سياسة التجويع.. سلاح مُحرّم يستخدمه الاحتلال في غزة

أصبحت حبةُ طماطم أو بصلة وليمةً يتشاركها الناس في قطاع غزة، مع قليل من الملح، لكن دون خبز، فتكاد تخلو مدن القطاع من الخبز، وتحول الوجود إلى صراع على كيس طحين أو رغيف، بعد أن قصف الاحتلال متعمدا عشرات المخابز على طول القطاع، لدفع أهله إلى المجاعة في وقت أسرع.

ومع أن قطاع غزة يعاني منذ 17 عاما من حصار فرضته أمريكا ودول أوروبية عام 2007، بعد أن سيطرت حركة حماس على قطاع غزة بقوة الحسم العسكري، فشحت المواد الغذائية، وتقيدت حركة سكانه، وتوقف دخول الكتب والمجلات، لكن لم يصل الأمر يوما إلى أن جاع أهله كما يحدث الآن.

ومنذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول المنصرم، فرضت إسرائيل عقوبات انتقامية مشددة على قطاع غزة، قطعت خلالها الكهرباء والماء، ومنعت دخول جميع الشاحنات التي تحمل مواد غذائية إلى أهالي القطاع، وسمحت بأقل من 500 شاحنة مساعدات خلال شهر كامل، وهو ما كان يصل القطاع في اليوم ليكفي احتياجات سكانه.

مخبز النصيرات الآلي الذي قصفه الاحتلال في حربه على غزة

كما قصفت طائرات الاحتلال الأشجار المثمرة ومزارع الدجاج، وخزانات المياه، ووصل السكان بعد أكثر من 32 يوما إلى بدايات مرحلة الجوع والعطش، بل إن الأطفال خلطوا مياه البحر بالسكر.

حروب الجوع.. سلاح وحشي يفتك بالجيوش والشعوب

إن تاريخ الحرب مليء بأمثلة على الخطط العسكرية المستخدمة عمدا بهدف تجويع جيوش العدو أو السكان المدنيين، فمثلا خلال الحرب الأهلية في الولايات المتحدة، اعتمد جنود الاتحاد تجويع المتحاربين المعادين المسلحين أو غير المسلحين.

كما وضعت ألمانيا النازية “خطة الجوع” خلال الحرب العالمية الثانية، فكان من الممكن لو نُفذت أن تؤدي إلى مجاعة نحو 20 مليون شخص أو أكثر في الأراضي التي يسيطر عليها الاتحاد السوفياتي، لكنها هزمت، ومع ذلك فقد قتلت مئات الآلاف جوعا أثناء الحصار الألماني لمدينة لينينغراد (سانت بطرسبرغ) في الاتحاد السوفياتي بين عامي 1941-1944.

وتؤكد الدراسات أن الصراع المسلح يمكن أن يؤدي إلى ظروف خطيرة، لانعدام الأمن الغذائي، بل إن العكس صحيح أيضا، إذ يمكن لانعدام الأمن الغذائي أن يعجل بالصراع السياسي العنيف. فالتغيير المفاجئ في توافر المواد الغذائية الأساسية أو أسعارها يمكن أن يؤدي إلى انفجار الاضطرابات الاجتماعية.

ومن الأمثلة الشهيرة على ذلك الثورة الفرنسية عام 1789، فقد غذاها إلى حد كبير ضعف محاصيل الحبوب والضغوط الاقتصادية التي أدت إلى زيادات حادة في أسعار الخبز.

جنوب السودان.. أزمة جوع من ثمار الحرب الأهلية

عانى كثير من الدول المجاعات نتيجة الصراع المسلح، ولم يكن التجويع متعمدا في هذه الحالة ولا خطة عسكرية في الصراع، بل جاء نتيجة له، مثل ما حصل في جنوب السودان، حين بدأت الحرب الأهلية التي أدت إلى قتل الآلاف ونزوح الملايين، الأمر الذي هدد مصادر الغذاء وضعف المحاصيل، ووقعت أزمة الجوع عام 2017، وارتفعت أسعار المنتجات الغذائية.

طفل من جنوب السودان مصاب بسوء التغذية في إحدى عيادات منظمة “أطباء بلا حدود”

واستمر خطر المجاعة حتى الآن، إذ يحتاج نحو 4 ملايين امرأة وطفل دون الخامسة إلى مساعدات إنقاذ وتغذية خلال عام 2023، بحسب تقديرات أممية.

“أسوأ كارثة من صنع الإنسان في التاريخ الحديث”

من أقوى الأمثلة على أزمات الجوع الناتجة عن الحروب، ما حدث في اليمن حين استولى الحوثيون على عاصمة البلاد في عام 2014 وأطاحوا بحكومتها، وتدخل تحالف بقيادة السعودية والإمارات لإعادة الحكومة المخلوعة، وبدأ العدوان على المدن اليمنية، وقد أدى القصف الشديد والمتواصل إلى تدهور اقتصاد اليمن الهش، وتدمير جزء كبير من بنيته التحتية.

وسرعان ما انهارت عملة البلاد، ولم يعد موظفو القطاع العام يتلقون رواتبهم، وارتفعت أسعار المواد الغذائية بشكل كبير، وسرعان ما أغلق التحالف السعودي الإماراتي فعليا ميناء البحر الأحمر في الحديدة، وهو نقطة الدخول الرئيسية للواردات الغذائية التي يعتمد عليها السكان للإمدادات الإنسانية.

وبحلول نهاية عام 2018، قالت الأمم المتحدة إن أكثر من نصف سكان اليمن بحاجة ماسة إلى مساعدات غذائية لمنع المجاعة، وأشار تقرير صادر عن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة عام 2018 إلى أن الوضع في اليمن يعد “أسوأ كارثة من صنع الإنسان في تاريخ العالم الحديث”.

مخيم اليرموك.. حصار وتجويع يضرب اللاجئين

ما يحدث الآن في قطاع غزة من حصار ومنع المواد الغذائية والمساعدات الطبية، يكاد يطابق ما حدث في مخيم اليرموك في سوريا، حين حاصره نظام الأسد عام 2015 لما يزيد عن 6 شهور، ومنع دخول المواد الغذائية أو الطبية وشحت المياه، وأما ما كان موجودا في المحال التجارية فقد ارتفعت أسعاره إلى أضعاف، حتى نزح أكثر من 200 ألف من سكانه، ثم أبيد بعدها.

يقول أبو سلمى للجزيرة الوثائقية، وهو لاجئ من اليرموك مقيم بفرنسا: أتذكر جيدا الحصار، لقد بلغ كيلو الرز ضعف سعره مئة مرة، وقد جاع الناس، واستمر القتل موازيا له، وهو ما يحدث في غزة الآن، يجوع الناس ويرمي الاحتلال عليهم براميل القنابل.

حصار مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين في سوريا من قبل نظام الأسد عام 2015

وقال إن مخيم اليرموك وغزة مرّا بحرب مماثلة، حتى إنها أكثر من حرب، فالحرب مسموح فيها المساعدات الطبية والغذائية وتلقي العلاج، لكن في غزة واليرموك كان كل شيء ممنوعا، سوى الإبادة والنزوح.

مدينة مضايا.. هياكل عظمية يتخطّفها الموت

في عام 2016 فعل نظام الأسد بمدينة مضايا ما فعل بمخيم اليرموك، فمات الناس جوعا وهم أشبه بهياكل عظمية، كما فعل ذلك عدة مرات مع مدن ريف دمشق في السنوات الأولى بعد الثورة.

وقد أدى القتل والتجويع الوحشي في سوريا إلى نزوح أكثر من 12 مليون شخص من منازلهم، مع وجود أكثر من ستة ملايين نازح داخل سوريا حتى يوليو/ تموز 2019. وبحلول عام 2016، ساهم السوريون الفارون من القتال في أكبر أزمة لاجئين عالمية منذ الحرب العالمية الثانية.

والآن هذا هو ما يخشى مراقبون أن يحدث لأهالي قطاع غزة، أن يدفع تجويع الناس في شمال القطاع وجنوبه مع استمرار القتل إلى استمرار نزوحهم إلى صحراء سيناء.

تجويع غزة… جريمة تخالف القوانين الدولية والإنسانية

لا تأبه إسرائيل منذ بدء عدوانها الحالي على قطاع غزة بأي من مواد اتفاقية جنيف الرابعة، والقانون الدولي الإنساني الذي يلزم الدول بمجموعة من السلوكيات والالتزامات خلال الحروب والصراعات، وأهمها أنه يحظر اتخاذ التجويع أسلوبا من أساليب القتال، أو إتلاف الأشياء الضرورية التي لا غنى للسكان عنها.

وهذا هو كل ما تفعله إسرائيل منذ بدء الحرب على قطاع غزة، فحتى تاريخ كتابة هذا المقال كانت طائراتها قد هاجمت عددا من مركبات المساعدات بعد دخولها القطاع، آخرها كانت تحمل علب المياه المعدنية، فتدمرت وانسكبت على الشارع أمام عيون الناس العطشى.

فلسطينيون نازحون يتجمعون لتعبئة المياه في خان يونس بجنوب قطاع غزة (رويترز)

وقد تحدث لقناة الجزيرة إياد نصر، وهو خبير النزاعات والرئيس السابق لمكتب الأمم المتحدة الإقليمي للشؤون الإنسانية، فقال إن جميع الدول التي وقّعت على اتفاقيات جنيف ملزمة بالاضطلاع بمسؤولياتها، ولا يسقط أي خرق لهذه القوانين بالتقادم.

وقال إن تجويع المدنيين وعدم توفير المواد الأساسية المطلوبة، يعد انتهاكا جسيما لاتفاقية جنيف الرابعة، ويعد من ينخرط في هذا الإطار شريكا، وسيطاله العقاب، طال الزمان أو قصر.

وأضاف نصر أن قطاع غزة منطقة محتلة ولا تزال، وعليه فإن واجب تزويد القطاع بالمواد الغذائية والمياه إن نقصت يقع على الاحتلال، لكن هذه القوات تسد وتغلق مصادر الطعام والشراب لقطاع غزة.

ورأى أن ذلك يعد نوعا آخر من أنواع العقاب الجماعي، وهو مرفوض وفقا للقانون الدولي الإنساني واتفاقية جنيف خاصة المواد “33” و”55″ و”59″، مبينا أن المادة 27 توجب على قوات الاحتلال بألا تتخذ المواد الغذائية والمياه والمواد الطبية -بأي حال من الأحوال- نوعا من العقاب الجماعي ضد المدنيين بالمناطق المحتلة.

 

المراجع:

الجزيرة

الجزيرة

الجزيرة

Education