صورة عن أزمة بطلة الفيلم. فهو عندما يلون الأرض بألوان تمثل امتداداً للتشويش الذهني لبطلته، إنما يربط ما بين عقل تداعى توازنه مع منظر قاتم لما غيرته الصناعة الحديثة من أطياف الألوان وظلال العالم الحقيقي، فنجد الشوارع والآلات مصبوغة، كذلك البيوت والأشجار والأعشاب، قد تم رشّها بأحد مشتقات الرمادي التي توحي بالإغتراب، ويزيد الموضوع غرابة النغمات اللونية التي تحجب العالم الحقيقي، وتعرض عوضاً عنه أرضاً جرداء ترمز إلى قلق وهموم البطلة: مصنع ضخم للمواد الكيماوية مع مكثفات حمراء وخضراء، وأنابيب عملاقة ملونة بأشكال هندسية، ومداخن تنفث موجات كثيفة من الدخان الأصفر، تبدو كوحش تكنولوجي كريه، أما الشوارع وما حولها، حيث تتجول البطلة، فقد حولتها العوامل الجوية إلى الرمادي المعدني لتوحي بجو كابوسي في عالم سريالي. ويهيمن اللون الرمادي على ناقلات البترول والسفن التي تمر عبر القناة الحزينة. وتمتد أشجار الصنوبر التي سقطت أوراقها على طرفي القناة. أما النباتات في بهو الفندق فقد صففت بأكوام رمادية كامِدة اللون للتأكيد على عقم ذهن يتجرد من المشاعر والأحلام.

تدخل الألوان في فيلم فيلينيجولييتا والأشباح” 1965 إلى أعماق زوجة تمر بأزمة نفسية لتصور عالم خيالها المأزوم، بعد أن اكتشفت خيانة زوجها لها. ويستعمل فلليني ظلالاً مضيئة ذات طابع تزييني مثير بصرياً، ليلوِّن عالماً عجائبياً، يأسر الحواس ويعبر عن خيالات المرأة المبالغة. واكتشافها لذاتها ومشاعرها بنوع من الروعة الباروكية، وبجاذبية حسية أصيلة. فنرى التخيلات الفرويدية، والرؤى الجنسية، ومخاوف الطفولة، قد صوِّرت بمزيج من الألوان الساطعة الغنية مع ترتيبات المشهد بأسلوب الروكوكو ويتبدى الكل كموضوع نفساني يذهل الحواس بمؤثراته وتكويناته المبالغة. فمن الأزرق الرمادي الليلي حين تغري امرأة جد البطلة، في منزل عصري مصمم بأسلوب معاصر” آرت نوفو” حيث يشكل كل ظل وضوء مقدمة للحب الارتجالي، ويمنح وجود اللون الفيزيائي ديناميكيته.

تدرس سوزانه مارشال مؤلفة كتاب “الألوان في السينما” التكوين السينمائي والاستقبال وتتناول بإسهاب جمالية إدراك اللون وتاريخ الفيلم الملون والأسس النفسية للاستقبال ودرامية اللون في أفلام عديدة منذ وقت مبكر حتى ظهور روائع الأفلام الكلاسيكية والراهنة وتعتبر دراموتورغيتها الملونة من الأعمال العظيمة ومن بين الأفلام التي تدرسها فيلم “دوار”  1958 لهتشكوك و”موبي ديك”1956  لجون هيوستن صرخات وهمسات” 1972 لبيرغمان و”مومينتو” 2000 للإنكليزي كريستوفر نولان و”بطل” للصيني Zhang Yimou 2002 إضافة إلى أفلام أخرى مهمة استخدمت الألوان في تفاعل مع الضوء والحركة في بنية حكاية الفيلم الدرامية العميقة كفيلم “يحبني، لا يحبني” 2002 للفرنسية Laetitia Colombani و “تحدث معها” 2002 للإسباني Pedro Almodóvar.

كان الحافز منذ البداية في استخدام اللون في الفيلم الصامت قويا، بنفس الدرجة تماماً التي حصل فيها استخدام الصوت. واليوم أصبح  اللون في الفيلم يعرّف في أغلب معاجم السينما على أنه واحد من أهم وسائل التعبير، الذي يتم بوساطته خلق جو فيلمي منشود ومؤثر.  وأصبح الفيلم الملون مع التطور أيضا بمثابة علامة أيقونية مكونا مهما في تنظيم معاني الصورة ضمن بنية الفيلم الدرامية وفي عملية إدراك الفيلم وفهمه. لأن أي شيء ندركه بحواسنا، يقوم، في الحقيقة، كعلامة أيقونية مقام شيء آخر : كعلامة بين الدالّ والمدلول، تقوم مقام شيء آخر، أي أنها تدل عليه أو تنوب عنه. فالخصوصية الجوهرية للعلامة: تكون حاضرة أمامنا لكنها تشير أو تدل على شيء غائب، أكان محسوسا أم مجردا: فالشيء الحقيقي، بحد ذاته، ليس علامة لما هو عليه، لكنه قد يكون علامة لشيء آخر.

لكي نتوصل إلى رؤية الأشكال المتّسقة، ضمن رسالة بصرية، ونفهم التأويل الذي تستحثه، ينبغي أن نجتهد في نسيان ما تمثله هذه الأشكال، وأن ننظر إليها بالذات، كما هي بتمعُّن، بمعزل عما يمكن أن تمثله. وأصبح اللون يقدم فرصة لاستخدام أطيافه بطرق شتى، فريدة وخاصة، ترتبط ارتباطاً عضوياً بطبيعة الفيلم. ويكمن هذا الاستخدام في قدرة اللون على جعل الحركة تستمر من جزء إلى آخر في الفيلم. فإذا كانت الألوان مرتبة ومشكلة بطريقة صحيحة، تتتابع من لقطة إلى أخرى كعنصر مكمل للمزاج وللقيم التي تحملها الحكاية، كما أنها بالإضافة إلى دورها التزييني، تؤثر على المضمون العميق للعلاقات البنيوية للفيلم. وعوضاً عن تقديم مجموعة عشوائية من الألوان في الصورة يكتسب اللون صفة الشعرية مسيطراً على تعديل التناغم أو النشاز أو الإيقاع،  كعنصر هام في دفع وحث وتأكيد الحدث الدرامي. وبذلك تصبح الألوان جزءاً تعبيرياً في بنية الفيلم نفسه. ولا ريب في أن عملية تأويل الأشكال، كما تأويل غيرها من الأدوات التشكيلية الجمالية، تكون في جوهرها، عملية أنثربولوجية وثقافية بامتياز. تلامس وعي المشاهد ومشاعره، ويمكن أن يتوصل، بالضرورة، إلى تأويله الذاتي لها.

  • كيف هو حال اللون في الفيلم الوثائقي؟ وكيف يتم مراعاة اللون في أنواعه الفنية المختلفة وتأثيره على مشاعر المشاهد؟

صدرت في السنوات الأخيرة جملة دراسات حول نظرية الاستقبال تتناول ردود فعل الجمهور إزاء الشخصيات الفيلمية والأحداث خاصة في الفيلم الخيالي ويتناول قليل منها استعمال اللون في الفيلم الروائي الخيالي. ولم يكن من باب الصدفة أن يتحدث  Ed. S. Tanعن الفيلم الروائي باعتباره آلة لإنتاج المشاعر. وهدفه جعل المشاهد ينغمس في الأحداث ومشاركة كهذه تسلي المشاهد أو تهزه، تجعله ينغمس في عمليات المشاركة الوجدانية في عالم من الخيال والوهم.

وتفسر المؤلفة Christine N. Brinckmann   حالة التماهي واندماج المشاهد في نوع من المشاركة العاطفية بأنها بشكل عام تلك القدرة على محاكاة التخدير التي تصيب المشاهد ليندمج مع حالة فعل لشخص آخر على الشاشة. ويمكن طبعا التفريق بين أساليب مختلفة من التماهي: فهناك من يتحدث عن تماهي جسدي أو محاكاة للقوة أو حتى المشاركة الوجدانية التامة التي تحدث تقريبا لدى من يتماهى مع نفس الحالة العاطفية الوجدانية عند شخص آخر.

وتجد المؤلفة برنكمانأن الوثائقي  يشارك  جمهوره بدرجة أقل في التجارب الوهمية لأن مهمته إيصال معلومات حول الواقع وتناول مشاكله الاجتماعية وتقديم حجج حولها. ويسعى غالبا في تغيير وعي مشاهده ويقدم له خطابا عقلانيا وفق مبادئ إنسانية.

وكما يبين بيل نيكولس فإن خطاب الوثائقي لا يلجأ إلى تحريك عواطف مشاهده إلا بإحساس بارع لكن أيضا بحذر شديد.  

كما أن الأساليب المكثفة التي يستخدمها الوثائقي أقل أو حتى أنه لا يستخدمها على الإطلاق كالموسيقى التصويرية مثلا التي تعقِّب على الحدث والمشحونة بالعواطف التي إذا تم استخدامها في الوثائقي ففي مقدمة الفيلم  وفي نهايته فقط بدل أن تصاحب المواقف بشكل مستمر. ويسري الأمر نفسه على  استخدام اللون والضوء أو استخدام الميزانسين التي توظف كل هذه العناصر الفنية في الروائي لإثارة المشاعر والعواطف بينما هي في الوثائقي على العكس من ذلك، لأن على الوثائقي حسب تطور تاريخه أن يقبل بظروف التصوير المُتاحة كما تقدم نفسها والنتيجة فإنه لا يخضع كثيرا للإغراءات الشكلية. هناك أيضا حالات يكون فيها موقع التصوير معتم لدرجة لا يمكن  تصوير تفاصيله أو يفرض الطقس جوا عكس ما يراد تصويره لموقف ما مطلوب.

كذلك توجد فروقات بين الجنسين تنتج من مساحة الفعل وتؤثر بشكل مختلف أقل أو اكثر. وأهم من مجال ظروف التصوير فإن الفروقات تكمن في طبيعة الشخصيات أو الناس الذين يقدمهم  لنا فيلميا. ونحن نستعمل مفهومين مختلفين: نتحدث عن شخصيات في الفيلم الروائي  ونتحدث عن أشخاص في الفيلم الوثائقي، كلاهما مصنوع من نسيج مختلف.

فلكل فيلم، وثائقياً كان أم روائياً / خياليا،ً أَعرافٌ وتقاليد وابتكارات متضمنة في مستويات بنائه المتنوعة ويضم في ثناياه عدداً من الإحالات الخفيّة، التي تهمس للمشاهد كيف عليه أن يفهمها  وفي أي مستوىً … فتَعدُّد الدلالات ينطوي على تضارب بين ما يُعرض ويقال مباشرة وبين ما يتوجب فهمه ورؤيته.

والسؤال المهم يبقى: هل ما يُعرضُ أمامنا هو واقع حقيقي، أو أن ما يجري سرده هو واقع صادقٌ؟ مع أن مثل هذه الأسئلة ليست ذات معنىً في حالة الفيلم الروائي، لأنه لا يحاكم وفق معيار كهذا. فعندما نعقب عن فيلمٍ وثائقي < لا أُصدِّقُ هذا > فإننا نقصد بذلك سلوكاً خاطئاً أو كذبة أو حتى تزويراً. وهذا يعني أننا نشكك بمصداقية شخوصه وأحداثه أو حتى بمصداقية المخرج نفسه وبما يعرضه أمامنا.

ويبدو كما يقال كما لو أن صانع الوثائقي “يصيد” في البرية بينما صانع الروائي “يتدرب” على الرماية!

ولا شك أن اسئلة الخلاف في استعمال اللون يمكن أن تطرح بين الجنسين انطلاقا من درجة التماهي التي يخلقها الخيالي والتي قد يسمح بها اللا خيالي أي تلك الدرجة التي تضع أمام اللا خيالي طبيعة الألوان التي يستخدمها كما هي في الطبيعة وإلى أي مدى يجب ألا تكون ذات طبيعة تزينيِّه، بل يمكن أن تكون أحيانا تعبيرية. فبالرغم مما هو متأصِّل في اللون من رمز واستثارة نفسية ومعنوية، لكنه يقدم فرصة لاستخدام أطيافه بطرق شتى، فريدة وخاصة، ترتبط ارتباطاً عضوياً بطبيعة موضوع الفيلم ونوعه.

في أفلام الرسم مثلا نرى أن الوثائقي يجهد في استعمال اللون للوصول إلى مطابقة تامة مع ألوان الرسام الذي يقدمه. لكن وقت أن يُمَثل الرسام في حالة نفسية ما أو في حالة يبحث فيها عن اللون أو حتى يحلم فيها بالألوان عندها يكون استخدام اللون تعبيريا. الشيء نفسه قد يحصل مع شخصية طبيب في مستشفى فمن الطبيعي أن يكون اللون في عموم المستشفى متعدد الألوان لكن في الفيلم يمكن أن يسود اللون الأبيض في إنارة “هاي كي” التي تعبر عن البياض الخالص وتبتعد عن أي ظلال.

يلعب الموضوع والناس والأشياء والمكان تحديد استعمال اللون وإلى أي مدى يمكن أن يكون طبيعيا مماثلا لحالة وجو المكان أو يمكن أن يكون تعبيريا لحالة أي موقف درامي في بنيته غير الخيالية.

يمكن القول أخيرا أنه ليس هناك وصفات جاهزة وليس هناك استعمال للون بشكل تعبيري ذاتي، كما قد يفعل صانع الفيلم الروائي/التمثيلي إنما تبقى مسألة اللون في الوثائقي أيضا وصفة خلاقة لكنها تبتكر في كل حالة وفي كل موضوع يتناول حياة الناس والأشخاص وتسجيل البيئة الواقعية التي تحيط بهم، مع مراعاة أن الفيلم الوثائقي هو أيضا سينما وتأتي قيمته ليس فقط من الأمانة في تقديم موضوعه إنما أيضا من الكيفية التي يقدم فيها موضوعه، بغض النظر عن وهم الواقع التام الذي قد ينشأ من العرض. فإن الفيلم الوثائقي “يُقَوَّم” وفقا لأحكام ومزايا جمالية. فلا يوجد أي فيلم دون صنع أو دون تدخلات فني لأن التصوير بوساطة الكاميرا يستوجب دائما مَلَكة الحرفة ويستوجب بشكل أمثل – فطنة تامة.

لقد تسنى للفيلم الوثائقي ان يحتل من جهة موقعه في الفن السينمائي ولم يعد السؤال يتوقف من جهة أخرى عند أنماطه الوثائقية وأشكاله السردية إنما وفقا لأي شكل ميزانسين يتناول صانعه هذا الواقع أو غيره على أحسن وأصدق وجه.

**

المصادر

1.  Bela balazs. der geist des films henschel verlag kunst und gesellschaft berlin 1984

2.  Prof. Dr. Hans Jürgen Wulff. Lexikon der Filmbegriffe. Mainz: Bender 2002

3.  Sergej M. Eisenstein. Jenseits der Einstellung. Suhrkamp verlag.frankfort am main 2005

4.  Susanne Marschall .  Farbe im Kino Schüren Verlag, Marburg. 2005       

  1.  Christine N. Brinckmann . Farbe, Licht, Empathie (Zürcher Filmstudien) Broschiert – 1. März 2013
  2. Alice Bienk. Film Sprache. Schüren Verlag, Marburg. 2014

7.   الوسيط السينمائي. المؤسسة العامة للسينما.  سلسلة الفن السابع (110) دمشق/،2006 ترجمة أبية حمزاوي

8.   موسوعة الشاشة الكبيرة. إســـماعيل بهـاء الدين سـليمان مكتبة لبنان ناشرون. بيروت 2012

9.   جاك فونتاني. سيمياء المرئي. دار الحوار. اللاذقية/سورية. 2013  ترجمة. دز علي اسعد.

10.  الصورة-الحركة أو فلسفة الصورة. جِيل دُلوز. الؤسسة العامة للسينما. سلسلة الفن السابع (17) دمشق. 1977 ترجمة. حسن عودة

11.  “الفيلم الوثائقي وحججه” فرانسوا نيني  2009 صدرت ترجمته الالمانية/دار نشر شيرين 2010  تحت عنوان  “واقعية الفيلم الوثائقي- خمسون سؤال حول نظرية وممارسة الوثائقية”.