أفغانستان.. حين يضحك السفاحون ويبكي أهل الضحايا

أثناء الحروب تنساب الدماء البريئة للمدنيين بفعل آلة القتل العمياء التي تصيب بظلمها وجه العدالة بمقتل، ثم يتجاهل المعنيون بإحقاق الحق كل تلك الدماء وكأنها مياهٌ سائلة في فصل شتاء ماطر.

يحمل أقارب الضحايا ألقابا متعلقة بالموتى للدلالة على مأساتهم مثل أم ثكلى وزوجة أرملة وطفل يتيم، ولكن هذا اللقب لا يعيد ميتا إلى الحياة مجددا، ولا يجعل الظالم يعترف بخطيئته فيخضع للعدالة.

هذا الفيلم الذي هو أحد أفلام سلسلة عالم الجزيرة المعنون بـ”يوم دامٍ في تشارخ” يروي حكاية 15مدنيا أفغانيا قتلوا من غير ذنب اقترفوه، وبقيت التحقيقات معلقة دون أن يُعاد حق إلى أهله.

عملية عسكرية.. قتل عشوائي في سبيل طالبان

في الثالث من أغسطس عام 2014 توجهت قوات العمليات الخاصة الأمريكية والأفغانية إلى منطقة تشارخ على بُعد حوالي 100 كم إلى الجنوب من العاصمة الأفغانية كابُل تريد إخراج عناصر حركة طالبان من المدينة.

أثناء قيام القوات بالعملية اتصل أحدهم بمُعد الفيلم ليخبره أن الجنود ضربوا رجلا حتى الموت، محذرا إياه من الذهاب إلى منطقة تشارخ لما في ذلك من خطر شديد، فذهب إلى عاصمة الإقليم، وبعد أيام من العملية صور هذا الفيلم.

يظهر في الفيلم مواطنان يتحدثان عن العملية العسكرية يقول أحدهم واسمه صدّيق “في تمام السابعة أو الثامنة صباحا لم يعلم الناس أن الأمريكيين والجيش الأفغاني طوقوا الجبال، ونزلوا إلى المنازل، وانتزعوا من الناس سياراتهم وأذلوهم”، أما محمد صابر فقد رأى شخصا مقتولا أُطلقت النار على سيارته من الخلف.

“محمد رازق” أحد الضحايا الـ15 الذين قتلوا في تشارخ الأفغانية

تقرير مقتضب وتوثيق ونفي.. عام دموي

بعد ستة أشهر، نشرت الأمم المتحدة تقريرها لعام 2014 الذي أشار باقتضاب إلى مقتل 15 مدنياً وجرح 13 آخرين في عملية عسكرية أمريكية وأفغانية مشتركة، لكن القوات الدولية والأفغانية نفت ذلك.

ففي عام 2009 أي بعد ثماني سنوات من بدء الحرب في أفغانستان، بدأت الأمم المتحدة بتوثيق الإصابات بين المدنيين، وتظهر في الفيلم صور لبعض القتلى في تلك العملية حيث كان العام 2014 الأكثر دموية في أفغانستان.

من بين القتلى الـ15 سائق له أربعة أبناء يدعى “فريد محمد”، أرادت والدته أن تتحدث للجزيرة عن مقتل ابنها، فحضرت إلى ضواحي كابل لأن اللقاء في تشارخ يمثل خطورة كبيرة.

أم فريد تفقد إصبعها وابنها نتيجة إطلاق النار عليهما من قبل جنود أفغان

“لا أحد يعبأ بنا وبآلامنا”.. الأم الثكلى

ذهبت أم فريد محمد وابنها لزيارة شقيقتها في قرية قرب منطقة تشارخ للتهنئة بالعيد، وعند اقترابهما من المنزل أطلقت النيران على السيارة، فقُتل ابنها تاركا أرملة وأربعة أطفال.

تقول الأم الثكلى أمانة “لم يستطع ابني أن يرفع رأسه بعد الطلقة الأولى ناديته قائلة: فريد.. فريد.. فلم يجب، عندئذ أدركت أنَّه ميت”. وفي هذه الحادثة أصيب زوجها وجُرحت هي أيضا ونُقلت إلى المستشفى حتى تعافت من فقدان أحد أصابعها وجرْح في بطنها.

تتابع الأم: لم يكن ابني منتميا لطالبان، فقد كان سائقا، أما زوجي فكان مسنا.. لم تُجرِ الحكومة الأفغانية ولا الأمم المتحدة أي تحقيق في الحادث، لا أحد يعبأ بنا وبآلامنا.

شهادة تسجيل الطفل المقتول “أيمن خان” الذي يبلغ من العمر أحد عشر عاما وأخيه “زوارشاع” الذي شهد حادثة قتله

وإن يستغيثوا يغاثوا بالرصاص.. حصة طلاب المدرسة من القتل

من بين قتلى العملية العسكرية أربعة صبيان أحدهم يدعى “أيمن خان” يبلغ من العمر أحد عشر عاما تظهر في الفيلم شهادة تسجيله في المدرسة. يقول أخوه “زوارشاع”: “كنا صباحا في الخارج نجمع الحنطة، سمعت صوت إطلاق رصاص، فقلت لأخي انبطح أرضا، عندها رأيته يسقط على الأرض ميتا.

يتابع “زوارشاع” قائلا: استلقيت بجانب أخي خشية استهدافي من قبل الجنود الذين كانوا على الأرض أو من الطائرات النفاثة التي كانت تحلق في الأجواء، لقد كانوا قريبين منا وعلموا أننا أطفال.

كان الجنود يحتمون بالصخور ويطلقون الرصاص، رأى “زوارشاع” بنادقهم وحاول إيقافهم، لكنه كلما نادى عليهم بصوته الطفولي لكي يوقفوا إطلاق النار رد الجنود عليه بمزيد من الطلقات.

كان والد الصبي يصرخ في الجنود قائلا “لا تطلقوا النار لكي أتمكن من نقل جثة الصبي”، بعد مضي ثلاث ساعات نجح الأب المكلوم “نوروز خان” من الوصول إلى الجثة، فرأى دماغ طفله وخصلة من شعره على الأرض، فجمعهما مع الجثة وقام بدفن ولده.

المبعوث الرئاسي “صافي” أجرى تحقيقا رسميا في مقتل أخيه “محمد رازق”

المبعوث الرئاسي.. دماء أريقت بلا سبب

يقول مُعد الفيلم: أثناء نقل الخبر، قابلت أكثر من 30 من الشهود وأقارب المدنيين الذين قُتلوا خلال تلك العملية العسكرية، ولمعرفة المزيد من المعلومات رتبت لمقابلة العاملين بمكتب الأمم المتحدة الذي نشر التقرير المقتضب عن الوفيات، لكنهم تراجعوا عن المقابلة قبل بضع ساعات من موعدها متمسكين بالنتائج التي توصلوا إليها. ثم تمكنت من تعقب صحفي أبلغني أن الرئيس حامد كرزاي كان قد أوفد مبعوثا للتحقيق في وفيات المدنيين.

حاولت الجزيرة الاتصال بالمبعوث الرئاسي الذي يدعى “صافي” عدة مرات لكنه لم يرد على الاتصال. يُشار إلى أنَّه أجرى تحقيقا رسميا واحدا ليس بفعل إجراء رسمي، بل بسبب مثابرة رجل واحد هو محمد خان، وهو مهندس من قرية تشارخ، قتل أخوه “محمد رازق” خلال العملية، وصمم على إحقاق الحق لأخيه القتيل.

يعرض الفيلم صورا لمحمد رازق المصاب في الرأس والعينين، سأل “محمد خان” الحاكم عن أسباب هذا القتل فأقسم بالله أنه لا يعرف السبب، ثم قرر “محمد خان” أن يذهب إلى العاصمة كابل لأنه يعرف القانون ويعرف أين يذهب وما ينبغي عليه فعله.

أكثر من 200 شخص تم احتجازهم في هذا البيت للتحقيق والتعذيب

يوم العملية.. مسرحية كوميدية تراجيدية

في صباح يوم العملية كانت طائرات عسكرية تحلق على ارتفاع شاهق، ورأى محمد خان وأخوه محمد رازق وهما في السيارة أثناء الطريق ثلاث نساء يبكين بجانب رجل جريح تبين لهما أنه من حركة طالبان، وعندما ترجل محمد رازق لكي يرى ما الذي كان يدور أحاط به وبأخيه فجأة أفراد من القوات الأفغانية الخاصة.

يقول محمد خان: اندفعت القوات نحو أخي وابن أخي فقررت الترجل من السيارة، وفي الأثناء ركض جندي نحوي وأمرني أن أرفع يدي، رأيتهم يضربون أخي بعقب بندقية وقضيب معدني ويوسعونه ركلا، اقتربت منهم لأثنيهم عن ضربه لكنهم قيدوا يدي ثم اعتقلوني.

يُظهر الفيلم المكان الذي احتُجز فيه محمد خان وأخوه، حيث بلغ عدد المحتجزين ما بين 200–400 شخص، هنا يتذكر محمد خان أخاه وهو يُضرب ويُصفع، ثم يعرض الفيلم صورة يظهر فيها محمد رازق بعد أن فُقِئت عينه وضرب بقضيب معدني.

لم تشارك القوات الأمريكية بالضرب ولكنها كانت شاهدة على الجريمة، كانوا يضحكون.. تساءل “محمد خان” ما الذي يمنعهم من إيقاف الضرب؟ فلم يجد لذلك إجابة.

منصور ابن الطبيب الذي عاين محمد خان يؤكد خوف والده من انتقام الحكومة إن أدلى بأية معلومات

معاينة طبية تحت رقابة الجند.. الخوف من الانتقام

احتُجز محمد خان في عيادة الطبيب طيلة اليوم ولم يسمح له بمقابلة أخاه إلا بالمساء، وكان الجنود قد طلبوا من الطبيب الذي يملك المبنى الذي احتُجز فيه محمد خان وأخوه أن يشخّص حالة محمد رازق.

سأل محمد خان الطبيب عن حالة أخيه الذي كان نبضه ضعيفا: كيف حاله؟ فأجاب: لقد فارق الحياة.

يقول مُعد الفيلم: حاولت الاتصال بالطبيب الذي عاين “محمد رازق” وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة لكنه رفض أن يبوح بما حدث، إلا أن ابنه منصور الذي كان حاضرا في ذلك اليوم جاء إلى العاصمة كابل ليتكلم لي عن الحادثة.

يعتقد منصور أن سبب رفض والده الإدلاء بشهادته على الحادثة هو الخوف من انتقام الحكومة أو حركة طالبان، يقول منصور: احتل جنود أفغان منزلنا، وبعد تفتيشه قالوا إنهم يريدون احتجاز أشخاص لاستجوابهم، وبحلول الساعة الثامنة أو التاسعة صباحا جمعوا سكان المنطقة واحتجزوهم في المنزل.

رأى منصور جنودا أفغانا يضربون محمد رازق بكل ما طالته أيديهم، وكان معه شخصان آخران، وكان الأمريكيون يضحكون ويرددون أحسنتم.

المحقق العسكري.. 18 عاما وراء القضبان

في تقدم مفاجئ لمجريات إعداد الفيلم، وافق المحقق العسكري “ولي محمد” الذي أجرى بنفسه تحقيقا وافيا وشاملا في وفاة محمد رازق على التحدث هاتفيا عن القضية، حيث استمر في التحقيق مدة شهر، وحكم على سبعة من قوات الصاعقة الأفغانية بمن فيهم قائد سريّة بالسجن ثمانية عشر عاما.

يقول ولي محمد: أنا على يقين من أن الأمريكيين كانوا على علم بالأمر، فمن منهم سمع عما حدث ومن لم يسمع؟ لا يسمح لي بالتحقيق في ذلك الصدد.

المدنيون الأفغان يتعرضون  بين الفينة والأخرى إلى حملات تفتيش قسري وإذلال

وزارة الدفاع الأمريكية.. “لا توجد ادعاءات رسمية”

كانت القوات الامريكية الموجودة على الأرض من قوات المهام الخاصة في سلاح البحرية المسماة “نيفي سلس” إضافة إلى وحدة من قوات النخبة من الجيش.

أراد مُعد الفيلم أن يعرف سبب عدم تدخل القوات للحيلولة دون ضرب رازق رغم وجودها في ذات القرية، وأراد أيضا معرفة مصير المدنيين الأربعة عشر الآخرين الذين قتلوا، لذلك تواصل مع وزارة الدفاع الأمريكية وقوة العمليات الخاصة المشتركة في أفغانستان، وقد أحاله الطرفان إلى بعثة شمال الأطلسي في أفغانستان. يقول معد الفيلم: لا أعرف بالضبط ما الذي قصدوه بعبارة “لا توجد ادعاءات رسمية”.

يتابع مُعد الفيلم قائلا: لم أستطع الحصول على أي معلومة من الولايات المتحدة عن دورها في تلك العملية، ولكنني تمكنت من الوصول إلى الملازم الأفغاني عبد الشفيق الذي كان قائد عمليات في الثالث من أغسطس/آب، وقد سألته بالهاتف عن المشاركة الأمريكية في العملية.

يقول عبد الشفيق: كانت القوات الأمريكية توفر مساندة من الجو، عملوا على تزويدنا بإحداثيات الأهداف باستعمال طائرات من دون طيار وكانوا يطلبون منا أن نذهب إلى مواقع محددة.

يتابع قائلا: لا أعرف شيئا عن المدنيين الأربعة عشر الذين قُتلوا هناك، كل شكاوى أهالي تشارخ إنما كانت بهدف حصولهم على امتيازات في مقدمتها تأدية فريضة الحج.

 

عضو الكونغرس الأمريكي “ألان غريسون” يؤكد اقتصار مهمة الأمريكيين على تقديم المشورة

الكونغرس.. ليس من شاهد كمن قتل

يقول مُعد الفيلم: بالنظر إلى أنَّ مسؤولين أفغانا نفوا وقوع إصابات بين المدنيين، بينما نكث آخرون بتعهدهم الكشف عما حدث في تشارخ إضافة إلى مماطلة العسكريين الأمريكيين معنا؛ شعرنا أن الأفغان والأمريكيين كلاهما غير راغب في الوصول إلى الحقيقة.

وافق عضو الكونغرس الأمريكي والعضو في لجنة الشؤون الخارجية بالمجلس “ألان غريسون” على التحدث إلى الجزيرة هاتفيا، فقال: بحلول الصيف الماضي لم يكن للأمريكيين عموما علاقة بأي حوادث إطلاق رصاص حي، فقد اقتصرت مهمة الأمريكيين على تقديم المشورة.

وفي رده على حادثة اغتيال “محمد رازق” واتهام الأمريكيين بالتفرج دون التدخل لوقف ذلك قال: عندما تقع حادثة من هذا القبيل يجري العسكريون الأمريكيون تحقيقا، وبصرف النظر عن الشهود سواء أكانوا أمريكيين أم سواهم فإن من المؤسف أن أحدا لم يتدخل، ولكن دعنا لا نساوي بين مشاهدة حادث وبين ارتكابه.

توصل مُعد الفيلم إلى أن القانون لا يُلزم الجنود الأمريكيين في أفغانستان بالتدخل حتى لو أعدم جنود أفغان مدنيا أمامهم وضربوه حتى الموت، ومع ذلك يفترض بهم أن يبلغوا عن الجريمة، لكن العسكريين الأمريكيين لم يخبروا أحدا بذلك.

من العجب العجاب أن تفقد 15 أسرة أفغانية أحبة لها في عملية أمريكية أفغانية مشتركة، ثم لا تعرف تلك الأسر بعد مرور أكثر من سنة ما الذي حدث بالضبط.

أم ثكلى وأقارب محزونون يشتكون ظلم قلت أبنائهم وإخوانهم

لماذا كل هذه القسوة؟

ما زال نوروز خان لا يعرف حتى الآن من الجندي الذي أطلق الرصاصة التي قتلت ابنه ذا الأحد عشر ربيعا ولا حتى سبب قتله، يتساءل قائلا: ما الذي اقترفناه؟ هل كانت لدينا أسلحة؟ هل أطلقنا النار عليكم؟ هل آذيناكم؟ معرفة الحقيقة مهم ليس فقط بالنسبة لي، بل مهم أيضا لشعبنا كله ولبلدتنا كلها، وإن لم نرفع أصواتنا سيتم تدميرنا.. علينا أن نصرخ بأصواتنا لماذا كل هذه القسوة؟

بقيت دماء الأبرياء التي ارتقت في صباح الثالث من آب/أغسطس 2014 تُدين وجوه الظلم المتعددة الرافضة لوجه العدالة الواحد الذي يقضي بإنصاف الضحية وإدانة المجرم، لم يفعل هؤلاء المدنيون أي ذنب كي يُعاقبوا عليه ولكنهم ارتقوا شهداء، وما زالت دماؤهم تنتظر العدالة.