“أوليغارشية في ظل بوتين”.. مغامرات رجل أعمال يلعب على حبال الشرق والغرب

يُحيط الملياردير الروسي “رومان أبراموفيتش” نفسه بالغموض، ويتجنب الظهور أمام وسائل الإعلام، فلا يتحدث عن حياته ونشأته ولا الظروف التي جعلته واحدا من أشهر الشخصيات الروسية في العالم الغربي، وذاع صيته خصوصا في بريطانيا بعد شرائه نادي تشيلسي لكرة القدم، في الفترة نفسها التي ظهر فيها في بلده واحدا من النخبة المُختارة والمقربة من الرئيس الروسي “بوتين”.

يطلق على تلك النخبة مصطلح “الأوليغارشية”، ويعني الطغمة المالية التي تسيطر على أهم المراكز الاقتصادية في البلد، المتشابكة مصالحها بقوة مع المصالح السياسية للكرملين.

في الفيلم الوثائقي “أبراموفيتش.. أوليغارشية في ظل بوتين” (Abramovich: An Oligarch in Shadow of Putin)، يكشف المخرج الفرنسي “ستيفان بينتورا” تشابك قصته مع تقلبات السياسة الروسية، منذ عهد الرئيس الراحل “غورباتشوف”، مرورا بالفترة المتأزمة من تاريخ البلد خلال حكم “يلتسين”، وصولا إلى وجوده ضمن الدائرة الضيقة للرئيس “بوتين”.

يلاحق “بينتورا” وضعه خلالها ليتمكن من رسم بورتريه سينمائي له، وليجعل فيلمه واحدا من المراجع المهمة عن حياة رجل مشى طيلة حياته على حبل مشدود بين السلطات الروسية والدول الغربية التي له مصالح فيها، لكن هذا الحبل لم يصمد فانقطع أخيرا، بعد أن غيرت تلك الدول موقفها منه، لشدة قربه من “بوتين” وخضوعه لسلطته المطلقة، حفاظا على ثروته الهائلة.

صديق “بوتين”.. بداية تقهقر ملك “الإمبراطورية الرومانية” في أوروبا

يُخبر الوثائقي المُتَفرج عن وضع الملياردير اليوم في بريطانيا، بعد وضع السلطات اسمه ضمن قائمة المقاطعة البريطانية، وتجميدها لثروته وممتلكاته، مما اضطره لبيع النادي الذي كان يملكه، ويطلق عليه مشجعوه اسم “الإمبراطورية الرومانية”، نسبة لاسمه الأول “رومان”.

كما وضعت الوحدة الأوربية اسمه ضمن قائمة المقاطعة، بسبب تشابك مصالحه المالية مع سياسات الكرملين، ومما زاد ضبابية صورته تقديم رجل الأعمال الروسي “بوريس بيرزوفسكي” دعوى قضائية ضده، وكان يوصف بالأخ الأكبر له لشدة تقاربهما، وهو يتهمه بأنه قد أجبره على بيع حصته من شركة النفط الروسية “سيبنفت” بأقل من قيمتها الحقيقية في السوق، مراضاة لـ”بوتين”، وعقابا على موقفه المعارض لسياسته.

بعد وصف الوثائقي للعلاقة الحالية السيئة التي تربطه ببعض الدول الغربية، يطرح صانعه سؤالا إشكاليا: هل هو حقا صديق لـ”بوتين” ومتحد معه سياسيا بالكامل، أم أنه يعمل عنده، ويحاول من خلال هذا الحفاظ على موقعه ضمن الطغمة المالية المتنفذة؟ للإجابة على ذلك يشرع بالبحث عن نشأته وبداية تكوين ثروته.

“رومان”.. يتيم يهودي عاش طفولة قاسية في روسيا

من حسن حظ صانع الوثائقي، أن “أبراموفيتش” خلال جلسات المحكمة التي عقدت في بريطانيا حول شكوى “بيرزوفسكي” ضده، كان يقدم معلومات عن حياته الشخصية، والكيّفية التي كَوّن بها ثروته، هذا إلى جانب معرفة المُخرج الجيدة بالوضع الروسي، لأنه عاش سنوات في موسكو، وعمل مراسلا صحفيا فيها.

الميلياردير رومان أبراموفيتش في خدمة الكرملين

يذكر الوثائقي أن “رومان” ينحدر من عائلة عمالية يهودية، وقد ولد في العام 1966، وعاش طفولة صعبة في مدينة سكتيفكار في جمهورية كومي ذات الحكم الذاتي، وهي تبعد حوالي 1000 كلم عن العاصمة موسكو، وأغلب سكانها الأوائل هم من الذين أبعدهم “ستالين” إليها، عقابا لهم على معارضتهم للنظام السوفياتي.

وحين بلغ 3 أعوام دخلت والدته السجن بسبب جريمة ارتكبتها، فاضطر والده عامل البناء لنقله إلى بيت جدته، لترعاه بدلا منه، ثم توفي والده في حادث عمل خطير، فانتقل الطفل اليتيم إلى موسكو مع جدته وخالته، ودخل إحدى مدارسها الابتدائية، لكن لم يعرف عنه حبه للدراسة، بل مال في بداية شبابه للعمل التجاري، وساعدته الظروف السياسية والمتغيرات الاقتصادية الحاصلة في الاتحاد السوفياتي لينجح فيه.

أيام الخصخصة.. نجاح في عصر تحوم حوله الشبهات

استغل الشاب الطموح “رومان” الانفتاح الاقتصادي الذي بدأ في عهد الرئيس الراحل “غورباتشوف”، فعمل موزعا وبائعا لألعاب الأطفال البلاستيكية، وفي تلك السنوات كان يجمع بين التجارة الشرعية والبيع بالسوق السوداء، فيقف في الشارع وأمام العمارات السكنية يبيع الألعاب البلاستيكية، ويعرض أيضا على المارة حقيبته المملوءة ببناطيل الجينز والعطور الآتية من الخارج.

وقد تلازمت النقلة الحقيقية في حياته مع سقوط الاتحاد السوفياتي عام 1991، حين توجهت حكومة “بوريس يلتسين” إلى خصخصة ممتلكات الدولة، ويعرض الوثائقي عمليات الفساد ونهب الثروات التي رافقت تلك المرحلة، وقد استغل “أبراموفيتش” ذلك خير استغلال، فانتقل للعمل في حقل الصناعات النفطية.

وحين بلغ 25 من عمره كان يشتري برميل النفط من الدولة بدولار أمريكي واحد، ثم يبيعه بمئة دولار في الخارج، حتى حامت الشبهات حول صفقاته الكبيرة، فدهمت الشرطة عام 1992 بيته، واعتقلته بدعوى استلائه على شحنات ديزل كبيرة، تعود لمالك آخر كانت في طريقها إلى خارج البلد.

المال لمساعدة بوتين للوصول إلى الحكم

يؤكد “أبراموفيتش” للشرطة أنه دفع ثمن الشحنة، لكن الشرطة لم تطلق سراحه، ولم تسحب الدعوى المرفوعة ضده إلا بعد أن دفع لها مبلغا كبيرا من المال رشوةً، وحينها أدرك أنه بحاجة إلى حماية أكبر، وليس هناك أكبر من حماية الكرملين في البلد.

“العائلة”.. رحلة إلى دهاليز السلطة في ظل الأخ الأكبر

خلال حكم “يلتسين” كان رجل الأعمال الثري “بوريس بيرزوفسكي” يتمتع بنفوذ سياسي كبير، وكان الرئيس يكلفه بمهمات سياسية رسمية، وحين أراد المحافظون التخلص من “يلتسين” قبيل انتخابات عام 2000، نصحه “بيرزوفسكي” بتأسيس لوبي داخلي، يعتمد في قوته على التلفزيون والمال، لإفشال مخططاتهم.

وقد تكفل “بيرزوفسكي” بالتلفزيون، لأنه كان يملك 50٪ من أسهم قناة (أو آر تي)، أما المال فسيأتي من “سيبنفت”، وهي شركة “أبراموفيتش” النفطية، وشيئا فشيئا ستقوى الصداقة بين الرجلين ويصبح “بيرزوفسكي” أخا أكبر ومرشدا لصاحب الشركة النفطية، وهو من سيعبد له الطريق للدخول إلى أروقة الكرملين، وسيُنتخبان معا عضوين في البرلمان الروسي (الدوما).

يتحقق اللوبي الداخلي الذي يطلق عليه اسم “العائلة”، وهو مكون بشكل أساس من أخت الرئيس وزوجها، ويضم الصديقين رجلي الأعمال، إلى جانب عدد محدود من المتنفذين، وبفضل حمايتهما النيابية يتحركان لترشيح رئيس جديد لروسيا، يخضع لإرادة “العائلة” وينفذ سياستها.

يقترحان اسم “فلاديمير بوتين” وتشكيل حزب سياسي جديد، يستطيع توصيل مرشحهم الشاب القادم من جهاز المخابرات إلى دفة الحكم، وقد نجح “بوتين” في انتخابات 2000، وأصبح حاكما لروسيا، وكان يخفي في بداية الأمر طموحاته السياسية وأحلامه في أن يصبح “قيصرا”، لكن بمجرد سيطرته على قيادة الجيش والمخابرات، وتحكمه بجهاز القضاء، بدأ يكشف وجهه الحقيقي، كديكتاتور يعارض السلطة الديمقراطية وينبذها.

صراع التاجر والرئيس.. فوضى عنيفة تفرق بين رفاق اللعبة

عندما نشب الخلاف بين عرابه “بيرزوفسكي” وبين الرئيس “بوتين”، وقف “أبراموفيتش” إلى جانب الرئيس، وكان مصدر الخلاف بينهما غرق الغواصة النووية الروسية “كورسك”، وانتقادات تلفزيون “أو آر تي” الحادة للطريقة التي تعاملت بها القيادة معها.

فرحة لم تدم طويلا مع نادي تشيلسي لكرة القدم

لم يمضِ وقت طويل، حتى أدرك “بيرزوفسكي” أن الرئيس الغاضب لن يتركه حرا طليقا، فقرر مغادرة البلد خوفا على حياته، فحط رحاله في فرنسا أولا، ثم انتقل منها إلى بريطانيا، وقد تحققت مخاوفه التي توجس منها، فبعد مغادرته أمر “بوتين” بتصفية كل أملاكه، وكلف “أبراموفيتش” بالتفاوض معه.

تكشف مجريات المحكمة البريطانية الآليات التي كانت تحكم الطغمة المالية (الأوليغارشية) في عهد “بوتين” وكيف كان يديرها بدهاء، وتشير شهادة “يولي دوبوف” -الذي كان يملك 11٪ من أسهم التلفزيون- إلى مهادنة “أبراموفيتش” لرئيسه، بعد أن كلّفه بإتمام صفقة شراء حصته، مقابل “لا شيء من المال”.

يدّعي الوسيط أمامه أن هذا العرض كان بالاتفاق مع “بيرزوفسكي”، وأنه عندما رفض العرض قدم له الوسيط مبلغا من المال قدره 30 ألف دولار مقابل حصته، ولكنه اشترط عليه عدم أخذه منه، لأن المال سيكون بمثابة مقابل لإطلاق سراح صديقه “نيكولاي غولوشكوف” من السجن، لكن المُفاجئ في الأمر أن “أبراموفيتش” لم يفِ بوعده، ولم يطلق سراح السجين الذي كان رئيسا لشركة طيران “أيروفلوت”، وقد زجه “بوتين” في السجن بتهمة الاختلاس.

الأمر الآخر الذي جعله من أقرب المقربين للرئيس الروسي، أنه أجبر صديقه “بيرزوفسكي” على بيع حصته من شركة “سيبنفت” النفطية بمبلغ زهيد، لا يمثل القيمة الحقيقية لأسهمه فيها، ولهذا تقدم “الأخ الأكبر” إلى المحكمة البريطانية بشكوى، يطلب فيها من “أبراموفيتش” تعويضا عن خسارته، تبلغ قيمته عدة مليارات من الدولارات.

حكم المحكمة.. خيبة أمل تؤدي لنهاية مأساوية

يكرس الوثائقي جزءا من وقته لعرض مجريات المحكمة، فنرى أن “بيرزوفسكي” لم يتحضر لها جيدا، واكتفى بقناعته بأنه يقول الحقيقة، من دون تقديم أدلة مادية تثبت ادعاءاته، وعلى عكس ذلك قدم خصمه شهادات تفندها، وتنكّر فيها لصداقته معه، ونفى وجود أي مصلحة سياسية سابقة جمعتهما معا.

وسيط سلام يقف مع المعتدي

يقابل صانع الوثائقي شخصيات كانت قريبة من الرجلين، وكلها تؤكد كذب المُدعَى عليه “أبراموفيتش”، وأنهم يعرفون جيدا مقدار الصداقة والمصالح التي كانت تجمعهما، وأن “الأخ الصغير” قد تخلى عن الكبير في اللحظة التي شعر فيها أن التواصل معه يشكل خطرا على مصالحه، فسكت وتواطأ مع السلطة على نهب ثروته.

يزيد قرار المحكمة الذي جاء لصالح “أبراموفيتش” حزن المدعي، وبعد فترة قصيرة من إصدار الحكم، تعثر عليه الشرطة البريطانية منتحرا في منزله.

مفاوض السلام المتماهي مع الكرملين.. لعب على الحبلين

هناك دلائل كثيرة على قوة الصلة التي تربط الملياردير الروسي “رومان أبراموفيتش” بالسلطة في الكرملين، ولعل من أهمها تعيينها إياه وسيطا في مفاوضات السلام المقترحة بين روسيا وأوكرانيا في المراحل الأولى من اندلاعها، وقد حاول فيها تقديم نفسه شخصية محايدة مقبولة عند الشرق والغرب.

لكن مساعيه لم تفلح، لأن مواقفه العملية ودعمه المادي لمشاريع الرئيس -ومنها بناء قصره الفخم، وتغطيته جزءا كبيرا من تكاليف تنظيم دورة الألعاب الأولمبية الشتوية- عززت قناعة الدول التي له فيها مصالح اقتصادية بانحيازه المطلق للكرملين، مع أن لديه فرصا كثيرة متاحة للخروج من بلده، وإعلان معارضته لـ”بوتين”، وشجب سياسة ملاحقة المعارضين له من الذين وصلوا إلى دول غربية، وكثير منهم تعرض لعمليات اغتيال، وبسببها طُرد أكثر من ١٥٠ دبلوماسيا روسيا من دول أوروبية.

تخطيط لجانب من محكمة لندن التي برأت الجاني

كما أنه لم يوقف العمل في مصانع السلاح التي يملكها، وما زالت تُستخدم أسلحتها في الحرب ضد الشعب الأوكراني، فكل تلك المواقف المتوافقة مع السياسة الروسية، تقابلها مواقف شجاعة لزملاء له ضحوا بثرواتهم مقابل إرضاء ضمائرهم.

يقابل الوثائقي إحدى أعضاء البرلمان البريطاني، كانت قد ساهمت في إفشال عمل اللوبي الذي دفع له “أبراموفيتش” المال من أجل تحسين صورته، لكن يبدو أنها لن تتحسن ما دام أوليغارشيا مقربا من رأس السلطة الروسية، ومستفيدا من امتيازاتها الهائلة.