منطقة الساحل الأفريقي.. شعوب تئن تحت رحمة المناخ والسلاح

بلغ الوضع اليوم في منطقة الساحل الأفريقي مستوى مقلقا، تحولت معه شعوب هذه المنطقة إلى رهائن تنشد تحريرها من قبضة الطبيعة القاسية، والظروف الأمنية المتدهورة. فهذه المنطقة الجغرافية الممتدة من المحيط الأطلسي غربا إلى البحر الأحمر شرقا، عبر شريط صحراوي طوله 5 آلاف كيلومتر، وتضم دولا مثل موريتانيا وتشاد ومالي وبوركينا فاسو والنيجر، تعاني من أسوأ موجات جفاف على الإطلاق، زادت التغيرات المناخية من وطأتها.

بالإضافة إلى الانفلات الأمني وانتشار الجماعات المسلحة وعناصر التنظيمات الإرهابية، وعدم استقرار الأنظمة السياسية في دول المنطقة التي عاشت على وقع تدخلات أجنبية لسنوات.

فمع بداية سنة 2023، توالت تحذيرات الأمم المتحدة والجمعيات غير الحكومية، من أن منطقة الساحل تواجه أسوأ الأزمات الإنسانية في تاريخها، وتتوقع أن يحتاج أن أكثر من 116 مليون شخص لمساعدات إنسانية، بسبب تغير المناخ والنزاعات المسلحة.

وتتركز المعاناة بالأساس في منطقة الساحل الأوسط التي تشمل دول مالي وبوركينا فاسو والنيجر، وهي تمثل فقط 0.9% من سكان العالم، لكنها تشكل 5% من الاحتياجات الإنسانية العالمية، بحسب لجنة الإنقاذ الدولية ( (IRC، وهي منظمة غير حكومية أمريكية.

خمس دول أفريقية هي موريتانيا وتشاد ومالي وبوركينا فاسو والنيجر تعاني من أسوأ موجات جفاف على الإطلاق

فما هو إذن حجم هذه الأزمة الإنسانية في منطقة الساحل الأفريقي؟ وهل ما زالت شعوب المنطقة قادرة على تحمل العيش في ظروف الجفاف وعدم الاستقرار؟ وكيف أثرت التدخلات الأجنبية على هذه الكتلة الجغرافية من منطقة الصحراء الكبرى؟ وما الانعكاسات المترتبة عن هذا الانفلات الأمني على دول الجوار؟

قحط الساحل.. شظف العيش يهدد إنسان الصحراء

لا اختلاف على أن الجفاف هو السمة البارزة لمنطقة الساحل الأفريقي طيلة القرون الماضية، حتى أن منطقة الصحراء الكبرى التي تمثل غالبية مساحة هذه المنطقة، توصف بأنها أكثر المناطق الصحراوية قحطا في العالم.

لكن شعوب هذه المنطقة التي اعتادت على هذا المناخ الجاف لسنوات، لم تعد قادرة على التكيف مع تزايد قسوة الظروف المناخية، بسبب تغير مناخ الكوكب وارتفاع درجة الحرارة. فالتقديرات تشير إلى أن المتوسط السنوي لهطول الأمطار انخفض بشكل حاد منذ السبعينيات، وتقلص مثلا حجم بحيرة تشاد والأراضي الرطبة المرتبطة بها بنسبة 95% مقارنة بمنتصف القرن الماضي.

استحالة ممارسة الأنشطة الرعوية والزراعية التي اعتاد عليها سكان دول الشريط الأفريقي أجبرتهم على النزوح

وتبدو التوقعات في المنطقة متشائمة، ويشير أكثرها تفاؤلا إلى أن درجات الحرارة في منطقة الساحل المرتفعة أصلا، ستزيد بدرجتين مئويتين ونصف بحلول عام 2080، حتى وإن التزم العالم بتطبيق اتفاقيات المناخ الطموحة.

وقد أجبر هذا الوضع الصعب السكان على ترك منازلهم وأراضيهم، بعد أن استحالت عليهم ممارسة أنشطتهم الرعوية والزراعية التي اعتادوا عليها سنوات، وحولهم إلى شعوب جائعة وخائفة، تنتظر المساعدات للبقاء على قيد الحياة. وبلغ شح الأمطار مستويات قياسية أسفرت عن انخفاض حاد في إنتاج المحاصيل، وتتوقع اللجنة الدولية للصليب الأحمر أن يهدد الجوع أكثر من 10 ملايين شخص في بوركينا فاسو ومالي والنيجر وموريتانيا.

وتتعقد الأوضاع في منطقة الساحل بسبب انعدام الأمن، وانتشار الجماعات المسلحة، مما يعطل مسارات الترحال الرعوي التقليدية، ويُصعب الوصول إلى مياه الشرب والسقي، علما بأن أكثر من 80% من سكان منطقة الساحل يعتمدون في معيشتهم على الرعي والزراعة. ونتيجة لهذه التحديات، انخفض مثلا معدل الإنتاج الغذائي للنيجر وموريتانيا بنسبة 40% بين 2017-2022.

الانفلات الأمني.. خطر يدق ناقوس المجاعة والنزوح

تجتمع أزمة المناخ في منطقة الساحل، مع عدم الاستقرار المتزايد، وانخفاض الاستثمار في مشاريع التنمية، لتعطي مزيجا مخيفا ينزل بثقله على شعوب المنطقة المهددة بالعطش والمجاعة، فلم تعد قادرة على الصمود في مناطق اعتادت العيش فيها منذ سنوات. فبحسب أرقام المفوضية الأممية لشؤون اللاجئين، فقد دفعت ظروف الجفاف الحاد وانعدام الأمن مع بداية 2023، ما لا يقل عن ثلاثة ملايين شخص في البلدان الأربعة الأكثر تضررا (تشاد ومالي والنيجر وبوركينافاسو) إلى النزوح داخليا.

وتدق جميع التقارير المعنية بمنطقة الساحل ناقوس الخطر، محذرة من مجاعة غير مسبوقة، فلأول مرة بلغ عدد المهددين بالجوع 45 مليون شخص بحسب تقديرات الأمم المتحدة، وقال برنامج الغذاء العالمي إن عدد الأشخاص المهددين بخطر المجاعة في منطقة الساحل زاد بنحو 10 أضعاف خلال السنوات الثلاث الماضية.

وأضاف البرنامج الأممي أن أكثر من 10.5 ملايين شخص يعانون بالفعل من الجوع، منهم 1.1 مليون وصلوا إلى مرحلة الطوارئ الحرجة. وطالب البرنامج في بداية سنة 2023 بدعم يصل إلى 470 مليون دولار من أجل الاستمرار في تقديم المساعدات لدول الساحل خلال 6 أشهر.

ويشكل الأطفال الفئة الأكثر هشاشة وعرضة لخطر المجاعة، خصوصا في ظل الانفلات الأمني المتصاعد في السنوات الماضية. وتتحدث منظمة اليونيسيف عن ما لا يقل عن 10 ملايين طفل بحاجة ماسة لمساعدة إنسانية في بوركينا فاسو ومالي والنيجر، أي ضعف العدد المسجل عام 2020. كما أنهم مستهدفون مباشرة بالقتل والاختطاف، ويستغلون في الحروب وتجارة السلاح، ويحرمون من أبسط الحقوق كالتعليم والتطبيب.

فوضى السلاح.. تجارة سوداء تصب الزيت على النار

شكلت منطقة الساحل موطنا للنزاعات المسلحة والعنف منذ سنوات، وازداد الوضع سوءا في العقدين الماضيين، بسبب الانتشار الكبير للجماعات الإرهابية والمتمردة التي اتخذت المنطقة قاعدة خلفية لنشاطاتها، بالإضافة إلى تزايد النزاعات بين الجماعات العرقية المتناحرة، وتفكك بعض الدول وانشغالها بالانقلابات العسكرية، مما أدى إلى ضعف الجيوش والقوات الأمنية فيها.

وأفاد تقرير للأمم المتحدة أن ما يقرب من 10 آلاف شخص لقوا مصرعهم بسبب الانفلات الأمني في منطقة الساحل خلال سنة 2022، بينما تتوقع تقارير إعلامية ومصادر محلية أن يكون الرقم أكبر بكثير. وخلص التقرير إلى أن حالة الفوضى التي غرقت فيها ليبيا بعد الإطاحة بنظام معمر القذافي في 2011، زادت الوضع تعقيدا، نتيجة التدفق الكبير للأسلحة والذخيرة من هذه الدولة. يضاف إليها تلك المهربة من الدول المجاورة الأخرى مثل نيجيريا، حيث تنشط جماعة “بوكو حرام”، ومن ليبيريا وسيراليون التي كانت حتى مطلع القرن الـ21 مسرحا لحروب أهلية طاحنة. كما تأتي شحنات أخرى بشكل سري من مناطق بعيدة على متن طائرات.

وبسبب الطلب الكبير على الأسلحة، ازداد نشاط مهربي السلاح خصوصا بين مالي وتشاد، وأصبحت الجماعات المسلحة تسيطر على جل طرق النقل البري، مع ظهور أسواق سوداء لتجارة السلاح في مناطق غاو وتمبكتو وميناكا في شمال مالي. وكشف تقرير حديث لمعهد الدراسات الأمنية (ISS) أن ما يطلق عليه “ممر السلفادور” على حدود الجزائر والنيجر مع ليبيا، هو أخطر مسارات التهريب في منطقة الساحل.

مثلث الخوف والجوع.. ظلال الانقلابات والتدخلات الأجنبية

ركزت الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية في كل تحذيراتها على التدهور الخطير للأوضاع في منطقة الساحل الأوسط التي تضم بوركينا فاسو ومالي النيجر، ووصفت الوضعية في هذه الدول الثلاث بالكارثية، بسبب نشاط الجماعات المسلحة المتزايد، خصوصا في المناطق الحدودية.

ما يقارب 40 مليون نازح وفار من الحروب يعانون نقصا حادا في الغذاء والدواء

فبوركينا فاسو التي تعاني منذ 2015 من هجمات لمجموعات جهادية مرتبطة بتنظيمي القاعدة والدولة الإسلامية، شهدت في 2022 انقلابين عسكريين فاقما وضعها الإنساني. وأصبح بذلك حوالي 4.7 ملايين شخص محتاجين للمساعدة الإنسانية في 2023، مقابل 3.5 ملايين احتاجوا للمساعدات عام 2022، بحسب إحاطة قدمتها “مارثا بوبي” مساعدة الأمين العام للأمم المتحدة لشؤون أفريقيا أمام مجلس الأمن الدولي يوم 16 مايو/ أيار 2023 حول الوضع في منطقة الساحل.

وفي مالي كشفت المسؤولة الأممية أيضا عن وضعية أكثر قتامة، مع توقعات باحتياج 8.8 ملايين شخص إلى مساعدات إنسانية خلال سنة 2023. وقد شهدت مالي تحولا في 2022، إثر انسحاب قوات “برخان” الفرنسية من هذا البلد، بعد انتشارها فيه لقرابة عقد من الزمن.

وقد تدهورت العلاقات بين باماكو وباريس وباقي الدول الأوروبية بعد انقلاب عام 2021، واستيلاء المجلس العسكري على السلطة، وخصوصا بعد الحديث عن تعاون المجلس العسكري الحاكم مع مجموعة “فاغنر” ذات الصلة الوثيقة بالحكومة الروسية، والتي يتهمها الاتحاد الأوروبي بارتكاب انتهاكات في مجال حقوق الإنسان. وتسود حاليا تخوفات من انفلات أمني غير مسبوق، في حال انسحاب بعثة الأمم المتحدة لحفظ السلام المعروفة باسم “مينوسما” من مالي، بعد 10 سنوات قضتها في هذا البلد.

ويهدد هذا المزيج من الصراعات والتسيب الأمني، بازدياد عدد النازحين الفارين من بطش الجماعات المسلحة وآثار التغير المناخي نحو النيجر، فقد استقبلت هذه الدولة الفقيرة حتى أواخر 2022 أكثر من 660 ألف نازح أو لاجئ. ويطال أيضا انعدام الأمن الغذائي في النيجر 4.4 ملايين شخص بحسب المنظمة غير الحكومية الأمريكية “لجنة الإنقاذ الدولية”.

دول الجوار.. تحالفات قلقة من لهيب البركان الهائج

يشكل تعقد الوضع الأمني في منطقة الساحل، وكثرة التدخلات الأجنبية، وتشابك الانقلابات العسكرية مع نشاط الجماعات المسلحة؛ كابوسا يؤرق دول الجوار. ففي الشمال تعاني دول المغرب والجزائر وتونس، القريبة جغرافيا من هذه المنطقة المضطربة، من التهديدات الأمنية المستمرة بسبب نشاط القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، والتحركات غير القانونية لشبكات تهريب المخدرات والاتجار في السلاح، على طول الشريط الحدودي غير المنضبط.

خروج القوات الفرنسية من مالي نحو النيجر زاد من فرص التفلت الأمني فيها

ووعيا منها بخطورة الوضع، انضمت هذه الدول المغاربية أول مرة إلى مبادرة “مكافحة الإرهاب عبر الصحراء” التي أطلقتها الولايات المتحدة سنة 2005، ودعموا الإطار المشترك “مجموعة دول الساحل الخمس” الذي أنشأته موريتانيا ومالي والنيجر وتشاد وبوركينا فاسو في فبراير 2014 برعاية فرنسية، للتصدي لكل أشكال الإرهاب والجريمة والاتجار بالبشر.

ومنذ 2014 إلى 2021 نفذت “القوات المشتركة لدول الساحل الخمس” 128 عملية قتالية في المنطقة لمكافحة الإرهاب، لكن ذلك لم يكن كافيا لوقف هجمات المسلحين. وسيكون انسحاب مالي من تحالف المجموعة الخماسية “جي 5” في 2022 بعد تولي المجلس العسكري للسلطة ورفض تولي باماكو لرئاسة المنظمة الإقليمية، ضربة أخرى لهذا التكتل، ويزيد توجس بلدان الجوار من تزايد الانفلات الأمني، خصوصا بعد رحيل القوات الفرنسية، والقلق من الدور الذي قد تلعبه مجموعة “فاغنر” الروسية، والصراع الروسي الأوروبي على المنطقة، في ظل الحديث عن رغبة حلف شمال الأطلسي “الناتو” في إقامة قاعدة عسكرية في موريتانيا.

 

وتستغل الجماعات الإرهابية هذه المنافسة المحتدمة، وانشغال الحكومات بالصراع على السلطة والنفوذ، لتزيد نشاطاتها الدموية، وتنقلها إلى دول الجنوب، مثل بنين وساحل العاج وتوغو وغيرها، بسبب عدم قدرة هذه الدول على تأمين حدودها مع دول مجموعة الساحل الخمس، مما زاد معاناة هذا الجوار الجنوبي الهش اجتماعيا، وتدهوره اقتصاديا.

صراع السودان.. قشة قصمت ظهر البعير

تحولت حالة الحرب في السودان هذا العام، والصراع الدائر على السلطة بين الجيش وقوات الدعم السريع إلى مصدر قلق إضافي في المنطقة. فقد عبّرت الأمم المتحدة عن تخوفها من الآثار المدمرة لهذا النزاع، إذ أنها ستزيد الوضع تدهورا في منطقة الساحل ومحيطه، مما يهدد ساكنة تقدر بـ150 مليون نسمة، وستكون آثار ذلك محسوسة في القارة الأفريقية بأسرها، وحتى خارجها، بسبب موجات النزوح القياسية التي ستقصد دول الشمال، من أجل الوصول إلى أوروبا عبر البحر الأبيض المتوسط.

ويسود التخوف أساسا من حصول الجماعات المسلحة في دول الساحل على مزيد من الأسلحة التي يمكن أن يكون مصدرها السودان، إلى جانب احتمال تسلل العناصر الإرهابية، مما قد يتسبب في حرب إقليمية واسعة، تعرقل مساعي القضاء على جميع مظاهر الانفلات الأمني.

وحذرت أيضا مجلة “فورين بوليسي” (Foreign Policy) الأمريكية من انعكاسات صراع السلطة في السودان على استقرار منطقة الساحل الأفريقي بأكملها، وخصوصا دولة تشاد المجاورة التي تشهد تدفقا كبيرا للاجئين والنازحين، وشكل ذلك عبئا إضافيا على هذه الدولة الفقيرة، بحسب المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، فقد استضافت في الشهرين الأولين لاندلاع الأزمة السودانية قرابة 600 ألف لاجئ، نصفهم تقريبا من السودان، رغم افتقارها للموارد المالية الكافية.

أصبحت إذن كل المؤشرات تنذر بمزيد من تدهور الأوضاع في منطقة الساحل في الأشهر القادمة، سواء تعلق الأمر بالجانب المناخي أو الشق الأمني، ولا شك أن معاناة سكان هذه المنطقة لن تنتهي قريبا في ظل الصراع على السلطة، والأطماع الخارجية. على أمل أن يكون تحرك المنظمات الإنسانية سريعا، لعلها تخفف وطأة أزمة خطيرة تهدد حياة شعوب ذنبُها الوحيد أنها ولدت في منطقة جغرافية قاحلة، وحُرمت من استغلال ثرواتها الطبيعية والبشرية على النحو الأمثل.