جماليات الصورة

لقطة ��ن فيلم "ملح الأرض"

الحبيب الناصري

تحديد منطلقات الرؤية/الدراسة.

       تهدف هذه الرؤية/الدراسة، إلى نوع من البحث في درجة حضور الصورة، كمعطى بصري جمالي دال في السينما بمكونيها الروائي والوثائقي، على الرغم من كون “التمييز” هنا بين الروائي والوثائقي، بدأ يخلخل في العديد من التجارب السينمائية. خلخلة من الممكن الرهان عليها كملمح تجديدي فني، هادم للحدود الموجودة داخل السينما، بل هدم هو اليوم “مرغوب فيه”، في ظل رؤية نقدية معرفية ثقافية إنسانية دالة.

  وفق المتداول النقدي، سنحاول، أن ننطلق من عدة نظرية مفاهيمية، الغاية منها، توضيح طبيعة الرقعة التي سننتسب إليها في هذه الدراسة وهي كالتالي.

1/ درجة “السينماتوغرافيا”، كمكون مميز للسينما الروائية والوثائقية، مستمدة فعلا من الوعي بهذا التوظيف الخاص بالصورة.

2/ كلما تم فسح المجال للصورة كي تقول قولها، كلما أمسكنا بمكون سردي/بصري جمالي دال.

3/ توظيف الصورة الموحي بالشاعرية، كمكون جمالي دال في الخطاب البصري.

4/ الصورة كمعطى مساهم في التربية البصرية المولدة لروح التلذذ، والمبعدة لكل تجليات العنف بشقيه المادي والمعنوي.

5/ توظيف الصورة الموحي والمولد للرغبة في قراءات عديدة قادرة على خلق مايلي.

ا/ حالة التماهي، ونقصد بها حالة حلول الذات المشاهدة (بكسر الهاء)، في الذات المشاهدة(بفتح الهاء).

ب/ خلق أفق انتظار، و”تعليق” مؤقت للمشاهدة من أجل استحضار نماذج أخرى للمقارنة.

ج/ مساهمة تعدد القراءات هاته، في التربية النقدية والتربية على اختلاف الرؤى وزوايا النظر، لاسيما في مجتمعات مثل مجتمعاتنا العربية حيث فعل التربية هنا، لا يساهم في تحقيق هذه الوظيفة، بقدر ما يساهم في ترسيخ القراءة الأحادية للعديد من المتون.

6/  كلما تم التوظيف البصري/الجمالي للصورة، وجعلها مولدة للمعاني و/أو الدلالات، كلما أتيحت الفرصة للمتلقي لتوليد صوره الخاصة، أي “إنتاج فيلم ثان على هامش الفيلم المعروض”، وهو ما يمكن أن يساهم في تحقيق “السعادة البصرية” للمتلقي.

   ضمن هذه الرقعة النقدية/الثقافية/الإنسانية، سنحاول الاقتراب من مجموعة من العوالم الفيلمية الروائية والوثائقية. هي رقعة تم تركيبها/بناؤها، من خلال مخزون التلقي الذي راكمناه، سواء كمتلقين لفعل الإبداع البصري، بشكل عام، والسينمائي بشكل خاص، أو من خلال العديد من الدراسات والبحوث التي نشرناها سابقا وحاولنا من خلالها القبض على عناصر/عدة نظرية ومفاهيمية، نعتبرها تشكل إطارا عاما لكل قراءة فيلمية بصرية مولدة لكتابة لا تخلو من حس  نقدي وفني مساهم في تطوير المعرفة الفكرية المولودة من رحم الفنون ككل، والسينما على وجه الخصوص.

حول المتون السينمائية المختارة.

       السينغال وسوريا  ومصروالمغرب وإيران  وفرنسا والبرازيل وإيطاليا، دول، عينة لمتوننا السينمائية المختارة. عينة تجمع تضاريس وجغرافيات سياسية وثقافية وفنية مختلفة، لكنها هنا ستشكل عينتنا التي سنستمتع بقراءاتها، عينة قد تكون متنافرة من الناحية الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية والثقافية واللغوية الخ، لكن لغة السينما توحد ما هو متنافر سياسيا، والسبب بسيط في اعتقادنا المتواضع، لأننا هنا نتكلم عن هذا الواقع بلغة الفن، مما يجعل ما هو متنافر في الواقع يصبح جميلا ودالا في رقعة الفن والجمال.

الحكي بلغة الاستعارة البصرية(عناصر أولية).

     سنة 1962، تمكن  المخرج الإيطالي باولو بازوليني(1)، أن يقدم للعالم، فيلمه “ماما روما” كفيلم روائي مطول، لكنه اليوم لايخلو من حس وثائقي. فيلم “ماما روما” ظهر في سياقات تاريخية سياسية ودينية واقتصادية وثقافية،  من الصعب فهمها خارج شرط انقسام العالم آنذاك إلى معسكرين متضادين وهما المعسكر الشرقي المتشبع بالمد الاشتراكي/ الشيوعي، والمعسكر الرأسمالي الليبرالي. ضمن هذه السياقات، وضمن التشبع بالثقافة اليسارية، والتمرد عليها في الآن نفسه، يمكن موقعة أعمال بازوليني المخرج الإيطالي المسكون بروح التمرد ليس في عالمه الشخصي، بل حتى ضمن عوالمه الفنية السينمائية التي بصمها بلمسة من رؤاه الفكرية، وما “ماما روما”، إلا ذلك النموذج المخلخل والنابش في متون الحياة الإيطالية الرأسمالية التي علبت كل مكونات الحياة على اعتبار أنها قابلة للبيع بما في ذلك الجسد الأنثوي. بطلة الفيلم المسماة “ماما روما”، ترغب وهي في منتصف العمر التخلص من المتاجرة بجسدها والالتفات إلى ابنها الذي أهملته والتائه في هوامش زمكانية إيطالية. التفاتة هادفة إلى انتشاله من مظاهر العنف الدال، ومن تم رغبتها في جعله يكتسب لقمة عيش حلال. هل من الممكن أن نجعل من هذا  الجسد الأنثوي الراغب في  التخلص من المتاجرة في نفسه، ذلك الملمح الهادف إلى نقد و/أو نقض الرأسمالية في بعدها المادي غير “المؤنسن”؟. أليس أيضا في موت  ولد “ماما روما” في المستشفى بالحمى في تلك الصورة “المحيلة” على المسيح عليه السلام، كما هي في صوره المعلقة بالكنائس المسيحية، ما يفيد على تفكيك تلك البنى الدينية  المسيحية المؤطرة للغرب الرأسمالي؟.

    أليس أيضا في تلك الصورة المدينية “من المدينة”، التي كررها المخرج والمبينة لرغبة بعض الرجال في “نهش” جسد “ماما روما” دون انتباه لحالتها النفسية الممزقة والرافضة لما كانت عليه، بمثابة إدانة لروما/إيطاليا، وعبرها كل ذلك العالم الرأسمالي الذي قام ب”تبضيع” و”تعليب” كل مكونات الحياة المادية والمعنوية؟ .

     بلغة صامتة في العديد من المشاهد، تمكنت “ماما روما”، من خلخلة البنى المادية لمجتمعها، راغبة وبطريقة ضمنية في العودة إلى “قيم” الريف حيث فعل الطهر والبعد الجمالي للإنسان بكل عفوية وإنسانية.

      في نموذج آخر، وهو فيلم “المخدوعون” (1972) (2)، من إنتاج المؤسسة العامة للسينما بسوريا،  لمخرجه المصري المرحوم، توفيق صالح، عن رواية الكاتب الفلسطيني غسان كنفاني “رجال في الشمس”، وبثنائية الأبيض والأسود، وهو فيلم يعالج هروب ثلاثة أشخاص فلسطينية (ممثلة لثلاثة أجيال)، من عنف الحياة بالمخيمات الفلسطينة… استطاع المخرج أن يوظف لغة السواد، من خلال الخزان المائي الذي خبأ فيه أبو الخيزران قائد الشاحنة. هذه الشخوص الفلسطينية الهاربة نحو لكويت فضاء الحلم. تهريب  تهجير كان مصيره الموت خنقا في هذه الشاحنة المائية السوداء. نفس السواد، كتبت به عبارات نضالية دالة على العودة والالتصاق بالقضية في تلك المخيمات الفلسطينية التي تغيب فيها إنسانية الإنسان. وتتعمق أسئلة/انتظارات/حلم العربي، ككل حينما تتجول بنا كاميرا المخرج في مياه دجلة والفرات، مياه ونخيل مصحوبان بطرب عراقي عربي أصيل، مجيب عما تلقاه ابن قيس في مدرسته. مدرسة كان أستاذها سليم (لنلاحظ البعد الدلالي لهذا الاسم)، مخلخلا لإيقاعات الساكنة حينما طلب منه أن يصلي بالناس مثل ما كان يفعل المدرسون السابقون، حيث يرفض بحجة أنه لا يصلي، ولكن يعرف القيام بأشياء أخرى مثل محاربة العدو، وفعلا ذلك ما كان،  حيث مات الأستاذ سليم مستشهدا ضد العدو.

        في فيلم ” لافرانس”  الروائي، لمخرجه السينغالي ألان غوميس(2001 ) (3)، والذي يحكي عن طبيعة مآسي الهجرة الإفريقية  في فرنسا، نستمتع في مشهدين بصريين دالين، ويتعلق الأول باستعارة الماء من أجل الاغتسال من ظاهرة الميز العنصري، والرغبة في العودة إلى الجذور الإنسانية التي تجمعنا جميعا كبشر فوق هذه الأرض. حضور الماء كان من خلال الشخصية الرئيسية للفيلم،  الطالب السينغالي/الإفريقي، صاحب اللون الأسود، حيث كلما أصيب وعاش ميزا عنصريا في حياته اليومية، يعود إلى بيته، ويستحم، بل ويبدأ في التفريغ الكلامي تحت رشاشة الماء. نفس الشيء وبنظرة إخراجية ممتعة، ستطوف بنا الكاميرا أثناء غسل  الأيادي، لتبدو لنا تلك اليد السوداء وحدها داخل أيادي بيضاء عديدة. قمة توظيف اللون هنا، ودلالاته السيميولوجية الدالة، ستصل ذروتها أثناء عودة الإبن إلى السينغال، هنا سيكون حوارا ممتعا بينه وبين الأب، في فضاء مفتوح وتحت شجرة عريقة(عراقة الأرض والإنسان والمكان)، ذات جذور ضاربة في الأرض/القدم، وفوق كراسي خضراء، سيعلن الإبن عن عودته وبقائه في قريته، وسيختار مهنة التدريس كأفق فكري و”توعوي” به من الممكن إخراج قريته/بلده من العماء الفكري، والرغبة الدائمة في الاعتقاد بأن الحل هناك، أي في فرنسا. فرنسا التي لا تسعى إلا لتحقيق متعها السياسية والمادية، وهو ما تمثله الشابة/الطالبة الفرنسية، والتي كان همها فقط تحقيق متعها عبر الجسد الإفريقي.

     الاقتراب من نموذج آخر من السينما الإفريقية في شقها الشمالي وبالضبط في المغرب، ومن خلال فيلم “السمفونية المغربية” لكمال كمال(2005) (4)، سيجعلنا  نفككك وبشكل مكثف لمكون بصري جميل ودال في هذا الفيلم، لاسيما وأن هذا المخرج الآتي إلى عوالم السينما من مجال أكاديمي وفني وموسيقي خصب، إذ أن معظم أعماله ذات نفس موسيقي وتشكيلي وفني عام، مثل فيلمه السينمائي الأخير “الصوت الخفي”، أو فيلمه السينمائي الآخر”طيف نزار”  حيث لامس فيه تيمة الاعتقال السياسي، أو حتى فيلمه التلفزيوني “الركراكية” عن حياة فنانة تشكيلية مغربية كانت محبة وممارسة للرسم في سياقات اجتماعية أسرية مغربية محافظة مانعة للرسم باعتباره مظهرا ثقافيا غربيا.

      في فيلم “السمفونية المغربية”، الذي هو مستمد من طبيعة رؤية/مشروع، كمال كمال السينمائي المستمد بدوره من رؤية موسيقية جمالية دالة، نجد هذا المخرج قد استطاع الكتابة بالصورة في مشاهد عديدة من فيلمه هذا، فعلى سبيل المثال، وفي ربط فني وبصري وجمالي دال، وعلى إيقاعات أغنية المجموعة  المغربية الشعبية “جيل جيلالة ” “دارت بنا الدورة”، في مشهد ليلي، و في مكان هامشي مفتوح يسكنه مهمشو فيلمه الحالمين بالهجرة عن طريق “الرغبة في مشاركة موسيقية عالمية”، وبحكم هذا الوضع الاجتماعي الصعب لهذه المجموعة الحالمة بالهجرة، وهي لا تملك إمكانات المشاركة هناك، استطاع المخرج وبالموازاة مع غناء هذه المجموعة المهمشة في الفيلم لأغنية “جيل جيلالة” “دارت بنا الدورة”، وبتوزيع موسيقي لا يخلو من لمسة موسيقية خاصة بهذا المخرج، أن يرسم دائرة ووسطها هذه شحصيات فيلمه، وكلما تقدمت في الغناء، كلما اشتعلت الدائرة بالنار، في مشهد نعتبره قيمة فنية وجمالية ممتعة في السينما المغربية بل العربية ككل، ولم لا العالمية، لاسيما والدائرة هنا لها بنيتها الدالة والمحيلة على التيه والحصار الاجتماعي.

      في الفيلم الفرنسي الوثائقي المطول، “جون لوك غودار، عرض الفوضى”،(2012) (5)، لمخرجيه،سيلين كييورد / أوليفيي بولير، فيلم استطاع خلخلة انتظارات المتلقي من خلال، ما تميزت به أعمال غودار موضوع الفيلم. رحلة تميزت بالبحث في طبيعة العلاقة الموجودة بين أشياء غير متعالقة أصلا. ما الذي يقارب أو يجمع بين معادلة فيزيائية و صورة الأم التي تغذي أو تطعم وليدها بثديها؟. أكيد أن الفيلم بني على فكرة البحث في المتناقضات، وبلغة بلاغية، البحث في طبيعة الانزياحات التي  تولدها الصورة في بعدها الجمالي. يكفي جولة واحدة، في المتحف الجامع لهذه الأشياء المتناقضة والمتباعدة وكيفية وضعها في جانب ما من هذا المتحف، يعطينا فرصة البحث عن قراءة ما، أي ضرورة أن نجد خيطا دالا على أن هناك ما يجمع بين هذه المتناقضات الغريبة. خلاصة الفيلم، هو تعلمنا لكيفية تجاوز المرئي نحو اللامرئي.

       وتعميقا لهذه الوظيفة البلاغية الباحثة في الهوامش والمتناقضات، نجد  حكيم بلعباس المخرج المغربي في فيلمه “ثقل الظل”، وهو فيلم وثائقي مطول (2015) (6)،  قد استطاع  أن يستمر في نبشه عبر الصورة، وضمن ما يمكن تسميته ب”لذة الألم”(7)، حيث خلخل ملف الاعتقال والاختطاف الذي كان سائدا ضمن ما يمكن تسميته بالأدبيات السياسية بالمغرب، بسنوات الجمر والرصاص، وهو جزء من تاريخ المغرب السياسي الحديث، الذي بدأ التعايش معه من خلال استحضاره في العديد من الأفلام الروائية والوثائقية والمسرحيات والروايات الخ.

    في فيلم “ثقل الظل”، يوظف المخرج مجموعة من الاستعارات البصرية الدالة، فحينما ضاق به أمر “با علي” الرجل المسن الذي لا زال ينتظر مصير ابنه المجهول، ولمدة سبع وثلاثين سنة، لم يجد حكيم بلعباس متنفسا بصريا إلا من خلال توجيه كاميراه إلى عالم النمل، حيث سعادة ونظام النمل، بل تصل ذروة “التفريغ” هاته، حينما ينفلت من قبضة المحكي العنيف من طرف الأب الذي وبلغة الحق في معرفة مصير ابنه، نجد المخرج يتجه إلى لغة الطبيعة حيث جمال الورود والفراشات… متعة بصرية غير موجودة في هذا العالم السياسي العنيف وغير الرحيم.

     تكاد هذه التوظيفات الصورية (من الصورة) الجمالية، تحضر في معظم أعمال حكيم بلعباس، بل من الممكن اعتبار متونه السينمائية الروائية و/أو الوثائقية، بمثابة النموذج الذي تغيب فيه الحدود الموجودة بين الروائي والوثائقي. أعمال تتحول فيه الهوامش الجغرافية والمادية والبشرية الخ، بمثابة شخصيات لها قيمتها البصرية الدالة، ففي فيلمه المطول”خيط الروح” (8)، مثلا، يتحول اللون الأخضر إلى لغة دالة على البعد المكاني الديني في مدينة أبي الجعد (مدينة تاريخية وسط المغرب)، الصغيرة والمعروفة ببعدها الصوفي. هو لون، وبلغة باشلار الفلسفية، سيصبح بمثابة شخصية جمالية دالة وموجهة لبناء الحكي في هذا العمل.

     في نفس السياق، الخاص بأعمال حكيم بلعباس، سواء تعلق الأمر بفيلمه الروائي/الوثائقي “علاش ألبحر؟” أو سلسلته الوثائقية “هذه الأيادي” أو  في فيلميه الوثائقيين المطولين، “أشلاء” و”محاولة فاشلة لتعريف الحب” الخ، نكاد نعثر على خيط رابط بين جميع أعماله هاته، ويتعلق الأمر بهدم الحدود الفاصلة بين الروائي والوثائقي، وضمن رؤية توظيف متعة الصورة البصرية الدالة وفق مجموعة من العناصر الفنية والتي نفضل تقديمها على هذا الشكل.

ا/  جعل الوجوه الأليمة تقول قولها بلغة الصمت، بل تضاريس وتجاعيد وفعل الزمن فيها، يجعلها في الكثير من الأحيان جد دالة، مثال وجوه فيلم “أشلاء” و”علاش ألبحر؟” و”محاولة فاشلة في تعريف الحب” وثقل الظل”. كلها وجوه تكشف عن خبايا التهميش الخ، بل بعد تقديم هذه الوجوه الصامتة والحزينة، يصوب كاميراه نحو الأيادي التي عادة ما نجدها “متداخلة ومتشابكة”، لينتقل فيما بعد إلى الأشياء الموجودة في ركن ما من البيت والتي بدورها تسير وفق نفس التوجه، مما يعطينا في نهاية المشهد، مثلا، ما أسميته سابقا، ب”لذة الألم”، لذة يجعلها تتنفس فسحة أمل بهروبه إلى تجليات طبيعية أو توظيفات موسيقية شعبية دالة.

     في انتقالنا لوجهة سينمائية وثائقية أخرى، وهي إيران من خلال تجربتين مختلفتين، ويتعلق الأمر هنا بالفيلم الأول  الوثائقي “أرض بلا غناء” لمخرجه آيات نجفي (2014)(9)، فيلم تمحورت موضوعاته حول “تحريم الموسيقى”، لاسيما حينما يتعلق الأمر بإقامة مهرجان موسيقي عالمي مختلط، في عمق الفيلم، سنعيش رحلة زمكانية متنافضة بين فرنسا وإيران. بين بلد الحريات الموسيقية والفنون الخ، وبين إيران، حيث تراجع هذه الفنون في ظل مجيء الثورة الإيرانية، والتي كان إمامها وزعيمها منفيا في هذا البلد الفرنسي. من أجل إقامة حفل موسيقي عالمي مختلط على مستوى العازفين، وعلى مستوى إقامته أيضا في قاعة مختلطة، وطبيعة الصعوبات والعراقيل السياسية والفقهية والإدارية الخ، ستنجح أستاذة الموسيقى الإيرانية (وهي أخت المخرج)، في خلخلة هذه البنى المعقدة، وسيقام الحفل وسيغني الجميع، ذكورا وإناثا، بل ستتحقق متعة نفسية كانت معطلة عند الجميع، ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية استطاع مخرج هذا الفيلم الوثائقي، أن يدخلنا في استعارة عقد المقارنات المكانية والزمنية والشخوصية والحدثية الخ، بين فرنسا وإيران، بل حينما نتتبع، صورة المدرسة للموسيقى كأنثى في رحلتها بين فرنسا وإيران، تتضح لنا طبيعة وتمثلات الجسد بين البلدين.

    وإذا انتقلنا إلى الفيلم  الإيراني الثاني وهو فيلم روائي مطول لمخرجه جعفر بناهي، ” طاكسي طهران” (2015)(10)، وهو من كتب ومثل في هذا الفيلم، سيجعلنا نستمتع بالعديد من المتع البصرية الزمنية والمكانية والشخوصية، حيلة فنية تجعلنا “نتلصص” معه على طبيعة المشاكل اليومية للركاب/المواطنين، وصلت ذروتها الاستعارية، حينما امتطت الطاكسي، امرأتان كبيرتا السن وواحدة منهما تحمل “زجاجة مائية فيها سمكة حية”،  كإحالة دالة على المخرج بنفسه، أو على طبيعة نظرته هو إلى مجتمعه الإيراني المنغلق الخ. يتضح هذا جليا في انكسارهذه الزجاجة المائية بفعل توقفه، مما جعل هذه السمكة مهددة بالموت، هنا استطاع سائق الطاكسي (المخرج)، إنقاذها بوضعها في كيس بلاستيكي مع إضافة القليل من الماء، ليجعلنا بصريا نعمق قراءتنا لهذا الفعل الدال على التمسك بالحياة على الرغم من فعل العنف. وضمن نفس الفيلم، سنستمتع بجمالية الطفلة/التلميذة، التي فتحت حوارا مع السائق/الأب، حول مفهوم الواقع سينمائيا، لاسيما وقد تعلمت في مدرستها  بضرورة أن لا تصوره إلا في سياقه الأخلاقي المعياري الجميل، بينما السائق/ الأب حاورها من زاوية تصويره حتى سلبيا وليس دوما إيجابيا.

      في “ملح الأرض”  (2015)(11)، الفيلم الفرنسي/البرازيلي الوثائقي المطول، لمخرجيه جوليانو ريبيرو سالغادو بالإضافة إلى ويم ويندرس، نتتبع خطى المصور العالمي المشهور سيباستيو سالغادو، على امتداد أربعين سنة. رحلة الاشتغال على الصورة وبالصورة. نبش في ما تراه عيون هذا المصور الذي عشق الفوتوغرافيا، وجعلنا نطل ومن خلاله، على ما تعيشه أرضنا التي هي فعلا أرض جميلة وممتعة لكن وحده الإنسان من حولها من هذه المتعة الدالة، إلى حروب ودمار وتخريب.

      على امتداد 110د، استطعنا أن نسافر بعيونه “الفوتوغرافية”، إلى إفريقيا الجريحة والمثقلة بحروبها ومآسيها ومجاعاتها وانقلاباتها التي لا تنتهي، إفريقيا الغنية بثرواتها ومواردها البشرية الفتية وخصوبة ثقافتها، تصبح هنا، وبلغة الأبيض والأسود، كإدانة لما شاهده المصور، بمثابة قارة جائعة ومذبوحة وفق معيار القبيلة والعرق والدين والسياسة…مدارس احتمت بها النساء والأطفال والشيوخ، فكانت النتيجة، “جماجم منتشرة داخل هذه الأقسام”، لكن وفي هذه الصورة المصورة من زاوية داخل القسم، في اتجاه مبين لهذه الجماجم، تتجه بنا آلة تصويره نحو ضوء آت من نافذة، لعله الغد الإفريقي المنتظر، بل لعله خيط أمل مولود من رحم هذه الحروب العرقية/الدينية الخ.

    من إفريقيا، ومرورا بالبرازيل وفي اتجاه العديد من بقاع العالم، التي عرفت حروبا وتخريبا لجمال الله فوق هذه الأرض، جالت بنا “فوتوغرافيات/جماليات”، سيباستيو سالغادو، لكن الخيط الرابط هنا، هو تساؤله عن أسباب هذه الحروب، بل تساؤله عن تخريب هذا الكوكب الأرضي الجميل حتى على مستوى مكوناته الطبيعية؟.

    وحده الجشع، والبحث عن الربح، ووحشية الإنسان…من كان وراء كل هذه المظاهر غير الإنسانية، مما جعله هو وأسرته، يقدمون جوبا بصريا جماليا طبيعيا، يتجلى في غرس المستقبل، أي غرس عشرات الآلاف من الأشجار في جبال برازيلية عديدة، كلغة دالة على إمكانية استرجاع ما ضيعته وحشية الإنسان. هندسة مستمدة من صور فوتوغرافية في حوزة الأب والأسرة لما كانت عليه الجبال من خيرات الخ، راحت هي منطلق زرعها، في خطوات مذهلة ومقارنة بين ما كانت عليه وما أصبحت عليه.

       بلغة الأبيض والأسود، وحدوثات نابشة في رحلاته، وما “اصطادته” عيونه الذكية الموحية والمولدة لصور، تجعلك تصبح جزءا منها وباحثا عن دلالاتها… استطاع الرحالة/المصور، سيباستيو سالغادو، أن يمتعنا بصوره، حتى وإن كانت فعلا مؤلمة، لكنها شهادة وشاهدة على عنف الإنسان في حق أرضه وأخيه. رحلة أربعين سنة من “صيد” الصور، تجعلك تتلذذ هذ الرحلة، لاسيما وهي موثقة ومنذ أن كان شابا مرحا في مدرجات الجامعة، إلى أن اشتعل رأسه شيبا. رحلة دالة على رغبته في معرفة وفهم وتحليل وتركيب وتأويل هذا العالم بلغة الفن/الجمال، وهي هنا ثنائية الفوتوغرافيا، كصورة ثابتة و صورة الفيلم الوثائقي كصورة متحركة، (اشتغال الصورة الوثائقية على الصورة الفوتوغرافية).

     مادة العنف، بكل رموزها المادية والرمزية، كانت تشكل متنا محكيا بالصورة في أعمال هذا المبدع العالمي، بل كلما ثقلت آلة تصويره بعنف الواقع في العديد من بقاع هذا العالم، كانت الإجابة/المتنفس، وبلغة بصرية استعارية، في أمكنة أخرى من هذا العالم، عبر مستويين اثنين.

الأول، وهو البحث عن أماكن فطرية لازال العيش فيها كما هو في بعده “البدائي”، مما يوحي برغبة المصور، في إبقاء هذه الأماكن ومن وجهة نظر أنتروبولوجية، كما هي، لاسيما و”تحضر” الإنسان لم يجذب إليه إلا الهلاك والخراب في مواقع عديدة من هذا العالم، (تذكيرنا بالأصل في الحياة).

الثاني، البحث عن أماكن بيئية طبيعية لم تقترب منها يد الإنسان المخربة، هنا نجده يتنفس حرية التصوير والقبض على جزيئات حيوانية ونباتية الخ، باعتبارها كائنات ممتعة وجميلة ودالة على كونها لا زالت منفلتة من يد الإنسان، بل تتحول هذه الصور إلى فعل شعري/ تشكيلي دال.

 تراكيب دالة.

      بناء على هذه القراءات المتنوعة وفي قارات سينمائية مختلفة زمكانيا وفنيا، يتولد السؤال النوعي  الموالي والمحدد في كيفية قول الفعل السينمائي سواء كان روائيا و/ أو وثائقيا؟.

     مهما كانت واقعية و/أو تخييلية الواقع الذي نعيشه، فبمجرد عزله وفصله من تراتبية أحداثه كما هي، نصبح أمام “لعبة” فنية، الغاية منها محاولة تقديم واقعية سينمائية(12) ، لها مدلولها و”منطقها”.

    وحدها السينماتوغرافيا، المولودة من رحم التوظيف الدال للصورة، وجعلها تقول قولها وفق “منطقها”  الدال والمحيل على تعدد التلقي المتنوع والموقف للحظة “الرؤية” من أجل استحضار نماذج منتمية للمشاهد، كيفما كانت مرجعيته الثقافية والاجتماعية والنفسية، من أجل أن يقوم ببناء عوالمه “الصورية” من “الصورة”، في أفق أن يتملك “رؤياه”…فوحدها السينماتوغرافيا، إذن، هي ما يمكن أن يمنح الخطاب السينمائي الروائي و/أو الوثائقي، متعته هاته. وفق هذه الاستعمالات يمكن فهم لماذا نحن في أمس الحاجة إلى متون سينمائية روائية و/أو وثائقية، دالة  وقادرة على خلق لحظة “حلم” (الحلم بالصورة)(13). هنا تتحقق المتعة البصرية الوجدانية، ونمسك ببعض العناصر الفنية والجمالية التي تبقى “خالدة” في فعل التلقي.  بل لحظة”سعادة”، مما جعل النقاش اليوم، وبحكم  البدء مؤخرا في ربط متعة السينما ب”السعادة”، يسير في اتجاه المناداة بجعل السينما غير تابعة لقطاع الثقافة أو الاتصال الخ، بل هي اليوم “ينبغي” أن تنسب، في نظر البعض، لقطاع الصحة، بحكم وظيفتها الجديدة اليوم، والمتعلقة بالبحث عن إسعاد المتلقي، في زمن ما يعيشه العالم اليوم من رعب متعدد الدلالات.

تركيبات دالة.

      يبدو لنا من خلال هذا النبش في مجموعة من المرجعيات النظرية والتطبيقية المقدمة هنا، مدى قيمة و أهمية “تحرير” عدتنا القراءاتية، في اتجاه هدم بعض الحدود الفاصلة بين الروائي والوثائقي(14)، وجعل سؤال الجماليات الموحي والمولد للذة التلقي، محور أسئلتنا وبحوثنا ودراساتنا الخ.

     مهما كانت هذه “الواقعية”، سواء في الوثائقي أو الروائي، فهي مجرد أداة/حيلة فنية، يتم توظيفها لتقديم رؤية ما، قد تكون معبرة عن وجهة نظر المخرج و/أو كاتب العمل، باعتباره أو باعتبارهما، ينتميان إلى ذواتهما الخاصة و/أو تلك الذات الجماعية المؤسسة لطبيعة ما  راكماه من صور دالة مستمدة من  هذه الذات الجماعية.

      الحديث عن الروائي والوثائقي، حديث من الممكن السير في اتجاه هدمه، فنيا ونقديا وثقافيا، في ظل على سبيل المثال أن معظم الأفلام العربية أو الأجنبية القديمة، وبلغة الأبيض والأسود مثلا، هي اليوم أفلام لا تخلو من حس وثائقي جمالي دال (عبرها نتمكن من معرفة طبيعة الألبسة والأمكنة وأشكال وطبيعى الحياة الخ)، بل حتى هذه الأفلام التي نعاصرها وتعاصرنا، فهي بدورها ومن منظور علمي تحليلي على الأقل، أفلام لا تخلو من بعد وثائقي مميز لطبيعة التفكير في موضوع ما، الخ، وكل عمل وثائقي، فبدوره لا يخلو من حس تخييلي، مهما “تلبسنا” بواقعيته.

     في ضوء كل ما سبق، نعتبر سؤال تفكيك العمل السينمائي، باعتباره عملا مبنيا على الصورة/السينماتوغرافيا، هو لب ما ينبغي تطويره، وفق عدة تركيبية من مجالات علمية وإنسانية وثقافية متعددة، بغية القبض على عناصر  تجعلنا نتمتع بما نتلقى من أعمال فنية دالة.

د.الحبيب ناصري (باحث/ناقد)

مراجع.

أ/على مستوى الأفلام.

1/ بيير باولو بازوليني، “فيلم ماما روما”،1962

2/ توفيق صالح، “المخدوعون”،1972

3/ آلان غوميس،”لافرانس”،2001

 4/كمال كمال، “السمفونية المغربية”،2005

   5/ سيلين كييورد/ أوليفيي بولي،2012

6/ حكيم بلعباس، “ثقل الظل”، 20015

ب/ على مستوى المراجع

7/ للتوسع في مفهوم اللذة، أنظر مؤلف رولان بارت، “لذة النص”، ترجمة د. منذر عياشي، مركز الإنماء الحضاري، سوريا، ط1، سنة 1992.

8/حكيم بلعباس، “خيط الروح”، 2004

 9/ آيات نجفي، “أرض بلاغناء”، 2014

10/ جعفر بناهي، “طاكسي المدينة”، 2015

11/ جوليانو ريبيرو سالغادو/ ويم ويندرس

12/ كاظم مرشد السلوم،” سينما الواقع”، ط1، مكتبة دار عدنان، 2012،أنظر وجهة نظره ص 79، وما بعدها.

13/ للتوسع في مفهوم الحلم، أنظر

G . BACHELARD : la poétique de la rêverie .4eme ed . quadrige/puf 1993   

/ لفهم  أهمية تدمير الحدود الفاصلة بين الأجناس الفنية ككل، 14

أنظر مؤلف

JEAN YVES TADIE : Le récit poétique /puf 1978 .