“أطفال جناق قلعة”.. أخوان مقاتلان يمزقان قلب الأم بين المعسكرين

 

لم يعتقد أي تركي أن معركة جناق قلعة أو معركة مضيق الدردنيل أو جاليبولي، ستصور بهذه الطريقة في فيلم “أطفال جناق قلعة” (Çanakkale Çocukları) الذي عُرض عام 2012، إذ تعتبر هذه المعركة إحدى رموز الفخر للشعب التركي.

فقد استطاعت القوات العثمانية بقيادة “مصطفى كمال أتاتورك” أن ترد حملة لاحتلال إسطنبول، من قبل قوات التحالف المشكلة من بريطانيا وفرنسا وأستراليا ونيوزيلاندا.

عرض المخرج “سنان تشيتين” قصة أم أسترالية متزوجة من تركي، وهي تحاول إنقاذ ولديها، “عثمان” الذي يحارب في الطرف العثماني، و”جيمس” الذي يحارب في الطرف الأسترالي من الحرب، وإعادتهم الى المنزل، وقد أراد المخرج أن يقدم فكرة أن القاتل في الحرب هو الأخ، والمقتول هو الأخ الآخر، ولا بد أن يحل السلام العالمي في النهاية عندما يواجه الأخ أخاه في المعركة.

“من أجل الأولاد”.. شعار يتحدى الثقافة المجتمعية

حمل الفيلم شعار (Evlatlar da saolsun) وتعني هذه الجملة “من أجل الأولاد”، في إشارة ربما لا تلقى إعجاب الكثيرين، إذ تستعمل في تركيا عبارة (vatan saolsun) وهي تعني “من أجل الوطن” أو “فداءً للوطن”.

وبذلك فالمخرج يتحدى الثقافة المجتمعية السائدة، ليضم لها جملة “من أجل الأولاد”، فهو لا يريد أن يقول من أجل الوطن فقط، بل لا بد أن نضحي من أجل سلامة الأولاد. ويعج الفيلم بالإشارات الإنسانية غير المنطقية، منها خروج قائد إحدى الكتائب العثمانية من وراء المتاريس لإنقاذ جريح بريطاني، ثم استرداد الأسير عثمان وبرضى قائد القوات البريطانية.

كان الجزء الأول من الفيلم عبارة عن مشاهد مسرحية شاعرية تقترب من المدرسة الفرنسية، حيث انعدام المنطقية، والإسهاب في المشهد الإنساني الخيالي إلى حد ما، مع إبراز الكره للدم والقتل، وقد انتظرنا نصف ساعة لنستطيع القول إن الفيلم قد بدأ.

أم المقاتلين التائهة.. حرب يصنعها الرجال وتحصدها النساء

يصور المخرج الأم التائهة في تلك الحديقة تبحث عن أولادها، ثم تصل إلى زوجها الذي يفاخر في وطنيته، ويتحدى ويقدم أحد أولاده قربانا للوطن، في إشارة جادة أن الرجال هم من يصنعون الحرب، والأمهات هن من يحصدن المآسي.

لكن أم “عثمان” و”جيمس” أرادت غير ذلك، فأجبرت زوجها إلى التوجه نحو الجبهة، للبحث عن “عثمان” الذي من المؤكد أنه في صفوف القوات العثمانية، ولكنها تصر كذلك أن “جيمس” موجود في الحرب، من خلال رسائل ربانية وأحاسيس الأمومة.

وليس هذا وحسب، بل إن الأم تخيلت أن كلا منهما قتل الآخر في المعركة، وأثناء بحثها بين الجثث لا تجدهما، لكن بعض المشاهد تصور أنهما قُتلا، وأن زخات مطر خفيفة تعيدهما إلى الحياة من بين ركام الجثث، فيتخذون قرارا بالتوجه نحو المعسكر البريطاني.

“أمك لا تحتاج لبطل بل تحتاج لك”

في الجزء الثاني من الفيلم أراد المخرج أن يخرج من وقع الخيال غير المنطقي، فبعد استرداد “عثمان” من المعسكر البريطاني تطلب الأم منه الرجوع معها، لكنه يرفض ويريد أن يبقى مع زملائه من أجل الوطن، فيسأله أحد قادته الذي يُمثل دور الراوي في الفيلم: هل تريد أن تصبح بطلاً من خلال استشهادك؟

الملصق الخاص بالفيلم والذي يعكس الانقسام الذي تعيشه الأسرة

ثم يقول له تستطيع أن تكون بطلاً من دون أن تموت، لكن “عثمان” يرفض الفكرة، فيرد عليه الراوي أمك لا تحتاج لبطل بل تحتاج لك، وينتهي الحوار بقرار عثمان بالبقاء في ساحة المعركة، ويخبر أمه أن “جيمس” هناك في الطرف الثاني، فيقرر الأب أن يذهب إلى الطرف المقابل لاسترداد “جيمس”.

وفي حوار بين “جيمس” والأب تبرز رسالة واضحة من المخرج، مفادها أن الحرية الفكرية تخفض النزعة العدوانية للحرب، وقدّم المخرج مشهدا يعد من أفضل المشاهد، عندما قُتِلَ الأب فاجتمعت العائلة في منتصف الميدان، ليشاهدوا الأنفاس الأخيرة للوالد.

جناق قلعة.. رمز إعادة الهيبة وفخر القومية التركية

يدفن الأب بعد مقتله مع كلمات الله أكبر، وتوضع على القبر شارة بيضاء، في دلالة على السلم، لكن سرعان ما تبدأ المعركة من جديد ونعود إلى الواقع، وفي خضم المعركة يتساقط الثلج، ويحتضن الأخ أخاه، ويعم الصلح العالمي في لقطة تشكل خاتمة خيالية من الصعب تقبلها من قبل المجتمع التركي.

فمعركة جناق قلعة التي قادها مؤسس الدولة الحديثة “مصطفى كمال أتاتورك”، وراح ضحيتها 90 ألف جندي تركي، يعتبرها الأتراك رمزا لإعادته هيبتهم العالمية، لذا فإن المجتمع التركي بما يحمله من تعصب قومي يحتاج إلى فيلم يغازل مشاعره القومية وكبرياءه العسكري.

أما في الطرف المقابل فمن الممكن أن يلقى الفيلم قبولا عالميا في الغرب، فهو يغازل الجانب الإنساني، ويهاجم الجانب الانتقامي والقتل والمعارك التي راح ضحيتها مئات الألوف من الأرواح البشرية، وربما كان يستطيع كسب الرأي التركي من خلال هذا الفيلم، إذا عرضه بغير معركة أو غير زمن.

استخدام الإضاءة والألوان.. مطية لإيصال رسالة السلام

من الناحية الفنية نستطيع القول إن المخرج اعتمد على الصورة الخافتة في ألوانها، واعتمد عدم ظهور الشمس، وبهذه الآلية كان المخرج ناجحا إلى حد بعيد، وزاد من نجاحه ذلك الثوب الأبيض الذي ارتدته الأم، في إشارة واضحة إلى أنها رمز إنقاذ البشرية من الحروب، ولكن في بعض الأحيان أفرط في المشاهد المؤذية للعين التي تدلل على نتائج المعارك.

ومن ناحية الأداء الفني للممثلين ظهرت بشكل جلي القوة في الأداء من قبل الممثل “هالوك بيلغينر” الذي أدى دور الأب “كاظم”، وكذلك قدمت الممثلة “ريبيكا هاس” أداء مشهودا عندما أدت دور الأم، لكن أظهر الأخوان “جيمس” و”عثمان” أداء متواضعا قياسا بحجم أداء بقية الممثلين، فساهما في تخفيض قيمة بعض المشاهد، وهما في الحقيقة ابنا المخرج الأخوان “أورفيو” و”جيمو”.