“جان”.. طفل جديد يفسد بهجة الحلم وتتنكّر له العائلة

 

ابحث لي عن حياة أخرى أكثر جمالا وأملا، يحضر فيها ذلك الكائن الطفل البعيد الذي يأتي من الخيال على أجنحة الواقع والترقب والقلق. ابحث لي عن لحظة صفاء إنساني يكون فيها الإنسان كما هو، لا كما ينبغي أن يكون، وبين الحالين يصنع عالمه الصغير المسالم الذي يدرج في دروب الحياة متنقلا حاملا الأمل والرغبة في استمرار الوجود.

ربما كان هذا هو الوصف الذي ينطبق على عائشة في الفيلم التركي “جان” (Can) للمخرج “راشد تشيليكزير”. هذا الفيلم الذي ما زال يتنقل بين المهرجانات، قادما من صندانس ذاهبا إلى مهرجان السينما الأوروبية في بروكسل، خائضا غمار المنافسة واهتمام النقاد.

عائشة.. تراجيديا امرأة عجزت عن تحقيق الأمومة

بطلة الفيلم هي عائشة (الممثلة سيلين أوتشر)، وتجسد حياتها اختصارا لواقع امرأة كادحة ونبيلة بكل معنى الكلمة، امرأة ليست لها أهداف كبيرة ولا صعبة التحقيق، سوى أن عليها أن تكون أما كاملة الأمومة أمام زوجها جمال (الممثل سردار أورتشين)، وهي عاجزة عن أن تنجب له طفلا بعد زمن من الزواج، لكن المفارقة تقع عندما يخبرهما الطبيب أن جمال نفسه هو العقيم وليس عائشة. هذه الصدمة تدفعه لا شعوريا لأن ينظر إلى نفسه نظرة أكثر قسوة، إنه ليس رجلا على الإطلاق، إنه كائن بلا قيمة، ولا معنى لوجوده.

من هذا التوتر المتصاعد نكون مع هذه الدراما التركية التي تعزف عميقا على الوتر الاجتماعي والإنساني، وتصاحب الشخصيات وهي تعيش يومياتها، فنرى عائشة العاملة في المطعم وهي تركض كل يوم وراء المواصلات، وتتعرض لمشاكسات زميلها، وجمال الذي يعمل في مصنع للحديد، وكلاهما يبحث عن عالمه، لكن الأمر بالنسبة إلى جمال هو جدل يتعلق بوجوده.

إن عقمه يعني عدم جدوى وجوده، وهو يمضي في دوامة هذا الصراع في وسط اجتماعي يقترن فيه الزواج بالإنجاب، ولهذا فلا بد من حل، وما من حل سوى أن يتبنى هو وزوجته طفلا.

طفل للتبني.. خطة مفاجئة لإنقاذ ماء الوجه

يقرر جمال بنفسه فكرة تبني الطفل، ويعلن لأقاربهما أن عائشة حامل، وستلد قريبا، مما يثير فزع وصدمة الزوجة التي لم تكن مستعدة، ولم تتوقع أن تسمع هذه الكذبة التي لا أساس لها، ولكنه يجبرها على أن تضع فوق بطنها مخدة صغيرة، للدلالة على أنها حامل ريثما يحضر الولد، وبالفعل يدفع مالا لإحدى العائلات، ليحل ذلك الطفل ضيفا عليهما.

بالنسبة لعائشة تبدو القصة مختلفة تماما عن ما هي لدى جمال، فهي لم تستطع حين حضور الطفل أن تقبله ولا أن تقترب منه، ولم يمنحها أي إحساس بالأمومة، ولهذا وجدت نفسها أمام أزمة ودوامة قاتلة، وهي عاجزة عن أن تمضي في تمثيل دور الأم، وملامسة كائن لا تستطيع الانتماء إليه ولا الانتماء إليها، رغم ضغط جمال وفرحته بمجيء ذلك الطفل، لتصل إلى حالة من الانهيار الكامل، بسبب عجزها عن رسم شكل ما لحياتها؛ أن تكون أما بشكل قسري ومفروض عليها.

الزوجة عائشة التي تعاني من قرارات زوجها

فقدان الزوجة.. فجوة كبرى تمزق شمل العائلة

في وسط هذه الدوامة الجديدة يشعر جمال يوما بعد يوم أن مجيء الطفل قد أفقده عائشة، فلم تعد هي التي عرفها، الحزن يسيطر عليها، وعجزها واضح عن التعبير عن نفسها، فما يكون منه إلا أن يهجر المنزل، تاركا عائشة مع ذلك الطفل وفصول جديدة من المعاناة.

يعمد المخرج إلى رسم خطوط سردية متلاحقة يتنقل فيها بين الحياة اليومية المعتادة وما سيكون، بين الذهاب إلى الغد وبين العودة إلى الماضي، تركض عائشة ملاحقة الحياة ومصاعبها، وقد وجدت نفسها مسؤولة عن طفل لا تنتمي إليه، ولا ينتمي إليها، ولكنها مع ذلك تعتني به، تتركه في كل يوم جالسا في إحدى الساحات العامة، ريثما تذهب هي إلى عملها المعتاد، ثم تعود وتأخذه من هناك، لأن لا بديل عندها، ولا شيء يثبت من هو والد ذلك الطفل.

جان.. قلق بين فراغ الغياب وقبلة العودة

بموازاة ذلك يكون اكتشاف الطفل للعالم من حوله وجها آخر من أوجه الحياة التي تتشكل مع أمه بالتبني، فهو حين تتركه عائشة وحيدا في تلك الساحة يكون له حوار يومي صامت مع أحد الكهول المرابطين في الساحة، حتى يقرر الطفل أن يذهب بعيدا في اكتشافاته، ويتيه وسط الحشود.

وهنا يتأكد لعائشة أن لها ابنا صغيرا رعته وصار ابنها، ويحتل موقعا في حياتها، وغيابه سيصنع فراغا قاتلا فيها، ولهذا فإن عثورها عليه في أحد مراكز الشرطة سيكون حلما بالنسبة لها، عندها تمنحه القبلة الأولى على خده، وتحضنه للمرة الأولى.

يجد الطفل نفسه وسط مشكلة كبيرة تسبب فيها دون إدراكه

جمال.. مفارقات ثري أسرته زوجته اللعوب

لكننا سنمضي قدما في هذه الدراما بحثا عن جمال وما حل به، وإذا به قد تحول إلى إنسان آخر، تزوج وأنجب فعلا، ولكنه بسبب سلوك زوجته الجديدة اللعوب يشكك في نسبة الطفل إليه، وتمضي الميلودراما هنا مع الزوجة المتصعلكة الشابة والأب المستبد، والكل مسيطر عليه، لأنه فقير وهم أغنياء، وهم الذين صنعوه.

عائشة هذه المرة مع جمال في نسخته الجديدة، فهو الثري الذي حلق شنبه وتحول إلى عالم الأثرياء، هنا تشعر بالغربة الكاملة عنه، وهي التي أحبته طويلا، وبقيت ذكراه وخياله يراودها سنين عددا، وها هي ذي قد عادت إليه مع الطفل “جان”، وقد صار فتى يافعا مكتملا وذكيا.

واقعية الفيلم.. نقد اجتماعي بأساليب السينما التركية

لعل هذه القصة تحيلنا إلى الشكل التقليدي للدراما التركية التي تعنى بالحكاية في أنساقها الاجتماعية، أكثر من أي شكل آخر، حتى صار لها رواتها السينمائيون القادرون على شد المشاهد، وإشراكه في رحلة الشخصيات وتحولاتها وأفكارها وما هي عليه.

تبنى هذه الدراما على قصة بسيطة وواقعية، ولكنها مختارة بعناية ومؤثرة، فضلا عن أن الشخصيات -وهي تعبر عن ذلك الواقع- إنما تحرص على إقناع المشاهد والمضي به بعيدا، لملاحقة ما سيجري من تحولات ووقائع، وهو ما يميز هذا الفيلم في نسقه وشكله الواقعي، إنها حقا الواقعية التركية التي تستمد موضوعاتها ومعالجاتها من التراكم الواقعي في السينما على مر تاريخها، لتعيد إنتاج شخصيات أكثر قربا من الحياة وأكثر تعبيرا عنها.

مخرج الفيلم “راشد تشيليكزير” بالإضافة إلى كونه مخرجا فهو كاتب سيناريو ومنتج، وقد انشغل منذ مطلع التسعينيات بالفيلم القصير، فأنتج وأخرج عدة أفلام، ثم تحول إلى الفيلم الروائي الطويل، وكان فيلمه الأول هو “ثلاث تفاحات تسقط من السماء” (Gökten 3 Elma Düstü) عام 2008، وهذا هو فيلمه الروائي الطويل الثاني.