“ثمن التسليح”.. لعبة الحرب في أوكرانيا توسع تجارة الأسلحة وتهدد العالم

منذ أن بدأ الاجتياح الروسي لأوكرانيا قبل سنتين تقريبا، زادت دورة إنتاج الأسلحة في أوروبا بمستويات لم تبلغها مصانعها منذ اندلاع الحرب العالمية الثانية، وذلك لأسباب كثيرة يتناولها الوثائقي الفرنسي “أوكرانيا: ثمن التسليح” (Ukraine, le coût des armes) الذي عُرض عام 2024.

من تلك الأسباب أن روسيا لديها أكبر جيش في العالم، وبالمقابل تحتاج أوكرانيا إلى المزيد من الأسلحة للدفاع عن أراضيها، وهذا يؤدي إلى زيادة الطلب عليها، ويستغل ذلك تجار السلاح والمهربون، فينشطون بشكل لافت خلال الحرب الروسية الأوكرانية، سعيا منهم لجني المزيد من الأموال، لتغدو الحرب تجارة رابحة لديهم ولدى منتجيها في نهاية الأمر.

الحياة أو الموت.. صراع الشعب الأوكراني من أجل البقاء

بما أن الطرف الأوكراني هو الأكثر طلبا للسلاح من الغرب ومن جهات أخرى غيره، يتوجه مخرجا الوثائقي “هوجو فان أوفيل” و”مارتين بودو” لمقابلة “ألكسندرا أوستينوفا” عضو مجلس الشعب الأوكراني، والمسؤولة عن اللجنة الخاصة بتسلم الأسلحة الواصلة إلى بلدها من الغرب، والتأكد من أخذ طريقها إلى ساحات القتال.

تُوصَف مهمتها بأنها من أهم المهمات خلال الحرب، لما فيها من إيصال الأسلحة إلى وجهتها الصحيحة في الوقت المناسب، والحرص على عدم وقوعها بيد العدو، ويرى الخبراء المشاركون في الوثائقي أن المهمة المكلفة بها تعني لأوكرانيا وشعبها: الحياة أو الموت!

فمن دون الأسلحة الواصلة إليها من الخارج لن تستطيع أوكرانيا الدفاع عن نفسها، لهذا تحرص المسؤولة وفريقها على تأمين وصولها والحفاظ على سرية الطرق التي تُرسل بها.

ثمن التسليح.. أسلحة هائلة متطورة تدخل إلى أوكرانيا

يعرض الوثائقي تحول أحد المطارات البولندية القريبة من الحدود الأوكرانية إلى نقطة مركزية تصل إليها جوا أغلب المساعدات العسكرية القادمة من الغرب، وخلال وقت قصير تدخل إلى الأراضي الأوكرانية.

وفي أراضيها تأخذ الأسلحة والمعدات العسكرية طريقها إلى الجبهات مباشرة، أو تنقل سرا إلى مخازن موزعة تحت الأرض، وأخرى داخل الأنفاق، وفي أعماق الغابات الكثيفة، وفي الأحوال كافة لا ينبغي أن تمكث فيها أكثر من 24 ساعة، وتحيل المشرفة السبب إلى حاجة الجبهات الملحة لها، وأيضا حتى لا يكتشف الروس مواقع مخازنها.

تاجر سلاح بريطاني يجني أرباحا كبيرة من بيع الدبابات والمدرعات المستخدمة

يُبيّن الوثائقي حجم تلك الأسلحة والمعدات العسكرية الواصلة إليها من الغرب ونوعيتها، فقد كانت الكمية الواصلة إليها في بداية الاجتياح الروسي لحدودها قليلة، لكنها أخذت تتزايد تدريجيا، لتشمل لاحقا المعدات العسكرية المتطورة والأكثر قوة، ويصل أكثرها من الولايات المتحدة الأمريكية ومن كل دول أوروبا تقريبا، إضافة إلى دول غيرها، بعضها يتستر على مساعداته.

تُرسل ألمانيا الدبابات المتطورة، وترسل فرنسا المدافع عالية الدقة، وتحرص بريطانيا على شحن كميات من صواريخ “ستروم شدو” البعيدة المدى والشديدة الدقة إلى جبهاتها المشتعلة، كما تخصص الوحدة الأوروبية صندوقا لدعم مشتريات أوكرانيا من الأسلحة، وأما الولايات المتحدة الأمريكية فلم تبخل عليها بأكثر الأسلحة تطورا لديها، ومن بينها راجمات (M270)، والطائرات المسيرة، ومنصات الدفاع الجوي، وغيرها الكثير.

تأخير الأسلحة.. مشاكل لوجستية تزهق أرواح الأبرياء

ترافق الكمياتِ الكبيرة من الأسلحة المرسلة إلى أوكرانيا عادةً صعوباتٌ ومشاكل لوجستية تُؤخر وصولها بالسرعة المطلوبة، وتوضح النائبة البرلمانية المسؤولة عن تأمين وصولها حقائق، من بينها أن إرسال أسلحة ثقيلة من الولايات المتحدة الأمريكية إلى بلدها تأخذ أحيانا أشهرا، وهذا تحدٍّ كبير لديها تعمل على تجاوزه، ولا سيما ما يتعلق بأسلحة الدفاع الجوي، لأن أي تأخير في إيصالها يعني موت المزيد من أبناء وطنها، في ظل الهجمات الصاروخية الروسية المكثفة على المدن والبنى التحتية.

وهي تتحدث عن حقيقة أن ذخائر الأسلحة هي الأكثر استهلاكا، فالجنود الأوكرانيون يطلقون يوميا ما بين 5-6 آلاف طلقة مدفع حسب الإحصائيات، في المقابل يطلق الجنود الروس ما يقارب من 40 ألف طلقة، وهذا يعني عمليا حاجة أوكرانيا إلى المزيد من الذخائر.

يدفعها ذلك للبحث عن مصادر أخرى، يوفرها في زمن الحرب عادة تجار الأسلحة، ولكن في التجربة الأوكرانية يظهر إلى جانب هؤلاء متطوعون مدنيون، يعملون على مشاريع وأفكار تساعد بلدهم في الحصول على معدات عسكرية وأموال، تمكّن من شراء الأسلحة المطلوبة.

شراء القمر الصناعي.. نشاط تطوعي لدعم المجهود الحربي

ينقل الوثائقي تجربة شاب أوكراني تطوع لجمع الأموال وإرسالها إلى وزارة الدفاع، وفي سبيل ذلك أسس جمعية تطوعية خصصت صندوقا لدعم المجهود الحربي.

تاجر الموت من السجن إلى البرلمان الروسي

من “صندوق بريتولا” الذي يدعمه رجال صناعة أوكرانيون يعملون في الخارج، ومن متبرعين ومتطوعين داخل البلاد، يخصَّص مبلغٌ من المال لشراء قمر صناعي يساعد على جمع المعلومات عن تحركات العدو، وكانت وزارة الدفاع حينها بأَمَس الحاجة لمثل تلك الأقمار الصناعية.

ينقل الشاب الأوكراني لصناع الوثائقي تجربته في شراء قمر صناعي فنلندي مستخدم، دفعوا تكلفة شرائه البالغة 17 مليون دولار من أموال المتبرعين للجمعية، وهو يطلب مرافقة زملاء له ينشطون داخل البلد، لإيصال المساعدات العسكرية إلى جبهات القتال، على ما يرافق المهمة من أخطار جدية.

ومع أهمية تلك النشاطات التطوعية والمساعدات القادمة من الغرب، فإنها لن تغطي كل احتياجات الجيش الأوكراني من سلاح ومعدات عسكرية، لهذا يتجه للبحث عن مصادر أخرى غيرها، ويحرص على الحصول عليها بأي ثمن.

نشاط التجارة الممنوعة.. أرباح هائلة من أسلحة مستخدمة

يتوجه الوثائقي إلى مدينة نورث همشاير في بريطانيا لمقابلة “نِك ميد” تاجر السلاح والعسكري المتقاعد، وهو يُخبر صناع الوثائقي أنه يملك أكبر أسطول للدبابات المستعملة، التي كانت قد استُخدمت في حربي العراق وأفغانستان، ولديه مدرعات وناقلات جنود اشتراها من وزارة الدفاع البريطانية بمبالغ بسيطة، ثم باع قسما كبيرا منها بأثمان مضاعفة إلى الأوكرانيين.

تشجع مقابلة التاجر البريطاني صناع الوثائقي للبحث في موضوع تجارة السلاح غير الشرعية التي تنشط بشكل كبير خلال الحرب الروسية الأوكرانية، فيقابل في بروكسل أحد كبار تجار السلاح، يطلب عدم الكشف عن هويته الحقيقية، وهو ينقل معلومات تفيد بأن تجارة السلاح من أكثر الأنشطة المحظورة ربحا، لكنها محفوفة على الدوام بالخطر.

في زمن الحرب، يزداد الطلب على الأسلحة، ويجد التجار فرصتهم الذهبية فيها، وهذا يحصل اليوم بشكل لافت، ومعه تزداد بشكل مطّرد أرباحهم منها، حتى أن نسبة ما يحصلون عليه من قيمة كل صفقة يعقدونها قد تبلغ أكثر من 30% أحيانا.

انتقام الروس من التجار والوسطاء.. رعب يلاحق أرباب التجارة

من خلال مقابلة الوثائقي مجموعة صحفية استقصائية بريطانية، تعمل على كشف أسرار تجارة السلاح عالميا، يتوصل إلى أن كل صفقة تجري في ظروف سرية يكون شرط عقدها الأهم، هو عدم الكشف عن هوية البائع والمشتري.

بولندا نقطة مركزية لإيصال الأسلحة إلى أوكرانيا

وقد لاحظت المجموعة أنه خلال هذه الحرب قد تطلب دول تريد شراء أسلحة لأوكرانيا من التجار التستر على دورها، خوفا من انتقام روسيا منها، كما أن تجار السلاح أنفسهم يحرصون أيضا على سرية عملهم، خوفا من ملاحقة الروس لهم والانتقام منهم، فالروس لا يكفون عن ملاحقة الوسطاء وتجار السلاح الذين يعقدون صفقات بيع أسلحة لخصومهم، وفي أحيان كثيرة يقتلونهم.

ينقل الوثائقي جوانب من عملية انتقام روسية ضد تاجر السلاح البلغاري “إيمليان غبريف”، الذي وقعت في مخازنه عمليات حرق متعمدة، ناهيك عن محاولة بعض عملائها اغتياله بمواد كيميائية سامة، نجا منها بأعجوبة.

إلى جانب ذلك يستخدم الروس وسيلة دعائية فعالة، ينشرون بها معلومات مضللة عن تجارة السلاح المحظورة عالميا، ويظهرون أن أوكرانيا هي الوحيدة المتورطة فيها، من دون الكشف عن مساعيهم الخاصة للحصول على الأسلحة، ولكن ليس عبر تجار السلاح التقليديين، بل عبر الدولة الروسية نفسها التي تعمل مع دول أخرى، من أجل تزويدها بالسلاح سرا وبطرق غير شرعية.

“تاجر الموت”.. قاتل ونائب وسياسي ينشر الأكاذيب

يكرس الوثائقي جزءا من مساره لعرض جانب من نشاط تاجر السلاح المعروف “فكتور بوت” الملقب “تاجر الموت”، فبعد الحكم عليه بالسجن مدة 25 عاما لتورطه في قتل مواطنين أمريكيين واشتراكه في عمليات بيع أسلحة لمنظمات إرهابية، يطلق سراحه في عام 2022 قبل انتهاء مدة حكمه، وذلك جراء صفقة لتبادل السجناء بين الروس والأمريكيين.

زيادة في حجم تصنيع الأسلحة في اوربا لم تشهده منذ نهاية الحرب العالمية الثانية

يعمل الكرملين على إعادته إلى روسيا، وتكليفه بمهمات خاصة، من بينها التحريض ضد الأوكرانيين وتخويف العالم منهم، وإلصاق تهمة شراء الأسلحة من السوق السوداء بهم وحدهم، ولم يمض عام واحد على وجوده في روسيا حتى صار نائبا في مجلس الشعب الروسي، وداعية ينشر الخوف من العدو، ومن احتمال وصول الأسلحة المرسلة إليه إلى أيدي “الإرهابيين” وتجار المخدرات، ويتوعد بأن هذه الأسلحة ستظهر في البلدان الأوروبية حال انتهاء الحرب، وستستخدم ضد مواطنيها!

من أجل إبطال هذه الادعاءات تعمل وزارة الدفاع الأوكرانية على ضمان عدم وصول الأسلحة المرسلة إليها إلى جهات أخرى، ومع ذلك تزداد المخاوف في الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية من الأنباء التي تشير إلى ظهور بعض أسلحتها في مناطق تشهد صراعات مسلحة.

تهريب الدولة الروسية للسلاح.. محاولة لفك الحصار

تكشف المصادر عن عمليات تهريب تجري عبر البحر، ولا سيما بحر قزوين، حيث الرقابة الغربية ضعيفة، ويمكن من خلاله تهريب كميات كبيرة من الأسلحة، ثم لا يكتشف أمرها، وكل ذلك تنشط فيه الدولة الروسية للحصول على أسلحة بطرق غير شرعية.

وهذا أمر واقع كما تقول المحللة العسكرية “بيرجيت دياكون” المشاركة في الوثائقي، فقد لاحظت خلال سنتي الحرب نشاطا متصاعدا لنقل الأسلحة إلى روسيا عبر البحر سرا، وهي محاولة منها لكسر الحصار المفروض عليها.

لا يقتصر الأمر على هذا المجال من التهريب فحسب، بل يتعداه إلى محاولة روسيا التقرب من كوريا الشمالية ودول أخرى معادية للغرب، للحصول على أسلحة متطورة منها، كما تحرص على امتلاك تقنيات عسكرية من مصادر متنوعة، تكون أكثر تطورا وفعالية مما لدى حلف الناتو، وفي الوقت نفسه تشيع دعائيا -كما يردد “تاجر الموت”- أنها لن تتردد عن استخدام أسلحة جديدة لم يعرفها العالم بعد!

قبل ختام مساره المتتبع لتطور عمليات تصنيع الأسلحة والاتجار بها على نطاق واسع، يطرح الوثائقي سؤالا ملحاحا: كم هو الثمن الذي على البشرية أن تدفعه جراء تصنيع وبيع كل هذه الكميات المخيفة من الأسلحة، التي لا يستفيد منها في النهاية سوى منتجيها والأطراف الرابحة من استمرار الحروب المشتعلة اليوم في أكثر من مكان من العالم؟