“السلام الهش”.. حرب توشك على الانفجار مرة أخرى في البوسنة والهرسك

مرت قرابة 30 عاما على توقيع “اتفاقية دايتون” التي أنهت الحرب الأهلية الدامية في البوسنة والهرسك، ومع أن كان توقيعها كان مصحوبا بتفاؤل كبير، ورهان سياسي على إمكانية ضمانها للاستقرار وإنهاء الصراعات العرقية فيها، فإن ذلك لم يحدث كما أمل كثيرون.

ينبش في هذا الموضوع الوثائقي الفرنسي “إرث دايتون.. البوسنة، السلام الهش” (The Dayton Legacy: Bosnia, A Fragile Peace)، وقد شاركت في إنتاجه الجزيرة الوثائقية والجزيرة بلقان، وقام بكتابته وإخراجه “بيير أوليفييه فرانسوا” (2023).

يبحث الفيلم عميقا في الحالة البوسنية، ارتباطا بظهور الصراعات القومية مرة أخرى على السطح، وما يلازمها من انحيازات تُعمّق الانقسام السياسي والعرقي، وتشجع على الفساد واستغلال النفوذ، حتى باتت كلها تشكل تهديدا للسلام “الهش”، وتثير خوفا من أن يعود شبح الحرب إلى منطقة عانت الويلات والدمار.

حرب البوسنة.. نار مشتعلة بمنطقة متنوعة الأعراق والأديان

يمر الوثائقي الفرنسي في مفتتحه أمام واجهة المتحف التاريخي الواقع في نفس المكان الذي شهد اغتيال ولي عهد النمسا “فرانز فرديناند” وزوجته في 28 يونيو/ حزيران عام 1914 في سراييفو، على يد طالب صربي، وكان الحادث سببا في اندلاع الحرب العالمية الأولى، وكأن صانعه الفرنسي “بيير أوليفييه فرانسوا” يشير بهذا إلى أثر لجرح تاريخي لم يندمل بعد.

للإشارة إليه يتتبع مراحل تاريخية مرت بها البوسنة، وشكّل الوجود العثماني -الذي دام قرابة 400 سنة- فيها علامة بارزة في ثقافتها الإسلامية، ثم تلته هيمنة طويلة للإمبراطورية المجرية النمساوية عليها، ثم تحولت بعد الحرب العالمية الثانية إلى جزء من يوغسلافيا الموحدة.

كل تلك المراحل وتداخلاتها جعلتها ملتقى للغرب والشرق، ومكانا شهد تزاوجا بين الأديان والأعراق المختلفة، لكن بسبب ذلك التنوع العرقي ظهرت صراعات كانت الحرب الأهلية آخرها، وقد أثارها القوميون المتشددون الصرب عام 1992، وارتكبوا خلالها مجازر شنيعة بحق المسلمين البوسنيين، وراح ضحيتها قرابة 100 ألف إنسان.

لم تتوقف الحرب إلا بعد تدخل الولايات المتحدة الأمريكية فيها، فبسبب تقدم القوات البوسنية والكرواتية تحت الغطاء الجوي الأمريكي، أُجبر قادة الصرب على التفاوض من أجل إيقاف الحرب التي دامت 3 سنوات، وصنفت أسوأ الحروب الأهلية التي شهدتها أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية.

“اتفاقية دايتون”.. إيقاف المدفعية وتكريس الانقسام

لم تخمد جذوة نيران الحرب البوسنية والصراعات العرقية والقومية، حتى بعد توقيع “اتفاقية دايتون” عام 1995 تحت رعاية دولية، ويخصص الوثائقي لتفاصيلها وظروف توقيعها وقتا جيدا من مساره، ويعطي لبعض المشاركين فيها فرصة للحديث عن جوانبها الإيجابية والسلبية.

ومن بين أولئك المتحدثين “أيفو كومشيتش”، ويقول للوثائقي إن الاتفاقية نجحت في إيقاف الحرب، وكان طموح القادة الأوروبيين والأمريكان الراعين لها يتمثل بإيقافها فحسب، من دون مراعاة لما ستؤول إليه بنودها فيما بعد.

يرى “كومشيتش” أن الاتفاقية قد كبلت البوسنة، وكرست الانقسام، وأبعدتها عن مبادئ الديمقراطية، كما أنها خلقت نظاما إداريا وقانونيا معقدا، يسمح بالفساد واستغلال النفوذ، ومن الناحية السياسية يوفر مناخا للانفصال كلما سنحت الفرصة، للمطالبين به.

خوف أوروبي من انتقال الحرب من أكرانيا إلى البوسنة والهرسك

يقدم الوثائقي حالة جمهورية صربيسكا، التي حصلت على نصيب مهم من أراضي البوسنة وفق المعاهدة، ويديرها اليوم الصرب البوسنيون، ومع أنها تنعم باستقلال نسبي كبير، فقد برزت فيها في الآونة الماضية اتجاهات انفصالية قوية، يقودها زعيمهم “ميلوراد دوديك” المُطالب بتأسيس كيان مستقل كليا عن البوسنة، فهو يصرّح علنا -في تسجيلات مصورة يعرضها الفيلم- بعدم اعترافه بوجود دولة فيدرالية اسمها “جمهورية البوسنة والهرسك”.

مسيرة السلام.. تذكير بأهوال حرب لا تغيب عن الذاكرة

بسبب تحركات “ميلوراد دوديك” وتشجيع الصين وروسيا له بالانفصال، ولمواقفه المنحازة لغزو الرئيس الروسي “بوتين” لأوكرانيا، تحركت دول الوحدة الأوروبية للجم ذلك التوجه، خوفا من اتساع الحرب وانتقالها من أوكرانيا إلى البوسنة والهرسك، لذا أعلنت قبولها دولة مرشحة للانضمام إلى الوحدة الأوروبية.

يرى الوثائقي أن النفوذ الصيني والروسي داخل “جمهورية صربسكا” (أو جمهورية صرب البوسنة)، يشكل تهديدا للعالم الغربي، ويفتح المجال لـ”بوتين” لإحداث انشقاق في صفوفه، من أجل تحقيق أحلامه السياسية.

تثير دعوات الزعيم القومي الصربي للانفصال -ومعه أيضا الزعماء الكرواتيون الذين خرجوا من المعاهدة من دون الحصول على منطقة مستقلة- المخاوف من عودة الحرب الأهلية وويلاتها ثانية، وهي حرب لم تغب ذكرياتها من أذهان من عايشوها، وفقدوا أعزاء وأحبة لهم في مجازرها التي صارت “مجزرة سربرنيتسا” رمزا لها.

يوثق الفيلم “مسيرة السلام” التي يخرج فيها آلاف الناس سنويا، للتذكير بأهوال ما جرى في سربرنيستا، وما تعرض له المسلمون من إبادة جماعية على يد الجنرال الصربي “راتكو ملاديتش”، ودعوتهم المتكررة إلى عدم حدوثها ثانية.

لكن تحركات الزعيم “دوديك” تؤكد عدم اهتمامه بتلك الدعوات السلمية وإصراره المستمر على الادعاء بأن الانفصال هو الضامن الوحيد لحقوق المسيحيين الأرثوذكس، ويتقارب مع طرحه هذا الزعماء الكرواتيون الذين يدعون بأن “معاهدة دايتون” قد حرمت المسيحيين الكاثوليك من حصتهم الحقيقية في البلاد.

صفقات الفساد.. مصالح تهددها دعوات السلام والوحدة

تهدد المطالبة بالمحاصصة والانفصال وجود البوسنة، وتنسف فيدراليتها ووحدتها، وتعزز مكانة الأحزاب الكبيرة المغذية للأفكار القومية والعرقية فيها، لهذا تبرز اليوم أحزاب أخرى جديدة تدعو إلى احترام حقوق الإنسان، ونبذ الخطاب السياسي القومي المتطرف، ووضع الرجل المناسب في المكان المناسب، من دون النظر إلى قوميته أو دينه.

خطاب مختلف لأحزاب جديدة مختلفة في توجهاتها السياسية

لكن هذا الطرح يتعارض مع مصالح الزعماء الانفصاليين، ويحد من فسادهم، ولهذا يوجهون سهام نقدهم لتلك الأحزاب ويتهمونها بالخيانة.

لمعرفة ما يناله قادة “جمهورية صربيسكا” من الوضع الملتبس الذي خلقته المعاهدة، يذهب الوثائقي لمقابلة “إيفانا كوراجيليش” التي يطلق عليها زملاؤها لقب “محارِبة الفساد”، ليتعرف على طبيعة الفساد المنتشر في “جمهورية صربيسكا”، ويعرف منابعه.

شركات الصين.. تخريب للبيئة ونهب للثروات والموارد

يتضح من كلام محارِبة الفساد “إيفانا كوراجيليش” أن الاستثمارات التجارية -ولا سيما المتعلقة بالصناعة البترولية- تدار بشكل مستقل عن المركز الحكومي، وأن الصفقات المبرمة بين المستثمرين فيها، تبقى سرية، كما أن أرباحها تدخل في جيوب قادة الجمهورية الذين يفتحون أبوابها للاستثمارات الروسية، ويتقاربون بفضلها سياسيا واقتصاديا مع الرئيس “بوتين”، وهو ذو شعبية كبيرة فيها، وتظهر صوره في كل مكان من شوارعها وأحيائها السكنية.

تنشط الشركات الصينية في “جمهورية صربيسكا”، وتبرم صفقات تجارية غير قانونية، من دون دراية المركز الحكومي في سراييفو بها.

وتعمد هذه الشركات إلى استغلال الثروة الطبيعية في غرب البوسنة، وإقامة مشاريع مضرة بالبيئة تسمى “السدود الصغيرة”، وهي تؤدي إلى إهدار كميات كبيرة من المياه العذبة التي ترفدها الأنهار الكبيرة المعرضة اليوم للنضوب والتلوث، بسبب أعمال الشركات التي لا تراعي الضوابط القانونية، ولا تستطيع الحكومة الفيدرالية السيطرة عليها.

“الممثل السامي للبوسنة والهرسك”.. راعي السلام ومصدر الصراع

يتوقف الوثائقي طويلا أمام ضعف سيطرة الحكومة الفيدرالية، لما يمثله من خطر يشجع على الفساد، ويكرس الانقسام، ويظهر من مقابلة وزير الزراعة الألماني السابق “كريستيان شميت”، وهو المسؤول عن إدارة “الممثل السامي للبوسنة والهرسك”، وهي أعلى سلطة سياسية في البلد، ويعين الاتحاد الأوروبي مسؤولها، وقد أوكلت له مهمة الإشراف على اتفاق السلام المدني الذي أقرته “اتفاقية دايتون”.

مسيرة السلام تذكير بالحرب وويلاتها

خلال المقابلة يكشف “شميت” عن حجم التشابك والتعقيد الحاصل في إدارة الدولة، فقد تشكلت من هيئات قيادية يشترط توفر ممثلين للمجموعات العرقية الثلاث فيها (البوسنيين والصرب والكروات)، ولا يُتخذ أي قرار إلا بعد موافقة ممثلي تلك المجموعات.

ومن مفارقات الوضع الملتبس في البوسنة والهرسك اليوم، أن وجود الممثلية -بوصفها ضامنا للسلام المنشود- بات مصدرا للصراع، ويظهر هذا جليا بعد رفض “شميت” طلب “ميلوراد دوديك” زعيم صرب البوسنة بالانفصال عن الاتحاد الفيدرالي، وقد هجم بعدها على الممثلية، ووصفها بأنها كيان هجين يشكل وجودها انتهاكا لاستقلال البوسنة والهرسك، فالدولة التي يتخذ فيها رجل أجنبي أخطر القرارات لا تستحق أن تطلق عليها صفة دولة!

إلغاء نظام الكانتونات.. مطلب شعبي لإنهاء حالة الانقسام

يتوقف الوثائقي عند حقيقة ملفتة في غرابتها، فحديث زعيم الصرب البوسنيين “ميلوراد دوديك” عن انتهاك السيادة يقابله بفتح أبواب جمهوريته لزعماء أوروبيين يتقاسمون معه أفكار التطرف القومي، وهم يستغلون وجودهم داخل الوحدة الأوروبية لمنع أي خطوة من شأنها كشف فساده المستشري، ومن بين هؤلاء رئيس وزراء المجر “فكتور أوربان”، وهو يميني متشدد يدعم دعواته الانفصالية داخل الوحدة، ويمنع تحقيق الهيئات القانونية معه في أي تهمة فساد تثار ضده.

في الجانب البوسني ترتفع الأصوات المنادية بنبذ وإلغاء نظام “الكانتونات” الذي كرسته المعاهدة، فهو يزيد ضعف سيطرة الحكومة الفيدرالية، ويجعلها عاجزة عن إدارة البلد كما يفترض، لكونها تمثل الأغلبية السكانية، وعليه فإن من حق البوسنيين تسلم زمام القيادة، وفق ما تنص عليه أغلبية الدساتير في العالم.

لكن هذا الأمر غير مطبق عمليا، مما يجعل الانقسام أمرا واقعا، فحتى دول الوحدة الأوروبية غير قادرة على منعه، لأن المعاهدة -بحسب رأي عدد من المشاركين في الوثائقي- ركزت بشكل أساسي على ضمان حقوق المجموعات العرقية والقومية المتصارعة، من دون التفات إلى حقوق وحرية الأفراد.

هجرة السكان.. مصالح سياسية تغير التركيبة الشعبية

تزايدت هجرة البوسنيين -ولا سيما الشباب- إلى الدول الأوروبية المجاورة، بسبب الفوضى السياسية وحالة الانقسام، وحسب إحصائيات عام 2013 فإن خمس سكان البوسنة والهرسك قد هاجروا منها، مما يشكل خللا في التوازن السكاني، وإذا ما استمرت الهجرة على المنوال الجارية عليه، فإن نسبة كبار السن سوف تسود وتغلب على تركيبته السكانية خلال العقود القريبة.

تنوع عرقي لا يريده القادة القوميون

على المستوى الإداري والسياسي، تسعى الأحزاب الحاكمة الكبيرة على حصر شعاراتها وأهدافها بالقضايا القومية والعرقية، من دون الانتباه إلى المواطن العادي ومشاكله الاقتصادية، وهذا وحده كفيل بدفع الشباب لترك السياسة وألاعيبها للسياسيين التقليدين، الأمر الذي يريد الحريصون على بقاء البلد موحدا أن يغيروه ويضعوا مصلحة المواطن فوق مصلحة زعماء يزداد نفوذهم على حساب ثروات البلد الطبيعية وجهد أهله.

وتأكيدا على تلك الرغبة في التغيير والبقاء في البلد، ينقل الوثائقي في خاتمته صورة أم مع ابنتها الصبية، وهما تقطفان محصول الخضراوات التي زرعتاها في حقل قريب من منزلهما، وتتحدثان مباشرة أمام كاميرا الوثائقي عن ثقتهما بالمستقبل وتمسكهما بوحدة البوسنة والهرسك، على شدة انقساماتها والأخطار الجديدة التي تحيط بها، بسبب جشع وأنانية الزعماء القوميين المُفسدين.