“روجر ستون”.. تاجر سياسي يحرك خيوط اللعبة وينقلب على الدستور

تُظهر ملازمة المخرج الدنماركي “كريستوفر غولدبرانسن” الطويلة للمُخطِّط الإستراتيجي الأمريكي اليميني “روجر ستون” صورةً دقيقة عن شخصيته وعن أفكاره وسلوكه، وتكشف في الوقت نفسه دوره في التحريض على مهاجمة واقتحام مبنى البرلمان الأمريكي (كابيتول)، بعد فشله في إبطال نتائج الانتخابات الأمريكية 2020، التي أوصلت الرئيس “بايدن” إلى البيت الأبيض.

ومن خلال مرافقته الطويلة له يتعرف صانعه على جانب خطير من اللعبة السياسية الأمريكية التي تأتي بشخصيات مثله، شخصيات منفعية وأنانية ومستهترة بكل القيم، لا يهمها سوى الاستحواذ على السلطة والمال، حتى لو جاء ذلك على حساب البلد ومستقبله.

يشير المخرج في مفتتح فيلمه إلى الهاجس الذي دفعه لإنجاز وثائقيه “عاصفة مُتَنبَأة” (A Storm Foretold)، ويتمثل برغبته في معرفة المزيد عن السياسة الأمريكية من داخلها، وفهم أسباب بروز “الترامبية” وتزايد شعبيتها.

صديق الجمهوريين.. رجل المهمات الصعبة للساسة والرؤساء

ازداد الفضول السينمائي لدى المخرج “كريستوفر غولدبرانسن” بعد مشاهدته عملية اقتحام البرلمان يوم 6 يناير/ كانون الثاني 2021، وبروز اسم “روجر ستون” الذي هو واحد من المحرضين عليها، وتورطه قبلها في تلفيق تهم كاذبة، وتسريب معلومات شخصية حساسة عن المنافسة “هيلاري كلينتون”، بعد تواصله مع موقع “ويكيليكس” الذي سرب رسائل بريدها الإلكتروني، مما أدى إلى إضعاف موقفها التنافسي.

كما يبحث المخرج أيضا عن أسباب بقائه مقربا دائما من الجمهوريين وقادتهم طيلة ٤٠ عاما، وتكليفهم له بالمهمات الصعبة وإدارة الملفات الخطيرة منذ عهد “ريتشارد نيكسون”، وصولا إلى “دونالد ترامب” الذي قربه منه، حتى صار صعبا -بحسب وصف محللين- الفصل بين أفعالهما ومواقفهما اليمينية المتشددة.

كل هذا يجعله متحمسا لإكمال فيلم وثائقي، راهن عليه بكل ما يملك، بعد أن عجز عن الحصول على الدعم الإنتاجي اللازم.

مستقيم مخادع يتحرك في الظلام.. لاعب السياسة اليمينية

ينقل الوثائقي عبر تسجيلات مصورة المواقف المتضاربة حول شخصية “روجر ستون” ودوره، فبينما يصفه “ترامب” بأنه رجل مستقيم ومخلص جدا قوي الشخصية يحبه الناس، هناك في الجهة الأخرى المعارضة له من يصفه بالسياسي القبيح، الكذوب المخادع، المتحرك دوما في الظلام، اليميني الذي يحول السياسة الأمريكية إلى لعبة يتسلى بها ويجني منها السلطة والمال، ليعيش هو حياة مترفا من دون أي اعتبار للأخلاق والقيم.

في أول مقابلة مسجلة له مع المخرج يظهر “ستون” وهو يدخن السيجار الكوبي بانتشاء، مزهوا بما حقق من نجاحات، ولا سيما توصيل “ترامب” إلى دفة الحكم خلال انتخابات عام 2016، ويصفه بأنه أعظم رئيس أمريكي دخل البيت الأبيض بعد “أبراهام لينكولن”.

بعد أشهر قليلة من ذلك اللقاء وفي بداية عام 2019 يظهر “روجر” في مشهد بالأبيض والأسود خارجا من منزله مقيد اليدين، محاطا بعناصر مكتب التحقيقات الفيدرالي. يعود التسجيل إلى لحظة القبض عليه في منزله، بعد أن وجه إليه المحقق الخاص “روبرت مولر” عدة تهم، بشأن مزاعم عن وجود علاقة بين روسيا وحملة “ترامب” الانتخابية.

تنسيق مع قادة المنظمات اليمينة المتشددة والميليشيات المسلحة

وقد وجهت إليه لجنة التحقيقات البرلمانية الخاصة تهمة الإدلاء بتصريحات كاذبة تحت القسم، ومحاولة التأثير على الشهود، وتهديد أحد الأشخاص، من أجل التستر على الرئيس وإعاقة التحقيقات عن الوصول إلى الحقيقة.

تبرعات الجماهير.. وسائل الضغط لحماية الفاسدين

مع أن أدلة الاتهام كانت قوية، فقد استطاع “روجر ستون” أن يخرج بكفالة، في انتظار حلول موعد محاكمته.

تكشف محاكمته اللاحقة والعفو الذي أصدره الرئيس، وأسقط بموجبه كل الأحكام المتخذة بحقه، الآليات القانونية والسياسية التي يستخدمها الساسة اليمينيون، لتحقيق أهدافهم وحماية المدافعين عنهم، كما تكشف في الوقت نفسه الكيفية التي استغل “ستون” بها محاكمته، من أجل الحصول على المزيد من الأموال، لدفع أجور محاميه وإبقاء الكثير منها في جيبه.

ينقل الوثائقي مشاهد يظهر فيها المستشار، وهو يقود حملات لجمع التبرعات لنفسه قبل انعقاد المحكمة، وقد وصل مجموع إحداها إلى أكثر من مليون دولار، وهذه الأموال التي يحصل عليها من المؤيدين لسياسته والمتبرعين بسخاء له، يتسلمها أمام كاميرات الوثائقي، تارة تكون نقدا وتارة أخرى شيكات.

كان كل ذلك الدعم مقرونا بخطب يُوصلها الرئيس لجمهوره، من أجل الضغط على المحكمة وقضاتها بكل الوسائل، لا لشيء إلا لأنه وقف معه وشهد له زورا أمام المحققين.

“تاجر السياسة”.. صانع الفوضى ومشعل نيران المتشددين

يظهر “ستون” في تلك المشاهد كأنه “تاجر سياسة”، لا سياسي ومخطط استراتيجي خطير، كما أنه “رجل أعمال” يجمع بمهارة لافتة بين خطاباته المُضللة للجمهور، والداعية لإحداث انقلاب في آليات العمل الدستوري وتجاوزه، بذريعة الحاجة لاستعادة أمريكا لقوتها التي فقدتها خلال حكم الديمقراطيين، وبين مصالحه الشخصية وحصوله على مزيد من الأموال من مؤيديه ومن سطوته السياسية ومركزه المقرب من الرئيس.

في الفندق يشاهد ستون شاشة التلفزيون والمواجهات العنيفة قبل هروبه إلى فلوريدا

بعد العفو عنه، وخلال نشاطه المحموم لإبقاء “ترامب” في دفة الحكم، عبر التخطيط لفوزه بالانتخابات المرتقبة عام 2020، يشعر المستشار بالزهو، ويتصرف أمام عدسات الوثائقي من دون تحفظ، كأنه قائد سياسي يفعل كل ما يحلو له، ويقول كل ما يخطر على باله من دون خوف أو وجل، فيشتم الخصوم ويمجد “الترامبية”، ويحرض علنا على المنظمات اليسارية، ويرفض الاعتراف بالحيف والتمييز الذي يتعرض له السود في بلدهم.

يغذي “ستون” الفكر اليميني المتشدد بدهاء، من خلال صلته المباشرة بالجمهوريين المتشددين، ويشكل موقع “إنفو وورز” (Infowars) أحد أخطر الوسائل المؤثرة على عقول الجمهور، ويتخذ “ستون” كل ذلك وسيلة لتقوية المنظمات العنصرية والميليشيات اليمينية المسلحة، مثل: “براود بويز” و”آوث كيبيرز”، والتنسيق معها في كل خطوة مستقبلية يريد القيام بها.

سرقة الانتخابات.. حملة تستبق الأحداث قبل النتائج

يتابع “ستون” تقارير وإحصائيات توجهات الناخبين الأمريكيين، قبل ذهابه للإدلاء بصوته في صناديق الاقتراع، فيراها تشير إلى تراجع شعبية “ترامب”، مما يثير قلقه ويجعله على ضوء ذلك يفكر بالعودة والعمل بالخطة التي وضعها عام ٢٠١٥، أي قبل انتخابات 2016 بعام واحد.

وكان قد ركز في تلك الحملة على أنه إذا خسر المرشح الجمهوري، فإن وسائل التواصل التابعة له تبدأ على الفور حملة واسعة، تشيع من خلالها “كذبة” أن الديمقراطيين قد سرقوا الانتخابات، وأن مرشح الجمهوريين كان فائزا فيها، وبهذا يطالبون فورا بـ”وقف السرقة”، وإعادة الأصوات المسروقة إلى صاحبها.

ومن أجل تحقيق خطته في انتخابات 2020، أخذ يروج عمليا لفكرة “سرقة الانتخابات” من قبل الديمقراطيين، حتى قبل إعلان النتائج، وادعى أنهم يُجَندون اليسار والمنظمات المناهضة لسياستهم اليمينية، من أجل سرقة الأصوات.

مرتديا بدلة تحمل ألوان العلم الأمريكي للتظاهر بوطنيته

يكلف “ستون” قادة المنظمات اليمينية المتشددة والجماعات المسلحة، للقيام بكل ما من شأنه إثارة الصراعات الداخلية، واحداث استقطاب مجتمعي وسياسي داخل الولايات المتحدة الأمريكية، فيطالبهم بافتعال مواجهات مسلحة وعنيفة مع السود والمنظمات اليسارية، ويدعوهم لاستخدام العنف فيها من دون قيود، حتى لو أدى الأمر إلى قتل بعضهم.

إيقاف الفيلم.. قرار مستهتر كاد يودي بحياة المخرج

خلال تلك الحملة يعلن “ستون” فجأة تكليف شركة إنتاج جديدة لعمل وثائقي عنه، بدلا من الفيلم الذي يشتغل عليه مخرج هذا الفيلم “كريستوفر”، ويبرر خطوته بأن “كريستوفر” يمتنع عن دفع المال له مقابل مشاركته في الفيلم، في حين يؤكد المخرج أنه قد فهم منه أن هذا المطلب قد تخلى عنه، ولهذا شرع بالعمل عليه، وبسبب شح الدعم المالي له فقد دفع تكاليفه من جيبه من أجل إكمال الفيلم، ولهذا فإن إيقاف العمل به قبل إتمامه يعني خسارته لحلمه ولكل مدخراته الشخصية.

وعلى ضوء القرار المجحف بحقه، يعود المخرج إلى وطنه، وهناك يتعرض لنوبة قلبية كادت تؤدي بحياته، وينقل الوثائقي مشاهد حزينة من داخل قاعة للتدريب الرياضي، يظهر فيها ساقطا على أرضيتها، وقد هرع لنجدته بعض الأشخاص، فأنقذوا حياته بعد “موت” قلبه للحظات.

وبعد أيام يتواصل “ستون” معه من دون مقدمات، ويطلب منه العودة لإكمال فيلمه، وكأن شيئا لم يحدث. يكشف تعامله مع المخرج عن قساوة وعدم اهتمام بالآخر، فكل ما يهمه هو مصلحته وما يحصل عليه من مال، أما مصير الأفراد فلا شأن له به.

اقتحام البرلمان.. انقلاب يكشف عورة السياسة الأمريكية

ينتقل الوثائقي إلى المرحلة التي سبقت إعلان نتائج الانتخابات، وأخذ “ترامب” بالخطة التي وضعها مستشاره، وهي تشدد على كشف التلاعبات والتزوير الحاصل فيها، والاتفاق بين جميع الأطراف المشاركة في الخطة على ترديد عبارة “وقف السرقة”، وقد كررها الرئيس نفسه قبل ساعات من اقتحام مؤيديه للبرلمان يوم 6 من يناير/ كانون الثاني 2021.

شهادة زور أمام لجنة التحقيق

مثّل ذلك انقلابا فعليا على الشرعية الدستورية، على حد تعبير صانع الوثائقي الذي رافق كل تلك المرحلة، ووثقها من خلال ملازمته لرجل خطط لها، وساعد على تنفيذها.

وعند اللحظة التي انطلقت فيها المواجهات بين حراس المبنى والمقتحمين وسقوط قتلى وجرحى بسببها، قرر “ستون” الهروب من واشنطن إلى منزله في فلوريدا، في انتظار أن تهدأ العاصفة التي ينبئ حدوثها بمتغيرات حاصلة في البنية السياسية الأمريكية.

ومن أشد تمظهرات تلك التغيرات حركة “الترامبية” التي هزت صورة أمريكا، وكشفت عيوب لعبتها السياسية التي تسمح لرجال مثل “روجر ستون” باستغلالها، من أجل مصالحه الشخصية، والذهاب من دون تردد إلى أبعد مدى من الاستهتار بكل القيم والأعراف السياسية والأخلاقية.