“عدو عدوي”.. حلفاء المحتل الفاسدون يعبثون بأرواح الأفغان وأعراضهم

قرر المخرجان الدنماركيان “مارتين تام أندرسن” و”نجيب خاجه” عام 2020 الرجوع إلى أفغانستان، لتقصي الحقائق ومعرفة صحة التقارير التي تسربت أثناء الوجود العسكري للقوات الأمريكية في أفغانستان، عن فساد الشرطة الأفغانية المتعاونة معها، وانتهاك قادتها لأبسط حقوق المواطن الأفغاني.

وكان قد مر على ذلك قرابة عقدين من الزمن، تَغيّر فيها الكثير ولم يبقَ من جيش الاحتلال سوى وحدات صغيرة، كانت تتهيأ للانسحاب من البلد، بعد أن باتت سيطرة طالبان على أكثر مساحاته أمرا واقعا، أما القليل الباقي منها، فما زال خاضعا لسيطرة رجال الشرطة الأفغانية.

أراد صناع الوثائقي “عدو عدوي.. الخديعة في هلمند” (Min fjendes fjende: Bedraget i Helmand) استغلال وجودهم في موسى قلعة لمقابلة رجال الشرطة وجها لوجه، والتوصل من خلالهم إلى حقيقة ما أُشيع عن فسادهم وتصرفاتهم الوحشية ضد السكان المحليين، مثل اغتصاب الأطفال، وكان ذلك سببا في كراهية الناس لهم، وعاملا من عوامل فشل الإستراتيجية الأمريكية الهادفة إلى كسب ثقة الناس بهم وبمشروعهم.

حليفا القوات الأجنبية.. أخوان يعيثان فسادا بالأرواح والأعراض

في طريقهما إلى ولاية هلمند يتصل صانعا الفيلم بـ”عيسى خان”، وهو مسؤول الشرطة المحلية في منطقة موسى قلعة، ويطلبان إجراء مقابلة معه، مدّعيين أنهما يريدان التعرف على طبيعة التعاون بينهم وبين القوات البريطانية والدنماركية المساندة لها في المنطقة، ويطلبان منه أيضا إحضار أخيه “كوكا خان” الذي كان مديرا للشرطة المحلية قبله، ولكن بعد إصابته عينت القوات الأجنبية “عيسى” بدلا منه في نفس المنصب.

من حديث المخرج “أندرسن” وهو في طريقه لمقابلة الأخوين، تتبيّن أسباب عودته إلى هلمند، ومن بينها أنه في عام 2006 كان يخدم مجندا في القوات الدنماركية هناك، وخلال تلك الفترة سمع إشاعات عن فساد قادة الشرطة وتورط الأخوين “خان” بتجارة المخدرات واستغلالهما للمنصب، ناهيك عن اعتداءاتهما الجنسية المتكررة على الصبيان.

الآن وقد انتهى من خدمته العسكرية وعمل في حقل الصحافة والسينما، يقرر “أندرسن” التحقق من صحة تلك الشائعات، بمعاونة زميله “خاجة” وصحفي محلي هدده الأخوان “خان” بالقتل، وكانا قد أشاعا الخوف في قلوب السكان المحليين، ويتداول عنهما الناس قصصا فظيعة، تُظهِر تفاصيلها قساوتهما وانتهاكاتهما لأملاك وأعراض الناس، ومع كل ذلك فقد ظلا حليفين لقوات التحالف الأجنبي طيلة 20 عاما، فقد الناس فيها الثقة بهم وبمشروعهم.

رجال الشرطة.. هوس تعاطي الأفيون واغتصاب الأطفال

يستعرض الوثائقي جانبا من تاريخ الاحتلال الذي جاء بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001، وقد رافقته أول الأمر بعض النجاحات، ولكن بعد سنوات قليلة أخذت الاضطرابات تظهر في الأقاليم الجنوبية، ونشطت حركة طالبان المسلحة فيها، فدفع ذلك قادة التحالف للاستعانة بالقوات البريطانية والدنماركية، لبسط الأمن في منطقة هلمند.

للتعمق في تفاصيل العلاقة التي ربطت بين قادة الجيوش في هلمند وبين الأخوين “خان”، يستعين الوثائقي بقادة عسكريين بريطانيين ودنماركيين وبجنود شاركوا فيها، فقد كانت الحاجة لوجود وسيط بينهم وبين سكان المنطقة أمرا ضروريا، لهذا عُيّن “كوكا” رئيسا لجهاز الشرطة، ومُنح صلاحيات كبيرة، ثم بعد إصابته عين أخوه “عيسى” بدلا منه.

ومع أن المساحة التي يسيطر عليها باتت صغيرة شبه معزولة، منذ أن حاصرت قوات طالبان المنطقة، فإن مسؤول الشرطة الجديد لم يزل يمارس سلطته المطلقة على السكان، ويتصرف بأرواحهم وأملاكهم وأجسادهم كما يشتهي.

يقابل الوثائقي شابا طلب عدم إظهار وجهه أمام الكاميرا، ليروي قصة اغتصابه وهو ابن 10 سنين، من قبل رجال شرطة تابعين لـ”كوكا”، فقد اختطفوه أولا من منزله، ثم عذبوه وأجبروه على ما يشتهون، وكان كل ذلك بموافقة رئيس الشرطة، بل كان هو نفسه يفعل ما يفعلون بالأطفال العاملين في مكتبه.

يتوسط رئيس الشرطة المخرجين

يلاحظ الصحفيان أن رجال الشرطة المحيطين بـ”عيسى” تظهر عليهم بوضوح آثار تعاطي المخدرات، وعندما سألاه عن السبب، اعترف أنه يتعاطى معهم “الأفيون” أيضا، من أجل التزود بالطاقة والشجاعة المطلوبة لمواجهة مسلحي طالبان!

“لم يكونوا أصدقاء بل مجرمين مخادعين”

يُعيد كلام رئيس الشرطة إلى ذهن الصحفي الدنماركي ما كان يشعر به خلال فترة خدمته، من أن ثمة خديعة في الأمر، وأن الرجال الذين اعتمدوا عليهم لم يكونوا أصدقاء لهم، بل مجرمين خدعوهم وتقربوا منهم، طمعا في الامتيازات والحماية التي كانت قوات التحالف توفرها لهم.

يقابل صانعا الوثائقي مجندة دنماركية تحكي عن مشاهدتها بأم عينيها لضباط شرطة، كانوا يستغلون جنسيا الأطفال الذين يعملون عندهم صُنّاعا للشاي، وعندما أوصلت ما رأته في تقرير لمسؤولها البريطاني طلب منها عدم التدخل في الأمر، بحجة أن هذه الممارسة هي جزء من ثقافة البلد.

تظل هذه الفكرة ثابتة في ذهن الصحفي الدنماركي، فهو مصرّ على التأكد من صحتها، ولكن يَتضح له من خلال مقابلته لشيوخ أفغان ورجال دين أن هذا كذب بَيّن ومتعمد، يراد به أن لا يوضع حد لانتهاكات الأخوين “خان” وبقية رجال الشرطة، خوفا من مواجهة محتملة معهم.

لا يكتفي الوثائقي بذلك، بل يذهب للقرى القريبة، ويقابل أفرادا منها يحكون أمام كاميراته الأساليب الفظيعة التي كان يمارسها قائد الشرطة وزبانيته معهم، ومن بينها انتزاع أولادهم الصغار منهم عنوة، وأخذهم إلى أماكن مجهولة، فإما أن يعودوا منها وقد اغتصبوا، وإما أن يُقتلوا ولا يُعثر لهم بعدها على أثر.

وإذا ما اعترض أحد السكان على أفعالهم، جاؤوا إلى بيته وأشعلوا النار فيه. يقابل الوثائقي رجلا قتلت الشرطة أخاه، ثم حرقت بيته وبداخله ابنه الصغير.

إطلاق تاجر المخدرات.. قائد سياسي يشفع لدى قوات التحالف

يتوصل الصحفيان إلى حقيقة أن الخداع الذي مارسه الأخوان “خان” لم يكن منفصلا عن خداع قادة سياسيين آخرين اعتمدت قوات التحالف عليهم، لكنهم لم يكونوا سوى رجال عصابات فاسدين، اتفقوا على استغلال وجود المحتل وتغطيته لهم، لإخفاء غاياتهم.

عيسى خان وحش بزي شرطي

يستعين صانعا الوثائق بشهادات وتسجيلات (فيديو) تؤكد ذلك الاستنتاج، فبعد وصول تقارير عن تورط “كوكا” في عمليات زراعة وبيع الأفيون، قررت قوات التحالف اعتقاله، ثم بعد مضي قرابة 6 أشهر على سجنه في قاعدة سوراب الجوية، أُطلق سراحه بشفاعة من السياسي المتنفذ “شير محمد أخونزاده”، وبعد مرور أقل من 3 أشهر على خروجه من السجن عاد للسيطرة على كل محاصيل الأفيون في المنطقة.

وقبل مقابلة “أخونزاده” في كابُل، يرافق الوثائقي مدير شرطة موسى قلعة في جولة تفتيشية على فلاحي المنطقة، وحين يدخل حقل أحدهم وقد زرعه بالأفيون، يطلب منه ضاحكا “التعاون” معه، من أجل توفير الحماية اللازمة للاستمرار بزراعته.

يحيل الفلاح أسباب تركه لزراعة بقية المحاصيل وتركيزه على الأفيون، إلى سياسة مسؤولي المنطقة، فهم يتعمدون عدم مساعدتهم على زراعة بقية المحاصيل، وذلك من أجل إجبارهم على زراعة الأفيون، فهو لا يحتاج إلى مياه كثيرة، ولا إلى سماد غالي الثمن.

محافظ الولاية وصديق الرئيس.. زعيم مخدرات في هرم السلطة

بعد الزيارة يذهب المخرجان إلى العاصمة كابُل، لمقابلة عضو البرلمان الأفغاني “أخونزاده”، ويخبرانه أنهما شاهدا تسجيلات (فيديو) تُظهر قوات الجيش والشرطة وهي تقتحم منزله، وتعثر على كميات كبيرة من المخدرات فيه، لكنه ينكر وجودها ويكذب التقارير، كما يتنكر للعلاقة التي تربطه بالأخوين “خان”.

يتحرى الوثائقي في علاقة النائب البرلماني وتاجر المخدرات بالقيادة السياسة الأفغانية، فيظهر أنه كان من المقربين للرئيس السابق “حامد كرزاي”، وأنه كان صديقا له، وقد عيّنه محافظا لولاية هلمند، وكان على تواصل دائم مع رئيس شرطتها “كوكا خان”.

صاتعا الوثائقي في طريقهما إلى مقاطعة هلمند

يتوصل أيضا إلى أنه في عام 2006 ومع وصول القوات الدنماركية والبريطانية لمنطقة موسى قلعة، كان “كوكا خان” يتولى مسؤولية إدارة مزارع أفيون “أخونزاده”، وتعليقا على هذا الوضع يقول أحد الضباط البريطانيين: أن يتشارك مهرب مخدرات مع رجل شرطة في زراعة وبيع المخدرات، فهذا يعني أن تاجر المخدرات قد أصبح شرطيا.

“ساهم فسادهم في عودة طالبان إلى سدة الحكم”

يتزامن وجود صانعا الوثائقي مع اكتمال سيطرة طالبان على أكثر مساحات أفغانستان عام 2021، وعليه قرر الأمريكان والناتو ترك البلد لهم، وينقل الوثائقي مشاهد لعملية الانسحاب ودخول طالبان إلى هلمند.

يقابل الفيلم شخصيات من أبناء المنطقة، كانوا قد انضموا إلى قوات طالبان بسبب جور وممارسات الشرطة، ويصف أحدهم الوضع قائلا: “لقد ساهم فسادهم في عودة طالبان إلى سدة الحكم ثانية”. ويتفق كثير من الضباط المشاركين في الوثائقي ممن كانوا هناك على صحة هذا الاستنتاج، ناهيك عن أسباب أخرى جوهرية، تتعلق بخطأ قرار احتلال أفغانستان أصلا.

يتصل الوثائقي بـ”عيسى” ويطلب منه التعليق على ما ورد على لسان كثير من أبناء المنطقة، ممن ذاقوا العذاب على يده ويد أخيه، لكنه لم يجب على التساؤلات، بل قطع الاتصال بهم واختفى، ومع ذلك يصر الوثائقي على تأكيد فكرة الخداع التي تعرض لها قادة الجيوش المحتلة، من قِبل مجرمين أقنعوهم بأن عداءهم لطالبان يجعلهم أصدقاء لهم، وأن المثل الشعبي “عدو عدوي صديقي” ينطبق عليهم.

شهادات حية لأطفال أفغان اعتدت الشرطة الأفغانية عليهم جنسيا

ولتأكيد رفضه لذلك الادعاء الكاذب، يضع صُناع الوثائقي عنوانا ناقصا بتعمد، ويكتفون بعبارة “عدو عدوي: الخديعة في هلمند”، دلالةً على أنه في التجربة الأفغانية ليس صوابا تصديق أن أعداء طالبان هؤلاء، كانوا أصدقاء لقوات التحالف، بل هم مجرد لصوص ومجرمين أرادوا الاستفادة من الأوضاع المرتبكة في بلدهم!