اليورو.. كيف توحدت أوروبا وأوقفت حربها؟

أملَت نتائج الحرب العالمية الثانية فكرة الاتحاد النقدي العبقرية، فقد خلص الرئيس الأول للاتحاد المسيحي الاجتماعي (الألماني) إلى أنّ أوروبا تحتاج إلى عملة موحدة، “لأنّ الدول التي تتشارك بالعملة لا تنشب الحروب بينها”.

فمنذ أن صمتت البنادق في الجبهات، حدّدت أوروبا غايتها القصوى من تكاملها الاقتصادي، وهو أن لا تكتوي بالنار نفسها مرتين. وانطلاقا من هذه القناعة ضبطت أهدافها، وجعلت التضامن على رأسها.

يعرض الجزء الثاني من فيلم “قصة اليورو” للمخرجة الإيطالية “أناليزا بيراس” ما حقّقه تداول اليورو من الإنجازات لمستخدميه وما أثار من الهزّات التي كادت أن تقوّض تضامنهم.

ميلاد اليورو.. بهجة أمّ تستقبل وليدها أول مرّة

بعد استيفاء كل الشروط لظهور عملة اليورو، أُطلقت مسابقة أوروبية لتصميمها عام 1993، وكانت العملية معقدة وطويلة، وقد اختير تصميم المصرفي النمساوي “روبرت كالينا”، بعد استفتاء عام شارك في ضبط معاييره سياسيون ومؤرخون ومصممون وعلماء نفس، وأشرف عليها معهد النقد الأوروبي (إي إم آي).

ويعود هذا التعقيد إلى البعد الرمزي للعملات عامة، لما لها من صلات بهوية بلدانها وتاريخها وثقافتها. وكان على اليورو أن يختزل الامتداد الطويل للتاريخ والثقافة الأوروبيين.

إعلان ميلاد اليورو سنة 1999

كانت بهجة استقبال العملة المعدنية الجديدة في العام 1999 مصدرا لشعور السّياسيين بالفخر لنجاح مشروعهم، ويورد الفيلم مشاهد من هذه اللحظة المؤثرة التي شبّهت باستقبال الأم لوليدها وفرحها لولادته بصحة كاملة.

وفي العام 2001 كُشف النقاب عن تصميم الأوراق المالية، فقد زُخرفت بهندسة معمارية خيالية تشتمل على نوافذ وبوابات من جهة، وجسور من الجهة المقابلة، ومثّل كل مبنى حقبة من التاريخ الأوروبي، بداية من العهود الرومانية إلى عصرنا الحالي.

أحد الساسة ينفق اليورو الأول الذي ناله لشراء باقة من الورد لزوجته

وفي العام 2002، استُعمل اليورو في التداول بين المواطنين الأوروبيين، وكان الساسة الذين أشرفوا على الترتيبات الأخيرة أول من حظي بهذا الشرف، فقد أنفق كل منهم اليورو الأول الذي ناله لشراء باقة من الورد لزوجته من كشك في فيينا، قريب من مقر اجتماعهم.

“لست مؤمنا بأن هذا سينجح”.. رهان أمريكي بريطاني على فشل العملة

لا يستطيع الوزير الأول الإيطالي السابق “روماني برودي” إخفاء فخره بإسهامه في صناعة هذا “الرباط الذي سيجعل أوروبا متحدة”. وبالقدر نفسه يعبّر “ثيو وايغل” (وزير المالية الاتحادي الألماني) عن عظيم سعادته بقدرته على رفع التّحدي.

“ثيو وايغل”، وزير المالية الاتحادي الألماني

ويجد “وايغل” الوقت مناسبا جدّا ليذكّر بحملة تشكيك الولايات المتحدة والمملكة المتحدة بقدرة الأوروبيين على ربح الرّهان، فيعرض واقعة جرت بينه وبين صديقه “بوب روبين” وزير الخزانة الأمريكي، فقد كان يطمع منه في ثناء يخدم صورته في المعترك السياسي لمّا سأله: ألا تستطيع أن تقول كلمة إيجابية بحق اليورو؟

وكانت إجابة الوزير الأمريكي صادمة، فقد قال له: “الأفضل ألا أقول شيئا، فلست مؤمنا كثيرا بأن هذا سينجح”. ويعود اسم الإشارة في كلامه على مشروع الوحدة النقدية الأوروبية.

“رومانو برودي” رئيس وزراء إيطاليا الأسبق

أما “ألان جرينسبان” رئيس مجلس المحافظين للنظام الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، فقد ظل يردّد أنّ احتمالات نجاح اليورو صفر أو ما دون ذلك.

ولا ينكر الإيطالي “رومانو برودي” امتنانه للصين بالمقابل، فقد كانت الصين تحمل هذه الوحدة النقدية محمل الجد، وبدأت في شرائها معبّرة عن جدوى وجود العالم متعدد الأقطاب، متسائلة في الآن نفسه عن تأثير التعامل باليورو في مستقبل عملتها الوطنية “الرنمينبي”.

هزات الطريق.. انتكاسات ونجاحات غير متوقعة

بات اليورو العملة الرسمية لدى 20 دولة من أصل 28 دولة أعضاء في الاتحاد الأوروبي، كما أنها تعتمد في 6 دول من غير الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، وخلال 22 سنة (تاريخ إخراج الفيلم 2021) مرّ اليورو بعدة تقلبات تراوحت بين القوة والضعف وبين الصعود والهبوط.

كانت البداية واعدة حقا، فقد أبدى اليورو قدرة جيدة على منافسة الدولار، وأقبلت جهات عدة على اعتماده في تعاملاتها بدلا من العملة الأمريكية. ومع أن كثيرا منها تراجع لاحقا، فإن التعامل به خارج الاتحاد الأوروبي لا يزال معتبرا، إذ يُحتفظ بما بين ثلث إجمالي الأوراق النقدية باليورو ونصفها خارج منطقة اليورو.

في عام 2001 طرح البنك المركزي الأوروبي الأوراق النقدية لليورو

كما أنه يمثل خُمس احتياطيات النقد الأجنبي المملوكة للبنوك المركزية، وتقوم نسبة مماثلة من القروض والسندات عبر الحدود باليورو.

وبعد أن فاقت قيمة اليورو الدولار، انخفض سعر صرفه إلى مستوى مكافئ له في بداية العشرية الثالثة. وحدث ذلك للمرة الأولى منذ 20 عاما. ومن شأن هذه الانتكاسة أن ترفع الأسعار، وتؤثر بشكل سلبي على القدرة الشرائية والاستهلاك والنمو. وإلى اليوم يظل اليورو يعاني من الهشاشة في مواجهة التقلبات السياسية، فقد كان أكثر حساسية لتأثير الحرب الروسية الأوكرانية، مع أن الولايات المتحدة منخرطة بشكل أعمق.

أزمة اليونان.. كارثة اقتصادية تهز مبدأ التضامن الأوروبي

أثبتت تجربة اليورو أن التضامن -الذي اعتبر المبدأ الأساسي للوحدة الأوروبية- هش أيضا، فقد كان يهتز عند الأزمات، وكان أول هذه الاختبارات العسيرة هو الأزمة الاقتصادية اليونانية، فقد اتضح أن اليونان تلاعبت بأرقامها حتى تبدو مستجيبة للمعايير المطلوبة للانخراط في الاتحاد، وقد قُبلت بسبب غياب المراقبة الجادّة. فمن الطبيعي أن تسوء الأمور وتنتهي بها إلى أزمة اقتصادية حادة (2009-2015).

أزمة اليونان كانت واحدة من الاختبارات القوية التي عصفت بالاتحاد الأوروبي

لقد كانت اليونان حينها عالقة تماما، وبدا الاتحاد عاجزا عن مساعدتها المساعدة الفاعلة لتجاوز محنتها، دون أن تقبل بالإصلاحات المؤلمة وتضع سلمها الأهلي في الميزان. وبالمقابل عمد إلى ابتزازها فخيّرها بين القيام بالإصلاحات المطلوبة أو تجميد عضويتها، وهو يعلم أن انسحابها من المنطقة انتحار لها.

ومن الأزمات -التي وضعت مبدأ التضامن على المحكّ- تسونامي الرّهن العقاري الذي ضرب مركزه الولايات المتحدة الأمريكية، ووصلت موجاته القوية إلى أوروبا، وكذلك أيضا أزمة كورونا.

ويعني “مبدأ التضامن” -في بعده الاقتصادي- إعطاء اليورو صفة الموثوقية من قبل الاتحاد كلّه، وتبني أوروبا الدين المشترك دون وضع العبء على الدول المدينة وحدها، وقد مُنح البنك المركزي الأوروبي السلطة اللازمة لإصدار سندات مشتركة ودعم الديون المشتركة، ذلك أنّ الانخراط في الاتحاد يعني التنازل عن قسم من سيادة الدولة لهياكله وفقدانها لقدر من سلطة القرار.

أزمة 2008 المالية كانت أصعب اختبارات اليورو

ويربك هذا العنصر السياسيين أمام ناخبيهم في البلدان التي تدفع تكلفة أزمات أعضاء آخرين، فتدخل الاتحاد بفاعلية في الأزمة اليونانية كان سيكلفه 30 مليار يورو. ولكن الإجراءات لم تتّخذ في الوقت المناسب بسبب انتخابات ألمانيا الداخلية وحسابات الفرقاء السياسيين وتأثير هجمات اليمين، وقد ضاعف تأخير الإجراءات الحاسمة لهذه الأسباب من خسائر الاتحاد عشر مرّات، حتى وصلت التكلفة النهائية إلى 300 مليار.

فوضى الشعبوية.. صخب سياسي يفسد التوازن الأوروبي

يشخص الفيلم هنات كثيرة يعاني منها اليورو، منها غياب نظام مصرفي مشترك، مع أن لديهم بنكا مركزيا مستقل القرار، ومنها تأثير الساسة الشعبويين الذين يترصدون الأزمات لإحداث الفوضى في كل مرة بخطاب يميني متطرّف، يجد آذانا صاغية عند الناخبين، ويحد اندفاع منافسيهم في تحقيق التكامل الأوروبي، ومنها عجز النظام المالي عن إصلاح نفسه تلقائيا، وذلك لسلوك السياسيين المالي غير المسؤول.

ونتيجة لهذه الهنات، وبسبب سياسة التقشف التي اعتمدها الساسة وميلهم إلى الحلول السهلة، أُصيب الاقتصاد الأوروبي بالكساد، وكانت عواقبه وخيمة. وبالمقابل كان اقتصاد أمريكا والصين ينتعشان.

“جان كاتريمر” مراسل صحيفي مختص في الاقتصاد

يشرح المختص في الاقتصاد “جان كاتريمر” الأمر بالتشبيه والاستعارة، فيجعل تعامل الساسة مع الأزمات كأكل الأطفال لمرطبان المربى، فإن لم تمنعهم أمهاتهم من ذلك فسيأكلونه كله، وهذا ما كان السياسيون يفعلونه باختيار سياسات تناسب هوى النّاخبين، مع أنها غير ناجعة على المدى البعيد.

ويشبه “جان كلود يونكر” -وهو رئيس المفوضية الأوروبية- محاولة إنقاذ الاقتصاد الأوروبي في الفترة 2014-2019، بإصلاح طائرة مشتعلة وهي في الجو، أو بمن تغمره المياه وليس له مجداف أو سترة نجاة.

“ماريو دراغي” رئيس البنك المركزي الأوروبي

ومع كل هذه الهنات، تعلن الفرنسية “كريستين لاغارد” رئيسة البنك المركزي الأوروبي تخطيط البنك لابتكار عملة رقمية أوروبية في غضون سنوات، ومن شأن ذلك أن يحدث تغييرا جذريا في القطاع المالي لمنطقة اليورو، مع أن المؤسسات المصرفية تتوجس من خسارة ودائع عملائها لصالح المحافظ الافتراضية عند صدور العملة الإلكترونية الأوروبية “اليورو الرقمي”.

كما أنها تطرح سؤالا حول جدوى إصدار اليورو الرقمي، في ظلّ وجود وسائل دفع فعّالة قادرة على التعاطي مع المجال الافتراضي.

وحدة المتصارعين.. خطة الشمال الناعمة لتقاسم ثروات العالم

تبقى الوحدة الأوروبية -على علاتها وعثراتها أحيانا- من دروس التاريخ التي استوعبتها أوروبا جيّدا، فقد أيقنت أنّ الحروب لا تخلّف إلاّ الدمار والمآسي الإنسانية، ولا تخلو الصيغة التي انتهت إليها أوروبا من ابتكار، لما فيها من جمع بين وحدة المصير، والحفاظ على خصوصيات كل بلد.

فتتمثل وحدة المصير في التكامل الاقتصادي والسياسي والعسكري (الذي يضمنه الحلف الأطلسي)، وتضمن في الآن نفسه حرية الحركة داخل الاتحاد عبر منطقة شنغن، فقد توحّدت عدّة دول تقع على القارة الأوروبية، لتُشكّل منطقةً مشتركة يتنقل فيها الأشخاص بحرية، ويشملها قانونٌ أوروبيّ يحدّد إجراءات منح التأشيرات وشروط الإقامة القصيرة الأجل، للعبور أو للإقامة في أراضي بلدٍ من الاتحاد الأوروبي.

وحدة المصير في التكامل الاقتصادي والسياسي والعسكري في أوروبا تجمع بين فرقاء الأمس

ولا شك أن من يتأمل التجربة في عمقها، سيجد فيها -على نحو ما- صورة لأوروبا الاستعمارية بالأمس، فالتصادم بين الدول الأوروبية في القرنين التاسع عشر والعشرين، كان بسبب التكالب على نهب خيرات الدول الضعيفة.

ومع أن الاتحاد الأوروبي لم يغيّر هذه الأهداف البعيدة، وهي الهيمنة الاقتصادية، وتحقيق الرخاء لأوروبا على حساب بقية الدّول، فإنه اختار اعتماد القوة الناعمة لفرض إرادته، والتحالف لنيل هذه الخيرات وتقاسمها بدل التصادم.

وليس أدلّ على ذلك من البون الكبير اليوم بين دول الشمال المزدهرة والمستقرّة، ودول الجنوب التي تعاني حروبا أهلية مصطنعة غالبا، وتواجه الإرهاب، ويكاد دورها يختزل في احتضان الصناعات الملوثة، تحت عنوان الاستثمار، حتى تحوّلت لسوق تباع فيه سلع هذا الاتحاد التي تصنع ازدهاره.

دروس الوحدة.. حصة دراسية لم يحضرها العالم العربي

يبدو أن دولا عدة استوعبت الدرس الأوروبي جيدا، فبدأت تبحث عن التحالفات الاقتصادية المجدية، ولعلّ التّجمع الأكثر جدية اليوم هو تجمّع “بريكس” الذي يضمّ البرازيل وروسيا والهند والصين، ثم انضمت إليه جنوب أفريقيا، وتلت ذلك السعودية ومصر والإمارات والأرجنتين وإثيوبيا وإيران هذا العام، ولا تزال القائمة مفتوحة.

ولكن هذا التّجمع يحتاج تصورا خاصا لا يستنسخ التجربة الأوروبية لاختلاف السياق السياسي- والجغرافي والحضاري، ويبدو أنّ تجربة اليورو الملهمة جعلت الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” يؤكّد إصرار هذا التحالف على إنشاء عملة موحدة للمجموعة، ولا شكّ أنه يدرك مدى تعقيد العملية، انطلاقا من تجربة اليورو نفسه.

رسم بياني لحركة الاقتصاد الأوروبي عبر السنين

والسؤال الذي يطرح هنا، هل سيفكّر العرب في سبيل لوحدتهم، بعد أن طال موت الجامعة العربية سريريا، وأثبتت التجارب أنّ الوحدة الاندماجية التي جربت بين مصر واليمن، وبين مصر وسوريا، وبين تونس وليبيا، وجربت في الاتحاد السوفياتي ويوغسلافيا وتشيكوسلوفاكيا، هي وحدة هشة سريعة التفكّك لعوامل كثيرة.

ولكن قبل أن نبحث عن إجابة لهذا السؤال، لا بد من إخماد نيران الحروب الأهلية في السودان واليمن وليبيا والعراق وسوريا والصومال، ولا بدّ من رفع الأيدي عن الزناد في لبنان. أما الخلاف المغربي الجزائري فهو وجع في رأس وحدة المغرب العربي الموعودة، لم تنفعه كلّ المسكّنات.