الموسيقى البصرية

 
عبد الكريم قابوس 
 
“السينما هي كتابة عصرية حبرها النور “
جان كوكتو 
 
طرح إشكالية الصورة بين الروائي والوثائقي، اشكالية مفخخة وأكثر من ثنائية. لماذا؟
 
لأن الصورة ، صورة… ولأن الصورة ـ سينمائيا – لا تمكّن الباحث من التعامل معها إلا ومعها ما جعل السينما سينما أي الحركة ـ (كلمة سينما … آتية من كيني kine اللاتينية : الحركة) فالصورة بدون حركة صورة صامتة ـ وكيف تصمت الصورة؟-
 من هنا للصورة السينمائية علاقة مع الصوت .
في السينما الصورة بدون صوت، هي أيقونة، لوحة، بورتريه، تذكار ..لكن ليست بالصورة السينمائية.
طبعا في الصورة السينمائية دلالات لكنها ليست دلالات مرتبطة بالتصور، بل بالسينما والإطار (الكادر) ثم الزاوية، ثم الحركة (حركة الكاميرا)… وفي الصورة هناك موسيقى نعم، موسيقى بصرية.
على أرضية متشعبة يقف الباحث أمام هذه الإشكالية ..
لقطة عامة
 
عود على بدء: الوثائقي، الروائي والصورة
 
لنقلها منذ البدء كبديهيّة : الوثائقي هو التماثل والروائي هو التمثيل.
من هنا يتدخّل ما هو خارج الصورة في إطارها للبحث عن مسارات التلاقي والتباين بين الصورة السينمائية في الروائي والوثائقي. بين الروائي والوثائقي أصلا.
ربّما سقطنا في التعميم لما ندخل في تحليل التلاقي والتباين بين أسلوبين لفن واحد بطريقة جُمليّة ـ التحليل الجملي (macroanalyse ) ربّما  نتوه  بين الجزئيّات لمّا نشرح الصورة في بعديها الروائي / التمثيلي والوثائقي/التماثلي. أي: أين تقف الصورة بين الروائي والوثائقي؟ هل لها خصوصية تعبيرية لكل  رهط سينمائي ؟أو أنها مستعدّة للتعبير عندما نختار الأسلوب؟
ما هي نقاط الاختلاف بين الصّورة في الرّوائي ( التمثيل) والصورة في الوثائقي     (التماثل) وما هي نقاط الاختلاف ؟ في حين ان العديد من المنظرين يقرّون أنّ السينما سينما مهما كان الأسلوب ومدّة العرض والزوايا والكادر والصوت واللون والتعليق و الحوار إلى آخر قائمة المكونات  التعبيرية للفلم.
 ربما نسقط في المدرسية  والبيداغوجية المبسطة لو تناولنا الصورة في الروائي والوثائقي بتعداد قائمة التباين والتلاقي اثناء مقاربة مكونات الصورة السينمائية الكلاسيكية.
الرجوع إلى المدونة النظرية التي تراكمت عبر القرن والنصف من عمر السينما يجعلنا نتيه في البحث عن خصوصية الصورة الوثائقية وتوأمها الصورة الروائية.
 لنجرب.
 
لنجرب  هنا وهناك، عن طريق الترسّل وذلك للتّكثيف بالاعتماد على البرادغمات الكلاسيكية (البراديغم هنا هو أي نوع من النموذج يمكّن نسخه او القياس عليه  أو مقارنة شيء آخر به) كشف خفايا أخرى داخل الصورة السينمائية الروائية منها والوثائقية ولنتناول هذه القائمة بدون  ترتيب .
الإطار ـ اللقطة-المشهد – وسيل الصور- اللون – الأفق (البرسبكتيف)- النور والظلام (الضوء، الإضاءة)- الزاوية- الحركة ـ (حركة الكاميرا)- التركيب – علاقة الصورة بالصوت- الصوت الداخلي في الصورة.
كل هذه المحاور تؤدّي إلى التكثيف العميق الذي قام به جيل دلوز في كتابة الحدث (زمن صدوره) عن السينما وكيف طوّع الصورة لمفاهيم الفلسفة بطرح الصورة ـ الحركة والصورة – الزمن.
لقطة متوسطة
 
I ـ
عن التمثيل والتماثل
 
” هناك المُبْصَر وغير المُبْصَر
إذا صوّرت المُبْصَر
 فإنك قمت بتصوير فلم تلفزي”
جان لوك غودار 
 
قبل الوقوف أمام الصورتين (الوثائقية والروائية) لا بد أن نضع أمام أعيننا بأن الوثائقي متعدّد الأساليب فهو وثائقي بأتم معنى الكلمة (يوثق على الطريقة البوليسية) ووثائقي بمفعول رجعي  بالاعتماد على الأرشيف وتسجيلي  معاصر وكذلك اليوم آني أي تلفزي (الجري وراء صورة الحدث بدون تروّ) واستقصاء وروبرتاج وما فرضت التلفزة من تصنيفات جديدة.
أما الروائي فلك أن تصنف كما تريد فلا حدود لقائمة الأرهاط السينمائية الروائية.
غير أن تحليل الصورة بين منهجين يجعلنا نقف وراء الكاميرا ووراء حيرة المخرج وعينه في اختيار الصورة المشتهاة للتعبير المنشود.
 
أ ـ الوثائقي : الدهشة والحكي المكبل
 
بالنسبة للوثائقي الصرف، ليس لدى صانع الفلم اختيار لصنع محتوى الصورة، الوثائقي يصور مشهدا جامدا (بناية، جسر، صحراء) أو متحرّكا (مظاهرات، جنائز قطارات)… أو مجموعات بشرية أو حيوانات… لكن أساس اختياره للصورة/المشهد مبني على الدهشة (أساس الانبهار) وعلى المعلومة، ومفهوم البعيد ـ إذ أنّ الصورة الوثائقية بحثت منذ البداية عن القريب / البعيد، وعن المجهول / المدهش.
من هنا فُرٍضتْ على الوثائقي طقوس مستحدثة، غير أن الصورة في كثير من الأحيان لا تستطيع عكس الجرعات التعبيرية المرغوبة ، فيلتجأ الوثائقي لا إلى استعمال تقنيات الروائي من “إخراج”( أي إعادة تكوين الواقع، بالديكور المخترع والتمثيل والحوار والتركيب) بل إلى وسائل أبسط : التعليق، والتركيب وطبعا اختيار الكادر والزاوية والحركة… من هنا يبقى الوثائقي فن التماثل حتى أتت مدرسة السينما الواقع التي تصبو إلى أن تعكس الواقع كما هو …  في حين أنّ سينما الواقع تصطدم بمفهوم الزمن ، فالزّمن في الواقع ليس بالزمن الفلمي… وأكثر أنواع الوثائقية التي يمجها المتلقي هي الخطب (الأمم المتحدة مثلا أو خطب فيدال كاسترو أو القذافي) وهي أكثر التسجيلات واقعية وتطابقا مع الزمن للواقع. في المقابل يبتلع   المشاهد مع التلفزيون ساعات من متابعة الأحداث الكبرى أو الكوارث (مثل ما قامت به التلفزات أثناء احتباس عمال مناجم في بئر منجمية بالشيلي). وهو مفهوم الصورة علكة العيون الذي اسسه الباحث انياسيو راموني.
يختار الوثائقي صوره أولا اعتمادا على درجة المعلومة التي تقدّمها الصورة… وربما تقاس المعلومة بمعطيات كمّية : الاكتشاف، الدقّة، الدّهشة، والمعرفة… من هنا لا يبقى أمام المخرج إلا اختيار الزاوية وخاصة نوعية اللقطة، قريبة أو بعيدة، جامعه أو تفصيلية… فالصورة تحكم بصر وبصيرة المخرج بالعجز أمام التدخل في المشهد (كيف لك أن تغير برج إيفل… أو شلالات نياغارا،مشاهد الحروب… أو حياة الحيوان في الأحراش) ولا يبقى أيضا  أمامه إلا التدخل في معالجة اللون والتركيب وفي أقصى الحالات الاستعانة بالصوت (موسيقى ، حوار، تعليق، ومكونات صوتية حقيقية أو مفتعلة) الكل في البحث عن التماثل… أي الإجابة على تساؤل  حول ما وصل إليه لوران بارت في كتابه المرجع (الغرفة المضيئة) عندما أسس مفهوم “هذا” ومفهوم “هذا” مفهوم مستعار من علم النفس، خيم على مدارس  سيمولوجيا  السينما  والصورة في السبعينات وهو المفهوم الذي حدّد درجة تعبيرية الصورة التي تريد أن تقول  لك “هذا” وفي أقصى الحالادت “هكذا” : هذا هو ما نشاهد وهكذا كان.  ( انظر كتاب الغرفة المضيئة )
 
من هنا يتدخل جيل دلوز “ليختطف أول دهشة أمام أول صور سينمائية ليحولها إلى براديغم أساسي : الحركة. ثم يردفها بما هو أساسي في كل فلم روائي أو وثائقي : الزمن… الحركة والزمن مكونان أساسيان لجعل السينما تنفرد بخصوصيتها : الحكي ومنهم من يحبذ السرد. أعنى هنا الحكي البصري الذي يختلف عن السرد الروائي الذي له مدارسه وتحاليله..
(انظر كتاب جيل ديلوز بجزئيه) 
فمفهوم السرد والسردية أفضى إلى علم متكامل : السردية  narratologie
 
السينما إن لم تحك ليست بسينما.. والحكي يتطلب استعمال كل مكونات اللغة السينمائية من مفردات النحو البصري التي ثلاثية الزمن ـ الحركة ـ الحكي. لكن هذه الثلاثية يفرضها الوثائقي على المخرج.
أمّا الروائي فلا يصل إلى أعلى مراحل التمثيل (تمثيل الواقع) إلا  عندما يتدخل هو ويتحكم في أضلاع مثلث الزمن ـ الحركة – الحكي.
فالوثائقي مكبل بحرصه على “التوثيق” أي  ان يعكس الواقع وربما يصبو الى ما يسمي بالحقيقة (وهي مقاربات يغوص فيها اليوم محللو مدرسة سينما الواقع: الواقع  الذي يترجم إلى واقع صرف أو حقيقة).
المخرج الوثائقي يحاول طيلة إنجازه التمرّد على ما  يكبله وذلك باللجوء إلى الدهشة والإبهار، للتلقين والاكتشاف ربما  ناسيا، أو متناسيا، الرسالة الأساسية لسينما الواقع على حدّ تعبي محمود المسعدي ” ذلك كذلك”.
كثيرا ما يتمرّد الوثائقي ويصبح حاملا رسالة وهكذا تقترب الصورة الوثائقية من الروائية عندما يصبح الوثائقي صاحب رسالة، نضالية أو بروباغندا.
فأفلام الثورة الروسية هي إعادة تركيب للواقع وسينما أمريكا اللاتينية هي قصائد وملاحم وثائقية للتنديد بالطغمة العسكرية  كما أن سينما الحرب- خاصة الحرب العالمية الثانيةـ تحولت إلى بروباغندا عند النازيين وسينما بروباغندا مضادة لدى اليهود. 
 
واليوم يعاد استعمال مشاهد من  كل هذه الأرهاط الوثائقية بإعادة تركيبها وخاصة موضة تلوينها من جديد كهذا السيل العارم من أفلام الحرب  التي تستهوي التلفزيونات.
في حين أن سيل عارم من الأفلام الوثائقية يبقى رهين الصورة المحدّدة والمجمّدة  والمعلومة كالأفلام الطبية والعلمية، وأفلام الفضاء بتعلة ان العلم لا يتحمل الخيال وقد تخصصت فيها قنوات تلفزية بأكملها.
 من هنا يظل المخرج الوثائقي أمام صورة مكبّلة ( بفتح الباء)ومكبّلة ( بكسر الياء)، مكبّلة( بفتح الباء) لأنها تستجيب لواقع التدخل فيه  يعتبر جريمة بصرية وخروق معرفية ومكبّلة( بكسر الياء) لأنها لا تترك للمخرج مساحة حرية الإبداع إلا في البحث عن السيولة السردية والاسطيطقا حتى لا نستعمل مفهوم الجمالية.
 
 تبدو الصورة السينمائية في تسلسلها فريسة للإيديولوجيا… فلنأخذ مثل الأفلام الوثائقية حول الحرب العالمية الثانيةـ وبدأت الخزائن تفتح  علبهاـ وسينما حرب  الفيتنام وأفلام القضية الفلسطينية. في الكثير من الأحيان نشاهد  نفس  الصور في  افلام  تركب من هنا بخطاب إيجابي ومن هناك بخطاب سلبي على حد قولة الفيلسوف باسكال  : “حقيقة من هذه الجهة من جبال البيريني ، وخطأ من الجانب الآخر” في حين انّ الصورة واحدة.
 يقف مثلث الزمن- الحركة – الحكي حائلا أمام  التصرف في الصورة الوثائقية وإلاّ  أجبر المخرج  على التزوير… وهذا ما لا يصبو إليه الوثائقي.
كل هذا لا ينطبق تماما على الصورة الوثائقية التي ربّما تكون أكثر هدوءا ووداعة عندما تهتم بالفنون التشكيلية والأوبرا والرياضة لأنها تبحث عن معان أخرى تختلف عن معان ما تقدمه تلك الفنون. 
 
ب- الصورة الروائية : التمثيل، الخيال التخيل وحرية الحكي
هناك قوله شهيرة تأتي بعد الدّهشة عندما نشاهد فلما روائيا جيّدا أومتميزا نقول : “الخيال أكثر واقعية من الواقع”.
يحاول جل مخرجي الأفلام الروائية تقديم واقع أكثر واقعية من الواقع… من هنا تأتي حرية الفلم الروائي في التعامل مع الصورة ومن هنا أصبحت السينما الروائية صناعة قبل أن تكون فنّا فهي صناعة بيع الأحلام قبل بيع الأفلام… فيها الواقع وكأنه لا واقع أعيد لواقعيته… وهنا يدخل عنصر جديد في الإطار وهوالتمثيل.
فالتمثيل فن وفي السينما يختلف عن التمثيل في المسرح ففي المسرح أو ما يسمى بالمشهدية الحية لا سماح بالخطأ وما يقع على الركح هو تعبيرية خاصة بالممثل لتقديم خطاب (على حدّ تعريف ارسطو) لكن في السينما يتدخل الزمن..
الزمن الفيلمي  هو عملية ابداعية تتمثل في اختزال السنين والأيام والساعات في مشاهد أو لقطات تقاس بالثواني (هناك قصة تدوم 40 سنة تقدم في ساعة وأربعين دقيقة) ويتمتع مخرج الروائي ، اثناء التصوير، بحرّية اعادة اللقطة وتغيير الزاوية والإطار وحتى الديكور حتى يصل إلى واقع أكثر واقعية من الواقع كما أن له حرية كاملة في التركيب (المونتاج). هكذا  يتحكم المخرج في زمن الحكي و تكثيف السرد. كما يستعين بإضافة الأصوات والموسيقى والحوار، (الحوار المباشر، الداخلي، أو الخارجي off) والتحكم في الزمن الفلمي…
 
فالصورة الروائية تبدو رخوة مترهلة، سجينة سلاسل في يد المخرج من هنا يأتي السحر والدهشة في مقابل تصلب الصورة الوثائقية خاصة عندما يجابه المخرج شح الوثائق أو حرج الارتباط بزمن التصوير.
وفي الفلم الروائي تدخل مكونات البلاغة كما الأمر في الصور البلاغية النصية من توريه وإطناب وإيجاز وجناس وترميز واستعارة ومجاز وقطع ناقص (ellipse) وتصريح المكتوب ( litote) .
وتتمتع الصورة الروائية بالتأني في مخاضها والتحليل قبل التنفيذ وحبسها في مسار سردي، خاصة عند عملية كتابة السيناريو.
فكتابة السيناريو تحدّد أساسا من البداية موقع الصورة (داخلي/خارجي)، الزمن (نهار / ليل)، ثم سرد المشهد وتحديد الزوايا ونوعية اللقطة كما تسمح  الصورة الروائية امكانية إضافة ما هو خارج الإطار بالأيحاء ( hors-champ) وكذلك تقنية الحقل والحقل المعاكسchamp /contre champ)) وهذا أساس سردية الحوار في الروائي وهو ما لا تتمتع به الصورة الوثائقية.
زد على ذلك المؤثرات الخارجية من إضاءة ولون وحركة وإبعاد الأفق…
ثم أن الروائي يتمتع بحرية في اختيار تتالي المشاهد الداخليه والخارجية وهو أساس تنفس الفلم الروائي، تنفس بصري يساعد في  دعم السردية… كما أن الشعور بالزمن وتقدم الحكي في نطاق السرد هو تواتر النور والظلال، الليل والنهار الذي يتحكم فيه الروائي ومفروض على الوثائقي. 
 
فالصورة في الروائي ليّنة مطواعة وفي الوثائقي متصلبة جامحة.. ليونه  الصورة الروائية تمكّن من حرّية المخيال وصورة الوثائقي تقيدك نحو الواقع والحقيقة. 
لنحاول معا تقصي الصورة الروائية والصورة الوثائقية حسب برادغمات تحليل الصورة والاعتماد على تشريح سيمياء الصورة..
لا ندخل في التفاصيل الدقيقة حسب قائمة المكونات الأساسية للصورة التي ينتجها علماء السيمياء  على خطى كريستان ماتر، وأمبرتو إيكو…بل لاستعانة بهم  لمقاربة  البرادغمات التي تفضي بنا للوصول إلى اتلاقي أوالتنافر في تعبيربية  الصورة بين الوثائقي والروائي.  أي مقاربة مكونات الصورة بين الروائي والوثائقي، بين التعبيرية المطلقة المستحيلة  والسرد الحر.
 
لقطات قريبة
 
1 ـ الإطار/التأطير، الحقل/ خارج الحقل،
 الحقل /الحقل المعاكس
 
” السينما هي أن تعرف ما هو في الإطار
 وما هو خارج اللإطار”
مارتن سكورسيزي 
 
إن كانت الألوان والإضاءة والحركة هي مكونات الصورة الأساسية لتأسيس خطاب سردي أو وثائقي فإن الحقل والإطار هما أساس “نحو وصرف” الكتابة السينمائية
طرح منذ بداية القرن العشرين مفهوم نحو الصورة (بمفهوم سيبويه) كما أن مفهوم النسق كان أساسا في تحليل الفلم بالمفهوم الخليلي للأوزان الشعرية…  يبحث المحللون دوما على نغمات بصرية لتحديد نسق الفلم، غير أن أبجديات اللغة السينمائية  يعتمد أساسا على الإطار.
التأطير- إن كان في الصورة الثابتة أو الرسوم واللوحات أو في السينما – هو في الأساس  موقف إبداعي وفكري وفلسفي خاصة أمام ما يمكنه الإطار من فرص لتكوين آليات للسرد الروائي أو لعكس الواقع والثائقي.
ما هو الإطار ـ الكادر؟
الإطار هو مستطيل (حدّد علاقة طوله بعرضه حسب التطورات التقنية) تحدّده العتمة عند العرض فهو قطعة من النور تنقطع من الظلمة تعكس على الشاشة محتوى الفلم وثائقي كان أو روائي. وعلى خلاف الإطار في الرسوم التشكيلية فهو يغطي أكثر مما يقدّم ، يخفي أكثر مما يبرز؛ الإطار في الرسم يحدّد مساحة الصورة أما في السينما فهو يخفي ما لا يحب أن يكون بارزا في الصورة .
كثيرا ما نعتمد على أطروحات ورسائل ختم الدروس في المؤسسات الجامعية المختصة ومن أهمها “معهد لوميار” الذي يعج بالدّراسات الدقيقة ومن بينها دراسة طريفة بعنوان “الخروج من الإطار”( انظر الهوامش) مقاربة  خاصة للبحث في تكوين الإطار في السينما حيث تشرح تاريخ الإطار وتقدم أمثلة تجيب عليها القارئ الفرنكوفوني، بيد أنه  لو كنّا نتحدّث أمام جمهور سنستعمل لقطات ومشاهد من الأفلام لتجسيد المفارقة بين الروائي والوثائقي في تعامله مع الإطار .
 
التأطير لغة وتعبيريه تكمن في هذه المقاربات  نقدمها تباعا في ما يلي :
 
أحجام اللقطة: التحكم في الفضاء وترويض الأبعاد
عندما بدأت السينما كانت نوعا من تصوير المسرح. تقف الكاميرا جامدة بدون حراك دور الإطار فيها هو إخفاء جزء من الحقيقة في اللقطة أو المشهد وهو ما يسمى: “خارج الحقل” ويبرز ما تقدمه الصورة من مكونات وأحاسيس وخطاب داخل الإطار: وهو “الحقل”.  وتأتي عمليه الحركة المزدوجة إظهار/إخفاء هي أساس قوّة التمثيل (الروائي) التماثل (في الوثائقي).
 وعندما بدأت السينما كذلك (أفلام الأخوة لوميار) وحتى الأفلام الروائية الأولى (شارلي شابلن، و بستر كيتن..) تقيّد كل المكونات في “إطار ـ سجن مرئي.
لو رجعنا لفيلم (م. الملعون) إخراج فريتز لانغ (1931) لوجدنا أن المطاردة لا تخرج من الإطار .
 
غير أن مخرجا مثل “جان رنوار” سيخترع إطارا جديدا وهو” الإطار النافذة ” في شكل كوّة يكتشف منها المشاهد الخطاب الفلمي .
وفي المقابل كل المدارس الوثائقية، حتى بروز استعمال الألوان كان الوثائقي يكتفي باستعمال الإطار المسجون فتأتي الأفلام وكأنها “كالتالوجات” نتصفحها بأعيننا، من هنا يصبح الإطار أداة لتحديد اللقطة ومحتواها (مع الحركة والزاوية) وهي مدرسة  جوهن غريرسون و دزيغا فرتوف و  روبرت فلاهرتي الذين يتعاملون مع الإطار تعامل الجرّاح مع المشرط لأن التأ طير عندهم عمليه تشريح الواقع إن لم نقل تمزيقه إلى إرب.
في حين أن الوثائقي الجديد ينحو إلى استعمال الإطار- النافذة بحثا عن شيئ مخفي وراء الصورة وهو ما أدّى إلى انفصام الوثائقي مع بروز التلفزيون وانشطارة أو  تثليثه أو تربيعه تسجيلي، أرشيف، تحقيق، واستقصاء.
من هنا يعلق الناقد الكبير إندري بازان على الإطار عند رنوار في كتابه (جان  نوار) بأن “تقطيع رنوار لأفلامه لا تتعامل مع تقطيع المكونات التشريحية التي تفكك الفضاء والزمن حسب ترتيت درامي مسبق، بل هو نتيجة عين صحوف متحركة ومتمرسّة. فإعادة التأطير عنده تحتل  مكان عملية تغيير اللقطة الذي يضفي على المشهد تقطيع الفضاء كما لا تستطيع القيام به العين. الكل بحثا عن حقيقة اللقطة التي تمكّن من تحديد وحدة الزمان والمكان حيث تصبح اللقطة “ذرة بصرية” التي بتركيبتها مع ذرّات أخرى يتكون منها المشهد”
 
هل هذا ممكن في الوثائقي؟ على حدّ علمنا كان يوريس إيفنس وعلى إثره تلميذه يوهان فان ديركوكن ومدرسة الواقع الوثائقي يلتجؤون إلى هذا الأسلوب أي التخلي عن المشهد /السيل بل إلى تقطيع اللقطة إلى وحدات إبراز/اخفاء وهذا ما يفسّر إصرار المخرجين الوثائقيين الكبار على القيام بتصوير أفلامهم بأيديهم وأعينهم ومن هنا شبّ الانشقاق بين الوثائقي التلفزي والوثائقي السينمائي وهو ما أدّى في فرنسا منذ عشر سنوات إلى غزو الأفلام الوثائقية القاعات التجارية… وما يسمّى بوثائقي المؤلف ليس الوثائقي الذي يستجيب لمتطلبات المنتج وجشع الموزع…
 انطلاقا من ذلك يكون في مقدرة  مشاهد الفيلم الروائي إمكانية إضافة ما يريد للمشهد في ما يسمّى بخارج الحقل حسب ثقافته وحسه وانتمائه الانثروبولوجي واستجابة لكل العمليات التي درست مؤخرا حول علاقة الباث بالمتلقي في علوم الاتصال. لكن في  الوثائقي يحاول الإطار استحالة تصور أي شيء خارج الحقل  ليقبع بصر المُبصِر في مساحة يختارها المخرج / المصور ليوحي لك بأنه يكتشف لك ويكشف لك ما كنت تجهل باحثا دوما على مفهوم الدّهشة والاكتشاف وحتى الغربة الغرائبية وحتى  التغريب  البرشتي .
 
من هنا تأتي رباعية علاقة المشاهد بالإطار نقدّمها كما يلي:
أ)المشاهدة العضوية: حيث أن عملية العرض تأتي على شكل هرم قمته آلة العرض وقاعدته المشهد، من هنا ينحصر البصر لتتحوّل عملية البصر إلى إبصار… وتحويل انعكاس أضواء وظلال إلى “تخيل الواقع” وهكذا في الروائي والوثائقي على حدّ السّواء .
ب)الإطار المفتوح والإطار المغلق : هي مكونات النحو السينمائي، فقد تكون اللقطات الداخلية سجنا بصريا وهو ما يشعر به المتفرج عندما تطول اللقطات الداخلية وهي التي يعمد إليها المخرج  كمصدر درامي أساس مرجعيته المسرح… فقد يتناقض استعمال الإطار المغلق من السينما الحميمية (السينما الفرنسية) والسينما المشهدية (الوستارن، أفلام الحرب) في حين أن الوثائقي يلجأ للقطات الخارجية في إطار مفتوح بحثا عن البانوراما ولعناق أوسع للمشهد .
ج)نظرة المؤلف / نظرة المشاهد: الإطار يسمح للمؤلف / المخرج بأن يقدم “وجهة نظره” مجازا أو مباشرة أو بما يمنح لشخصيّاته من المواقف غير أن المتفرج يتحيل عن المخرج بإضافة ما هو خارج الإطار، خارج الحقل، وهنا يقع التصادم الحسي والمعرفي والدرامي. في حين أنّ الوثائقي يرجع بك لنظرية “رولان بارت”  نظرية “هكذا “: عليك أن تشاهد وتصمت، أترك نظرك يستهلك واندهش.. (أفلام البراكين، وأفلام الحيوانات، وأفلام الكوارث) في وفي المقابل  أن الأفلام الانتروبولجية تجنح إلى مساعدة المتفرج للمشاركة في تأسيس الخطاب المرئي.
د)النظرة/وذهول المتفرج: “هذا ما اكتشفه  هتشكوك وما تميز به، فالتأطير عند هيتشكوك يعدّ المتفرج لأن يتماهى مع الشخصية لخلق حدّ من التشنج وكان المتفرج  قابع داخل الإطار ثم يقطع الحبل التخيلي/ البصري ويترك المتفرج يعاني الدهشة والذهول وهذا ما يحاول استعماله مخرجي الوثائقي عندما يتعاملون مع  أفلام قضايا “الجرائم” وحتى في أفلام الطبيعة عندما يغوص في العلاقة بين الحيوانات في القطب الشمالي أو داخل الأدغال حيث يعتمد على الإطار السجن أوّلا ثم يحرّر الإطار ليصبح الإطار نافذة خالقة للدهشة،وكأن الكاميرا تتلصص ، وديعة، بدون موقف، وكأن المشاهد هو المخرج. من هنا كان الخلط في العشرية الأولى من حياة السينما  بين التسجيلي والوثائقي، فقد تعدّدت الدارسات حول فلم “الخروج من المصنع” للإخوة لوميار، وهو من أول الأفلام في التاريخ ، دراسات مطوله  تردّد تساؤلا :”هل أن هذا الفلم الذي يدوم دقيقه واحدة هو راوئي أوتسجيلي؟”  وحبرت حوله العديد من الدراسات ووقع الحسم بأن الفلم يبقى وثائقيا لأن حجم اللقطة واحدة والزاوية واحدة والإضاءة واحدة .
من هنا بدأ التفكير في حجم اللقطات وتطوير العدسات… حتى يأتي دايفد غريفيت الذي سوف يثور على مبدأ أن اللقطة ركح جامع لمكونات الخطاب المرئي 
وباختراع التركيب في فيلم”مولد أمّة” بدأ الحديث حول لغة سينمائية وسوف يبدو للجميع أن المونتاج هو الذي أدّى إلى اختراع اللقطات المعروفة بأحجامها المحددة :اللقطة البعيدة والطويلة أو لقطة الأساس أو الشاملة / اللقطة المتوسطة / اللقطة المكبرة اللقطة المكبرة جدّا الخ…
 
نحن لسنا هنا  بصدد تقديم درس- المراجع متوفرة- بل كل من لامس السينما، نظريا او ممارسة، يعرف كنه  هذه اللقطات واستعمالها ومعانيها وتعبيريتها، ويظل الأهم هو كيفية استعمال هذه اللقطات وكأنها “نوتة” موسيقية في سنفونية، أو تنقيط نص لنكتشف  قوّة تفجيرها لملامسة شحنتها البلاغية من تناقض وتزامن من جناس وطباق من تورية ومجاز. 
هنا يتدخل المحلل ليكتشف أن وراء التعامل مع أحجام اللقطات اكتشاف سرّ انكسار الخيط الرفيع الذي يفصل الروائي  عن الوثائقي.
و الخلاصة هي انّ اختيار المخرج للأسلوب الروائي أو المنهج الوثائقي مرتبط بقدره المخرج على العزف على سنفونية اللقطات.
هناك فلم في تاريخ السينما مهمّش يعتبر درسا في دراسة الفرق  بين الوثائقي والروائي هوفيلم “الناس والنّيل” ليوسف شاهين  (وأحث على مشاهدته) فهو فلم روائي عن السدّ العالي وكنت دوما  في خلاف كبير مع المخرج يوسف شاهين حيث اعتبره ابنا غير شرعيا في مسيرة يوسف شاهين. غير أن مشاهدة الفلم من جديد تعكس إشكالية غريبة  وذلك أولا لأن الفلم إنتاجا مشتركا مع الإتحاد السوفياتي وكتب قصتة نيكولاي فيجروفسكي الذي فرض اسلوب الواقعية الاشتراكية الذي لا يبتعد على الوثائقي وحتى البروبغندا – وسنعود إلى هذا الفلم  وكيف أنه يقف على عتبة الوثائقي والروائي – وكانت الصورة فيه تتأرجح بين الوثائقية والروائية وهو “يتأتا” ويتلكأ.
 
الزاوية:من أين نرى ما سنشاهد
إن كانت مكونات الإطار  دعامة الخطاب البصري أساسها طبيعة اللقطة كما رأينا فإن شاعرية اللقطة تأتي عن طريق اختيار الزاوية.
والمخرج الذي لا يحدّد زوايا الرؤية، وحتّى الرؤيا، هو مخرج تائه… في تتبعنا للنوري بوزيد نكتشف أنّه يدخل كل “بلاتو” ومعه عدّة احتمالات زوايا حتى لا يتيه في تحديد مواقع الممثلين.
ولما أمكن لنا التعرف على بعض ملفات أفلام يوسف شاهين التي هي الآن في صدد  الرقمنة (ونشكر ماريان خوري على ذلك) اكتشفنا أن يوسف شاهين كان يتّبع  في إعداد أي فلم بطريقة دقيق وفي تحديد زوايا اللقطة واحتمالاتها وإضاءتها .( 500 ورقة معها صور وتعليقات وتخطيط زوايا اعدادا لفلم المصير).
كانت في البدء الكاميرا ثقيلة الوزن وصعبة التحريك فكان المشهد ثابت ومحتواه متحرك حتى اكتشف “الترافلينغ”( حركة الكاميرا) العمودي منه والأفقي ومن أعلى إلى أسفل حتى “الدولبي” وطبعا التصوير الجوّي؛ ومع تحجيم الكاميرا ونمنمتها حتى أصبحت قلما يكتب حبره النور، بدأ الوثائقي ينعم بإمكانيات تلك  النمنمة  حتى يضفي على المشهد أبعادا أخرى باختراع زوايا جديدة مرتبطة بحركة أكثر حرية.
لا يخاطر المخرجون اليوم في ابداع  الوثائقي بالتمرد على التقطيع الكلاسيكي خوفا من  متاهات المتفرج، وإن كان الإخوة دردان البلجيكيين اللذين تحصلا مرتين على جائزة مهرجان كان أدهشا العالم بأفلامهما المتشنجة لأنها كلها صورت بكاميرا الكتف أو المحمولة بدون أي دعامات فذلك ناتج عن أنهما  لم يكونا يوما يتصوران دخول عالم الروائي بل كرّسا جلّ مسيرتهما للأفلام الوثائقية ذات المعالجة الصلبة لانتمائهما الإيديولوجي ولما  أخرجا فلم “الوعد” الذي كان بطله دوما على موتوسكل  تصرفا وكأنهما يعيشان تصوير عالم وثائقي أكثر من عالم روائي حتى أنهما يطلبان من الممثلين  تجسيد أدوارهم بحرية ولا يأبهون للكاميرا وأصبحت هذه التجربة مدرسة سيحذو حذوها  لانس فان ترير الدانماركي الذي صور  فلم الرقص في الظلام بحوالي 40 كاميرا وزواياها المختلفة.
 
غير أن مخرجا مثل  كنجي ميزوغوشي الياباني يخلق عبر تعبيرية  أفلامه الروائية البحتة بعدا وثائقيا عندما تكون الكاميرا على مستوى الأرض، لأن الياباني يقضي جل وقته في البيت جالسا  وكانت جل أفلامه تصور بعدسة واحدة ذات 50 درجة فقط أي العدسة العادية  كالتي تثبت على أي  آلة تصوير تجارية. 
أكثر المنتفعين من الزاوية هو المصور الفرنسي يان ارتوس برتران الذي تخصص في تصوير الأرض من السماء فخلق استيتيقيا للصورة السينمائية خاصّة به  وأصبح مؤسسة كاملة؛ ففي حين أن طريقة تصويره من فوق كانت مصدر دهشة لأننا لم نشاهد  قبله أرضنا من فوق ولم نكتشف العالم في تناغمه الكامل فكانت الموسيقى البصرية تعتمد أولا على ألوان الطبيعة وما تفعل بها الانعكاسات حسب طبقات الهواء والحرارة ثم ما تخلقه الطبيعة من رسوم بتداخل مكوناتها.
بقي “أرتوس برتران ” مصوّرا فوتوغرافيا لكنه لم يجرؤ على ممارسة السينما إلا لما تمترس وراء قضية وهي قضية البيئة وفي فلمه الرائع “هوم”Home وفلمه “الجزائر من السماء” كان لا بد أن يستعين بمكون أساسي وهو التعليق وبصوته هو الأجش رافضا صوت المعلقين المحترفين وبالاعتماد على معلومات لا تعكسها الصور بل مستمدة من علماء  ادى تطبيقها على المشهد وتطويع الخطاب المنطوق للخطاب المرئي جعل منها تحفا مدهشة وسنعود لأرتوس برتران ولتجربته الجديدة، “هيومن” :الإنسانية  Human.
 
الأفق وعمق الإطار وانعتاق البصر 
هناك شيء بديع وغريب حيّر المخرجين وقام بترويضه ملوك العدسة من مصورين وهو “عمق المشهد” profondeur de champs  أو عمق الحقل. في البداية كانت اللقطة واحدة ثم بتطور العدسات واختراع “الزوم” أصبح داخل الإطار تدرج لعدّة مشاهد غير أن ما يرى في خلف الإطار كثيرا ما يبدو باهتا. باستعمال عمق المشهد أصبح المخرج يتحكم في مكونات اللقطة ليضفي معايير جديدة بدعم العلاقة بين مكونات القطة من أشخاص أو ديكورات والتحكم فيها وهكذا أصبح   تكوين الاطار دعامة الوثائقي الذي لا يلعب على التسطيح بل يستعمل اكتشاف المكونات اعتمادا على تدرج العمق. الدراسات ضافية حول هذا الموضوع منذ أن قام أحد البحاثة بدراسته” عمق المشهد في فيلم” المواطن كين” لأورسن وليس ولنا في فيلم” زوجتي والكلب” تصوير عبد العزيز فهمي  درس في هذا الميدان خاصة في لقطات محمود مرسي وهو متوجه في عمق الإطار نحو المنارة ويخترق سنفونية الأمواج. وقد أدهش فيلم ” النيل أرزاق ” لهاشم النحاس تصوير الرائع رمسيس مرزوق نتيجة عمق المشهد الذي يبرز بوضوح كل مكونات المشهد/النيل.
كما هو الأمر بالنسبة لأفلام القطب الشمالي التي لولا الاعتماد على عمق المشهد لأتت شاشة بيضاء وللباحثين المجال لتعميق هذه الظاهرة.
 
الإضاءة والتنفس البصري 
 
“كلما نصعت الأضواء كلما اشتد الظلام، 
لا نشعر بالنور بدقة إن لم نمارس  العتمة”
جان بول سارتر 
الضوء والإنارة أساس الصورة السينمائية فهي تعدّل أولا الإحساس بالمشهد. منذ أرسطو تُعرّف الصورة بأنها تمازج بين الأنوار والظلال حتى إن كانت بالألوان.
من هنا تأتي التعبيرية “النورانية” كأساس لمحتوى المشهد، محتوى معلوماتي (الوثائقي) ومحتوى سردي (الروائي) ودعامة لتحديد الزمن، ومن هنا تحتدّ حيرة مدير التصوير في استعمال النور والعتمة في الوثائقي والروائي.
في الفلم والوثائقي هناك فلسفتين : فلسفة التصوير الخارجي إذ يحدّد الزمن الفلمي بالنور الطبيعي ـ الشمس. فهو يحدّد التوقيت بتواتر النور بالظلال… من هناك يطوع سحر تعبيرية الإضاءة الطبيعية في البحث عن جمالية المشهد الخارجي، بنايات، شوارع، معمار إلى آخره.. وربّما تكون الإضاءة مطبّا لأنها تدفع المخرج إلى البحث عن مفعول الضوء أكثر من عكس كنه المشهد وتعبيريته خاصّة في الأفلام التي تهتم بالمعمار حيث الظلال المعكوسة تحدّد جمالية المعمار.
أما المشاهد الوثائقية الداخلية فتفرض على الوثائقي اللجوء للإضاءة الاصطناعية (متاحف، اجتماعات سياسية، معارض أزياء وحتى المقابلات الرياضية الداخلية)… وهنا يتدخل الوثائقي في خلق روائيةـ وثائقية خاصة به ويجنح إلى أسلوب الروائي حيث يتدخل في محتوى المشهد باستعمال الإضاءة.
 
أما بالنسبة للروائي فإن الإضاءة هي أحد مكونات السرد، فالإضاءة لها دور مشهدي  يهدّأ من توفّرّ المشهد أو بالعكس يرفع في حدّة الخطاب والعلاقة بين الشخصيات بعضها ببعض أو علاقتها مع الديكور.. خاصة عندما تلتقي الإضاءة مع الموسيقى التصورية (وهو أساس سحر هيتشكوك) وزد على ذلك المؤثرات البصرية التي هي أساس لعبة أفلام الخيال العلمي.
فالإنارة تتحكم في الوثائقي والروائي يتحكم في الإنارة… من هنا الإنارة الطبيعية تعطينا الإحساس بالواقع والإنارة المصطنعة تعطينا الإحساس بالسرد والخيال والمخيال إذ أن كل مشهد روائي يحمل شحنة سردية يضيف لها المشاهد من عنده شحنات أخرى .
 
والفرق في دور الإنارة بين الوثائقي والروائي هو أنها هي أساس بناء الزمن
 على حدّ تنظير الصورة – الزمن لجيل دولوز التي لا نغوص فيها هنا  لبعدها الفلسفي و تقاطعاتها النظرية المتشعبة.
لا نشعر في الطبيعة والحياة اليومية بمرور الزمن إلا بتوالي الليل والنهار، النور والظلام… ولنتصور أنفسنا في السجن بدون نور أو في القطب الشمالي في فصل اليوم الدّائم ولذلك يبقى الوثائقي حبيس الزمن/الضوء الذي يتحرك أمامه عند ما يصور مشاهد خارجية ويتلاعب بالزمن عندما يصوّر متحفا مثلا باستعمال حركة الكاميرا أو تحديد اللقطة وحجمها وخاصة بالموسيقى المسقطة والتعليق أو الحوار…
أما في الروائي الإنارة هي إحدى مكونات السرد فقد تحدّد هي أساس المشهد (داخلي / نهار، خارجي / ليل) ويطوع المخرج الإنارة كالحوار وكالزاوية للإحساس بشحنة المشهد الدرامية. 
الإنارة في الوثائقي ضمان للواقعية والإنارة في الصورة الروائية تحوّل المخيال إلى واقع ويختلط  فيه التمثيل بالتماثل.
نظّر  سرجي إيزنشتاين  لكل  ما أسبقنا حول الإنارة عندما استعمل السُّحب في فيلم “الكسندر نفسكي” ولما كتب  النقاد عن علاقة صيحة الضابط في “المدرعة بوتمكين” ولوحة  إدوارد مونك الصيحة… وفي مسار  لعبة التماثل والتمثيل بالإضاءة يتميز أحد أهم المخرجين العرب الذي طوع  الضوء هو محمد ملص السوري في فلميه “أحلام المدينة”  و”الليل” الذي اعتمد على الإضاءة، اذ أنّ كل تعبيريته كانت مبنية على الإضاءة في “أحلام المدينة” حيث يبدو الكل خارجي في البحث عن متنفس لبطلة الفلم التي تعيش حياة خانقة . وفي “الليل” تخنق العتمة الشخصيات ولما دخل محمد ملص ميدان باستعمال الفديو قال : “سأعتمد على إضاءة سينمائية وليست الإضاءة التلفزية”
فإن كان هناك عامل أساسي في التوحيد والتفريق بين الروائي والوثائقي فهو الإنارة  فإن جنح الوثائقي للسرد فهو يعتمد على الإنارة في المشاهد وإن حاول أن يجنح الروائي للتماثل مع الوثائقي فهو كذلك يستعمل الإضاءة خاصة الخروج بالكاميرا للنور الطبيعي .
 
 اللون والأبيض والأسود 
هل فكر مخترعو السينما في دور  الألوان؟
في البدء كان الهم الأساسي للمخرج  هو نسخ الطبيعة وذلك بدون حبر ولا أزميل  بل بالنور ولذلك في البداية أطلق على التصوير الفوتوغرافي  اسم هيليوغرافيا (الكتابة بالشمس) ثم الفوتوغرافيا أي (الكتابة بالضوء) والمهم أن يكون التطابق بدون وسيط، صورة تعكس طبيعية “بلا رتوش” وكانت الصورة مجموعة من تلاقي أو تناقض  أو تكميل أو طرح الظلال والأنوار على مساحة معينة. أدّت الدراسات الفيزيائية إلى ثبت أن أي صورة بالأبيض والأسود تحتوي على آلاف الدرجات من اللون الأصهب gris وهو ما اكتشفه مخترعي الطابعة اليوم عندما نتحدث عن سلم الأبيض والأسود.
بيد أن ما يثير العجب لحدّ اليوم في عصر السينما البيضاء- السوداء هو كيف يشعر المشاهد بالألوان وهو لا يرى إلا الابيض والأسود … نعم تكوين اللقطة يجعلك تتعرف على لون فستان البطلة هل هو أصفر أو أزرق… غير أن الفلم الوثائقي وهنا يكمن دور اللون، وهو الرهط السينمائي الذي درّب المشاهد على تحسّس تدرج الظلال إذ أن الشجر أخضر، والبحر أزرق والصحراء مصفرة وإلى غيره…
من هنا كان الوثائقي هو الذي كان وراء دربة المتفرج على تحسس اللون من خلال الظلال… 
لكن اختراع السينما الملونة أضاف الكثير للفلم الوثائقي أي أن الألوان حوّلت الوثائقي من الواقع إلى ما أكثر من الواقع واقعية .
 
فالألوان تخلق الدهشة والمتعة البصرية لكن لا تضيف المعنى… في المقابل  يظل الروائي حريص على تكامل المكونات الفيلمية كاملة  ومتناغمة حتى يفجر المعنى والإحساس وليس بالألوان وحده يحصل التعبير ومن هنا يكمن رجوع بعض المخرجين إلى الأبيض والأسود في الروائي، ولا ننسى ذلك الدرس التجريبي الذي قام به صلاح أبو سيف في فيلم “القاهرة 30” حيث باغت المتفرج بلقطة ألوان داخل الفلم المصور أساس بالأبيض والأسود  ليعبّر على الدّهشة .
جلّ الأفلام الملونة لمّا ترجع للتاريخ بطريقة الفلاش – باك (مثل لقطات حرب أكتوبر بفلم العصفور ليوسف شاهين) يجنح المخرج للاستعمال الأبيض والأسود وكأن الماضي أسود والحاضر ملوّن.
هناك فلم حيّر النقاد ومازال ، عندما اكتشفناه في أوّل عرض بمهرجان كان.. وهو فلم يوم خاص لفقيد السينما الأخير أتوري سكولا حيث تدور الحكاية أثناء الحكم الفاشي فكان سبب  الدّهشة أن الفلم ليس بالأبيض ولا بالأسود وليس بالألوان بل هو بألوان سحب منها كل ما هو فاقع فإنك لا تكاد تكتشف لونا على فستان البطلة صوفيا لوران إلا بعض الزهور ذات الحمرة الباهتة من هنا أصبحت الألوان موسيقي داخلية تعبر على زمن الفلم زمن الفاشية أثناء حكم موسيليني.
يبقى أن الوثائقي اختار لنفسه طريقا باللجوء للأبيض والأسود لمقاربة التاريخ إما لتوفر اللقطات بالأبيض والأسود (أفلام الحروب) واعتماد الألوان لأفلام  الواقع والحقيقة وأفلام البيئة في حين أن سوقا فتحت اليوم تتمثل في تلوين الأفلام الخاصة بالحربين العالميتين الأولى والثانية . من هنا يبدو هتلر بالأبيض والأسود غير هتلر الألوان وهو ما أعيبه على فلم “أبوكاليبس” في 6 حلقات انتاج القناة الثانية الفرنسية و تم عرضه في التلفزات الأوروبية بمناسبة  مائوية الحرب العالمية الأولى … وأثارت تلك الأفلام نقاشا حادّا. ويبقى السؤال : ما يضيف هذا التلوين؟
 
وفي المقابل نكتشف انه في حين أن الأفلام الإنجيلية لم تلق سوقا كبيرا إلا بعد أن تدخل اللون كما لعب سيسيل بي ديميل في فيلم “الوصايا العشر” و”بن هور” وحتى أفلام كيلوبترا لم تنجح إلا بعد اختراع  الألوان في السينما . وكيف يكون سحر فلم شادي عبد السلام  “المومياء” بدون ألوان ذلك السحر الذي سنكتشفه في وثائقياته.
ربما يكون اللون إضافة في الروائي لكن الحركة والإطار والنسق هي الأساس وبالنسبة للوثائقي لا يضيف اللون إلا دعما للمشهد وسندا للغرائبية مثل أفلام البراكين والعواصف… وأفلام الحيوانات.
 
***
لقطة متحشرجة
…ومكونات أخرى
كدنا نتيه في تحليل مكونات الصورة  لو تطرقنا لعملية التركيب وتصحيح الألوان، ثم الفرق بين الصورة الفضية والصورة التلفزية وصولا للصورة الرقمية وإمكانية تكسير الشاشة  إلى عدّة شاشات ثم تدخل البرمجيات واستعمال المؤثرات في الرهطين الوثائقي والروائي ودخول الكتابة داخل الإطاركمكون واستعمال الانفوغرافيا والجداول والمجسمات  وهي قضايا أخرى إالى جانب تطابق الصوت بالصورة لكن لنتوقف على مستوى نقطتين أساسيتين وهي من نوع المخاطرة والرهان النظري الذي نرمي به هنا للنقاش كرمية النرد، حتى وإن واجهنا نقدا نرحب به،  وهي أن داخل الصورة صوت خفي وأن في كل صوت صورة في الوثائقي وفي الروائي على حدّ السواء. 
كيف؟
 
لقطة قريبة جدّا
الموسيقى البصرية الخفية
 
” الإخراج السينمائي هو إخراج الصوت”
فرانسوا تروفو
 
يلتقي الروائي بالوثائقي في مقاربة الصورة ببعد جديد وهو موسيقى النسق البصري الداخلي عندما يتفق في داخل الإطار حسب ما يتطلبه الأسلوب الذي أراده المخرج والاجتهاد الذي وصل إليه.
في داخل كل مشهد، وطبعا على مدى كل فيلم، تخفي الصورة موسيقى بصرية ، تشبه الصوت الخفي sotto voci في الأوبرا وهو عنوان أخذه المخرج المغربي كمال كمال لقلمه الجميل شريط أتى كدرس في علاقة الصوت بالصورة  وأهم تجربة تلك التي استعملها المخرج الياباني كانيتو شتندو عام 1966 في فلمه “الجزيرة العارية”(L’île nue )  شريط هزّ العالم والمهرجانات . إذ كان أول فلم في تاريخ السينما الرّوائية  بدون حوار طيلة 90 دقيقة غير أن المتفرج علاوة على الصوت والموسيقى خاصة قرقعة الآلات والخطى وكل و أدوات الفلاحة يكتشف موسيقى بصرية داخل كل مشهد، هذه الموسيقى لا تأتي عن طريق الصوت بل عن طريق استعمال المكونات البصرية رغم أن الفلم كان بالأبيض والأسود وخاصة عن طريق تبادل النظر بين الشخصيات  حتّى اتى الحوار وكأنه مسموع عن طريق تقاطع النظرات وتعبيرية الصورة.
فالعلاقة بين الصوت (أو غيابه) مع الصورة يخلق صورة سردية أخرى تأتي وكأنها مخفيه وراء الصورة الأصلية.
مثال ثان هو الفلم الشهير الذي يعدّ من كلاسيكيات السينما العالمية، “ذراع المرفأ” (la Jetée)  لكريس ماركر فلم  شاعري طوله 28 دقيقة طبقت شهرته الآفاق لما قرّر المخرج كريس ماركر أن يكون الفلم بدون أي حركة إذ أن  كل الفلم أتى في شكل  تتالي صور ثابتة بالأبيض والأسود جامدة، فأتي الفلم الذي تميز بنص شاعري وموسيقى  متميزة بأن الصورة الثابتة تدعو المتفرج للقيام بتحريكها. وقد ختم الفلم بلقطة واحدة تفتح فيها البطلة عينها.هنا يأتي الفلم وكأنه ترسل فلسفي حول الصورة والخطاب وكأنه تقاطع بين الوثائقي والأرشيف والروائي، درس في تحليل كنه  الصورة وماهيتها  بين الروائي والوثائقي مما يجعلنا نشعر أنه لما انطلق المخرج من صورة وثائقية استطاع بالنص والتركيب خلق عالم روائي مدهش.
 
لقطة من فوق
البحث عن الوثائقي
والتوق للروائي : أي مقاربة؟
 
” أصل جاذبية السينما
 تكمن في الخوف من الموت”
جيمس مورسون 
 
هناك ثلاث أرهاط من المخرجين المختصين في الروائي منهم من لم يجرؤ على مقاربة الوثائقي ومنهم من يتخصص في الوثائقي ولا يجرؤ على الروائي ومنهم  مخرج روائي أتى رأسا من الوثائقي أو من أفلام الإشهار مثل جان جاك بينكس، صاحب فلم “2.°37 صباحا” الذي هز الجماهير لأن صوره  كانت قادمة رأسا من أسلوب الإشهار وواصل بأفلامه الشهيرة الأخرى  مثل “ديفا” والذي أبهر العالم كذلك بأفلامه الوثائقية. فكان الوثائقي عنده انتفع على مستوى الصورة من الحس الوثائقي. المثل الثاني هو تجربة فيلم جا ن لوك غو دار “هنا وهناك” Ici et ailleurs  الذي  كان فلما وثائقيا كاملا عن فلسطين دون أن تطأ أقدام المخرج  أي مخيم بل ركب الفلم من لقطات صورتها مجموعة تطلق  على نفسها “مجموعة دزيغافرتوف” أعاد غودار تركيبها وأعطى للصورة بعدا أخر بترجمة الحوار على طريقته وتركيب خاص فخسرت الصورة دورها وتحوّلت من وثائقية الى سردية دون أن نحتفظ  بفحواها الأول.
ومن الأمثال الساندة في التوق للوثائقي من طرف المخرج الروائي وتوق الوثائقي للروائي نقارن قمتين في تاريخ السينما والصورة .
 
أولا : يوسف شاهين وفيلم “الناس والنيل” رغم ما جرى لهذا الفلم من مغامرات  فإن يوسف شاهين لا يعترف في الأول بهذا الفلم الذي أتى في نسختين وصوّر مرّتين غير أن أهم حدث هو لمّا صوّر شاهين تحويل مجرى النيل  فأتي ذلك المشهد أحد أهم مشاهد السينما الوثائقية العربية ويصفة شاهين كما يلي :
 
“اعتقد بأنه من أهم المشاهد التي صورتها حيث أنني استخدمت في تصويره 12 كاميرا وضعت في أماكن متفرقة وكان هناك نحو 500 كاميرا أخرى لتلفزيونات ووكالات أجنبية تصور الحدث. ووقعت في حيرة ماذا لو بدأنا التصوير وتأخر الرئيس عبدالناصر في أن يضغط على الزر ليحدث الانفجار المطلوب لتغيير مسار مياه النيل؟ عندها ستفسد الأفلام التي بحوزتنا دون أن نصور المشهد وجميع المراسلين الاجانب كانوا ينتظرون الاشارة مني للبدء في التصوير، وكان عبدالناصر يتحدث الى ضيوفه ونحن في الانتظار ونعرف اللحظة الحاسمة، وناديت المذيع الراحل جلال معوض وقلت له “روح قول للرئيس عبدالناصر ما يضربش الزرار إلا لما أقوله” وصرخ فيّ عوض “انت مجنون” وشرحت له الأمر وذهب الى الرئيس وأخبره وبالفعل تفهم الرئيس الموقف وبعد لحظات اعطيت الاشارة للرئيس – صارخاً “زرار اكشن” – يضحك شاهين كثيراً – وضغط الرئيس على الزرّ وتم المشهد، حرام ان مشهد زي ده مايتصورش، تصور ان الفيلم عرض في الاتحاد السوفياتي في نحو 25 ألف دار عرض.”(جريدة الحياة 16 جويلية 1999)  هل هناك أفصح من هذا المشهد ليجسد التلاقي والتنافر بين الصورة الوثائقية والصورة الروائية في السينما.
 
كان يوسف شاهين مهووسا بالتوثيق ( صور جنازة عبد الناصر وهجم على مخازن ستوديو مصر ليتحصل على كاميرا، كما صور جنازة أم كلثوم وعبد الحليم حافظ ولم يستغل تلك المشاهد الا في أفلامه الروائية)  ولم يجرؤ يوسف شاهين على الوثائقي إلا في فلمين “عيد الميرون ” (1967)  وفلم القاهرة منورة بأهلها (1990) الذي حذى فيه توجها وثائقيا مصرا على السردية وبقي شاهين حبيس الروائي .وهو الذي له قدرات على الوثائقي حتى أن أرضية أفلامه الأولى فيها نغمة خفية وثائقية صراع في الوادي (والكرنك) صراع في النيل (ومشاهد النيل) باب الحديد (ومحطّة القطارات) فجر يوم جديد (والأهرام) وهو الذي وصل إلى قمة الإبداع في فيلم “الناصر صلاح الدين”حيث اختزل المعارك في توريه ومجاز رهيب لما جعل الشاشة تملأ شيئا فشيئا بالدّم… وهي حيلة حكاها لنا يوسف شاهين حين استعمل  في فيلم الناصر صلاح الدين دولاب سيارة ورمى عليه اللون الاحمر حتى تحمر الشاشة تماما وكأن ساحة المعركة بركة بالدّم وقد استعمل اللقطات الكبيرة على سيقان الخيول لأنه لم يتمكن من الحصول العديد منها وذلك قبل أن يستعمل روبرت بروسن نفس الحيلة في فيلم “المال ” من هنا نرى التقاطع بين الروائي و التوثيقي بالاستنجاد بالصورة.
 
والمثال االثاني  هو العبقري “يان أرتروس برتران ”  في فلميه   هوم(2009) وهيومن (2015) كان الفلم الأول حول عالمنا والأخطار البيئية الذي أتى متعة بصرية ولا تقدر على وصفه  ونطلب من القارئ مشاهدته على اليوتوب وهو سنفونية بصرية تجوب العالم مكونة من صور أخذت من السماء، في كل مناطق العالم مصحوبة بصوت خارجي (off) فأتى الفلم درسا في جعل الصورة توضح النص عكس الأفلام السياحية ومن هنا تكون الصورة ناطقة والصوت أعشى.
أما الفلم الثاني هيومن فهو  انتاج ضخم نزلت فيه كاميرا  أرتوس برتران إلى الأرض وقامت باستجواب 2000 مواطن من خلال 65 دولة أختير منها 110 حديث فأتى هذا الفلم كابن غير شرعي بصري للمخرج حيث أنه عنف نفسه في البحث عن نفس روائي فوجد صورته محبوسة في أسلوبه الوثائقي.
 
هل نواصل الأمثلة؟ 
ربما فاض النص على كأس المقال من هنا نعيد طرح السؤال: الصورة بين الوثائقي والروائي ما هي درجة التنافر ودرجة التلاقي؟
الجواب بسيط : الصورة صورة، هي الرابط الأساسي بين الوثائقي والروائي فالروائي عندما يقف أمام الوثائقي : يجد صورة – وإن كانت مهمشة – تتحكم فيها وسائل التعبير البلاغية من لون وأفق وعمق المشهد والتركيب والزاوية وأن في كل صورة وثائقية حكي وسرد وفي كل صورة روائية وثيقة ومعلومة وتسجيل غير أن أهم رابط بين الصورة الوثائقية والصورة الروائية السردية هو القاسم المشترك: الحركة
عندما عرض أول فلم للأخوة لوميير مارس 29 / 12 /1886  وصدر من اليوم التالي أول مقال يوم 31 ديسمبر في جريدة البريد ما استرعى انتباه الناقد في فلم الطفل وهو  يتناول غذاءه إلا صورة حركة أغصان الشجرة وصاح : “الأشجار تتحرك في الصورة وبالحركة وهكذا عن طريق السينما لم يعد الموت أزليّا” وهكذا سميت السينما سينماتوغراف Cinématographique أي عملية الكتابة بالحركة. يقاوم كل من الوثائقي والروائي، من خلال الصورة، وبتطويعها، الموت الأزلي  بالاعتماد على الصورة/الحركة بحثا على الازلية بالصورة / الزمن .
 
المراجع بالفرنسية  
 
• ALLOA Emmanuel, BOEHM Gottfried, MONDZAIN Marie-José, NANCY Jean-Luc, Penser l’image, Presses du réel, 2011. 
• ALLOA Emmanuel, (sous la direction de) Penser l’image – volume 2 – anthropologies du visuel, Presses du réel, 2015. 
• AUGÉ Marc, DIDI-HUBERMAN Georges, ECO Umberto, L’expérience des images, INA Editions, 2011. 
• AUMONT Jacques, L’image, Armand Colin, réédition, 2011. 
• BARTHES Roland, Mythologies, Points Seuil, réédition 2010.
 
• BONNET Eric (sous la direction de), Esthétiques de l’écran – Lieux de l’image, L’Harmattan, 2013. 
• CONSTANTINI Michel, SOULAGES François, LE RIDER Jacques, La couleur réfléchie, L’Harmattan, 2001.
• CHARBONNIER Louise, Cadre et regard, généalogie d’un dispositif, L’Harmattan, 2007. 
• DAGOGNET François, Philosophie de l’image, Vrin, 1984.
• DAMISCH Hubert, L’origine de la perspective, Flammarion, 1993.
 
• DARRAS Bernard, Images et sémiologie – Sémiotique structurale et herméneutique, Publications de La Sorbonne, 2008.
 
• DIDI-HUBERMANN Georges, Devant l’image, Ed. de minuit, 1990. 
• DUGUET Anne-Marie, Déjouer l’image, Chambon, 2002.
• DUPRAT Annie, Images et Histoire. Outils et méthodes d’analyse des documents iconographiques, Belin, 2007. 
• EDELINE Francis, KLINKENBERG Jean-Marie, MINGUET Philippe, Traité du signe visuel : pour une rhétorique de l’image, Ed : Groupe µ (Liège) – Seuil, 516 p, 1992.
• GENIN Christophe, HUYGHE Pierre-Damien, TOMA Yann, JUHASZ Pierre, Images et esthétique, Ed de La Sorbonne, 2007. 
• GENIN Christophe, Déconstruire l’image, Ed de La Sorbonne, 2012. 
• GERVEREAU Laurent, Voir, comprendre, analyser les images, La Découverte, 2004..
• GERVEREAU Laurent, Dictionnaire mondial des images, Nouveau monde, 2006.
• GIORDANI Robert, La perspective dans l’image, Dujarric, 2002.
 
• JOLY Martine, L’image et son interprétation, Armand Colin, 2005.
• JOLY Martine, Introduction à l’analyse de l’image, Armand Colin, 2e édition 2009.
• JOLY Martine, L’image et les signes, Armand Colin, réédition 2011.
• JUHEL Françoise, JOLY Martine, GOLIOT-LETE Anne, VANOYE Francis, Dictionnaire de l’image, Vuibert, 2e édition, 2008. 
• LAMBERT Frédéric, Je sais bien mais quand même. Essai pour une sémiotique des images et de la croyance, Editions Non Standard, 2013 
• LECONTE Bernard, Lire l’audiovisuel – Précis d’analyse iconique, L’Harmattan, 2001.
• McIVER LOPES (Dominic), BLANC-BENON (Laure), MORIZOT (Jacques), Comprendre les images, , PU de Rennes, 2014.
• MINOT Françoise, Quand l’image se fait publicitaire. Approche théorique, méthodologique et pratique, L’Harmattan, 2001.
• MITCHELL W. J. Thomas, Iconologie – Image, texte, idéologie, Traduit par Maxime Boidy et Stéphane Roth, Les Prairies Ordinaires, 2009. 
• PAYE Jean-Claude, L’emprise de l’image. De Guantanamo à Tarnac, Ed : Yves Michel, 2011• VAN DAMME Charlie, CLOQUET Eve, Lumière actrice, FEMIS, 1987.
• VAUDAY Patrick, L’invention du visible, Hermann, 2008.
• VETTRAINO-SOULARD Marie-Claude, Lire une image, analyse de contenu iconique, A. Colin, 1993.
• ZABUNYAN Dork, (sous la direction de)Que peut une image ?, Paris, Les carnets du BAL, 2014.
 
 المراجع بالعربية 
جيل دلوز – الصورة- الزمن ( ترجمة حسن عودة-
 منشورات وزارة الثقافة – دمشق -1999 
جيل دلوز – الصورة- الحركة ( ترجمة حسن عودة)-
  منشورات وزارة الثقافة – دمشق -1999 
رولان بارت – الغرفة المضيئة- تأملات في الفوتوغرافيا _ ترجمة هالة نمر- المركز القومي للترجمة- القاهرة-  2010.
 
الأفلام المذكورة في الدراسة على اليوتوب 
الأفلام العربية
الناس والنيل – اخراج يوسف شاهين-  1972
https://www.youtube.com/watch?v=Yr9ngfnlMgQ
زوجتي والكلب- اخراج سعيد مرزوق-   1971 
https://www.youtube.com/watch?v=RMObuFfn70o
الناصر صلاح الدين – اخراج يوسف شاهين  1963 
https://www.youtube.com/watch?v=KAmg7wpIRaw
القاهرة ثلاثين -أخراج صلاح أبوسيف –   1966 
https://www.youtube.com/watch?v=6pEC1VyAXgk
النيل ارزاق- اخراج هاشم النحاس- 1973 
https://www.youtube.com/watch?v=Soa9RoCAXY8
 
الموميا -إخراج شادي عبد السلام-  1969 
https://www.youtube.com/watch?v=l5aqoTU4WRA
 
 
 
الأفلام الاجنبية 
الجزيرة العارية  كانيتو شندو- اليابان 
l’île Nue de Kaneto Shindo .avi – YouTube
▶ 11:03
https://www.youtube.com/watch?v=ZygI8NqbjNM
 ذراع المرفأ- كريس ماركر – فرنسا 
 
Chris Marker, La Jetee, 1962 – YouTube
▶ 1:24
https://www.youtube.com/watch?v=6anMLFwHFqs
هوم_ يان ارتوس – برتران-فرنسا
HOME – YouTube
▶ 1:33:18   Yann Arthus – Bertrand 2009 
https://www.youtube.com/watch?v=jqxENMKaeCU
هيومن – يان ارتوس – برتران-فرنسا 
HUMAN VOL.1 – YouTube
▶ 1:23:20 Yann Arthus – Bertrand 2015
https://www.youtube.com/watch?v=FLqft-ICVQo