“خمس منارات في نيويورك”.. قصة تسقط الأسطورة على واقع الفكر الديني في تركيا

عندما تدخل صالة سينما لتشاهد فيلما سياسيا دينيا لا يخطر في بالك أن الجمهور سيكون ضمنه شبان صغار، وفي ذات الوقت هناك الكبار في السن، وبالإضافة إلى ذلك ستلحظ عند خروجك من الصالة أن الدموع تنهمر من عيونهم. هذا ما حصل عند متابعة الفيلم التركي “خمس منارات في نيويورك” (New York’ta Beş Minare) للمخرج التركي “محصون قورموزي غول”، وهو مقتبس في عنوانه من الأغنية الشعبية التركية المشهورة “خمس منارات في بيتليس”.

يروي الفيلم قصة ضابطين أرسلتهم هيئة مكافحة الإرهاب من إسطنبول  لإحضار زعيم حركة دينية تركية اعتقل في نيويورك من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، لكن سرعان ما تتغير الأمور، وينقلب الموضوع ويصبح الرجلان في قبضة جماعة “هاجي”، وفي هذا الوقت يكتشف الرجلان حقيقة “هاجي” البعيدة عن التطرف الديني، فهو متزوج من مسيحية، والأفكار التي يناقشها تُمثل الحالة الوسطية الإسلامية.

وبعد ذلك تعود المخابرات الأمريكية لاعتقال “هاجي” وإرساله إلى تركيا بصحبة الضابطين (فرحات وأجار) وهناك يحبس ثم يفرج عنه، وبعدها يقرر الذهاب إلى قريته بيتليس لزيارة أمه التي فقدت بصرها، فتصرخ معلنة فرحها الذي لم يستمر سوى ثواني قليلة، إذ يغادر ابنها الحياة بفعل رصاص الثأر من قبل جد فرحات أحد رجال المخابرات، ليفاجأ الجمهور أن “هاجي” متهم بقتل والد فرحات، لتبين اللقطة الاستعادية لتلك الحالة أنه بريء.

منارات الفيلم.. رمزية أسطورية ترسم زوايا الواقع

بعد استعراض القصة نجد أن الفيلم يلخص قصة الأغنية الشعبية “خمس منارات في بيتليس”، وهي تعود إلى الحرب بين الإمبراطورية الروسية والدولة العثمانية في تلك المدينة التي انتهت ببقاء خمس منارات فقط، بعد كل الدمار الذي حل بها.

وحين نبحث عن المنارات الخمس الباقية في الفيلم بعد نهايته، نجد المنارة الأولى هي أن الفكر الإسلامي يُحارب بطريقة جنونية، ولا يفرق بين المتطرف و المعتدل، فبالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية هما سواء.

وهذه المنارة قد أوضحت في مشهدين، المشهد الأول لحظة الاعتقال الأولى لـ”هاجي”، عندما دخلت عليه عناصر من مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي أثناء صلاته وقطعتها بطريقة مثيرة للاشمئزاز، والثاني في مشهد اعتقاله الآخر في الفندق، عندما دخلت القوات الأمريكية بطريقة توحي أن غريمها جيش بأكمله.

أما المنارة الثانية فهي حب الوطن والإخلاص لترابه، وقد تجلت من خلال عودة “هاجي” لبلدته وزيارة أمه، والمنارة الثالثة هي الوسطية الدينية، أما الرابعة فهي أن الحق يقف معه الجميع حتى في لحظة موته، وهو المبين من قبل المخرج في المشهد الأخير، حين ترك فرحات جده الصريع في دمائه وتوجه نحو “هاجي”، وأما الخامسة فهي الفكر الثأري، إذ يقدم المخرج في مشهده الأخير كيفية قتل الأب من ظن أنه قتل ابنه، رغم السنوات الطوال التي مرت على مقتل ابنه.

“هاجي” بطل القصة الذي يعاني من تناقضات الغرب

مبالغات الوسطية.. مشاهد خارجة عن المنطق تلوث القصة

هناك بعض النقاط أو علامات الاستفهام في المضمون، منها أن النهاية كانت بعيدة جدا عن جوهر الفيلم، لتصب ضمن صنع صدمة تظل عالقة في ذهن الجمهور، وتلعب دورا في ردة فعل سترفع أسهم الفيلم من حيث المتابعة الجماهيرية.

وهناك أيضا استغراب من بعض الأفكار، فنستطيع استيعاب أن رجلا دينيا يتزوج مسيحية، لأن الدين الإسلامي يسمح بذلك، لكن أن تتزوج ابنته مسيحيا، فإن ذلك يصب في خانة المبالغة في الوسطية.

ومن غرائب الفيلم أيضا مشهد آخر مثير للجدل، فربما نتقبل أن زوجة “هاجي” وهو زعيم تلك الجماعة الإسلامية غير محجبة، لأنها محافظة على دينها المسيحي، لكن أن تودع صديق زوجها بقبلات، ويكون هذا الصديق إمام مسجد، فهذا لا يستطيع الجمهور وضعه في السياق الطبيعي للفيلم.

استعراض مظاهر الإخراج والتصوير.. تكاليف وهنات

قدم الفيلم مناظرة قصيرة بين ممثل عن الوسطية الدينية وهو “هاجي”، وبين زعيم ديني متطرف عمل على قتل أرواح بشرية بريئة، وتقع هذه المناظرة في السجن بطريقة إخراجية مميزة، لكن قصر مدتها كان السلبية الوحيدة فيها.

ومن الناحية الفنية بالغ المخرج في المشاهد الأولى، من خلال عمليات الاقتحام لبعض مراكز الجماعات الإرهابية بطريقة غير مبررة، ولا تقدم سوى عملية استعراض لبعض الإمكانية الفنية، ومن المحتمل أن المشاهد الأولى رفعت تكلفة الفيلم إلى 20 مليون دولار.

ويذكر موقع (studentfilmmakers) المتخصص أن المصور السينمائي للفيلم “جيم غيسسيرادو” قدم الفيلم بصورة مشوهة، باستخدامه لتقنيات لعبت دور في صناعة خلل في الصورة. وعلى كل الأحوال فهذا التشويه لم يؤثر على المسار الطبيعي للفيلم.