“عشم”.. قصيدة سينمائية مصرية عن بلد يجمع شمل العشاق

 

في أول أفلامها الروائية الطويلة “عشم” تثبت المخرجة ماجي مرجان أنها شاعرة سينمائية تعبر عن رؤية إنسانية رحبة تذكر بعالم الكاتب الروسي العظيم “أنطون تشيخوف” (1860-1904) الذي كان يقول دائما “قدس الأقداس عندي هو الإنسان”، وقد عبر عن ذلك في أفضل أعماله من القصص القصيرة والمسرحيات.

تأتي ماجي مرجان إلى الأفلام الروائية الطويلة بعد عدة أفلام قصيرة روائية ووثائقية كتبتها وأخرجتها وأنتجتها طوال أكثر من عشر سنوات، وكلها أفلام مستقلة، فهي من رواد حركة السينما المصرية المستقلة. وقد عرض الفيلم لأول مرة في مهرجان الدوحة ترايبكا في قطر عام 2012.

ماجي مرجان “مؤلفة سينما”، ليس لأنها تكتب أفلامها، فالمؤلف السينمائي هو من يعبر عن عالم خاص بأسلوب متميز، سواء كتب السيناريو أو لم يكتبه. وهي مؤلفة “أصيلة” تعبر عن نظرتها للحياة والعالم، ويبدو ذلك بوضوح في العلاقات الوثيقة التي تربط بين فيلمها الروائي الطويل الأول وفيلمها الروائي القصير “منهم فيهم” (2007). فكلا الفيلمين عن شباب الطبقة الوسطى الميسورة في القاهرة المعاصرة من نفس جيل الفنانة، وعوالمهم الداخلية المتناقضة، وكلا الفيلمين لا يأخذان شكل قصة ذات بداية ووسط ونهاية، وإنما مجموعة قصص تتداخل وتتشابك.

وبينما يقتصر “منهم فيهم” على شباب الطبقة الوسطى، يتسع “عشم” لكل طبقات المجتمع في القاهرة والإسكندرية، وتمتد أصول شخصياته من القرى الصغيرة في الدلتا إلى الصعيد في المنيا. “منهم فيهم” مثل “عشم” من التعبيرات المصرية الخالصة التي تصعب ترجمتها إلى لغات أخرى بدقة تتضمن كل ظلال التعبير. “منهم فيهم” تعني أنهم كلهم معاً يتحملون مسؤولية أفراحهم وأتراحهم، وتعني أيضا التداخل والتشابك، و”عشم” يعني ما هو أكثر من الأمل، فهو القدرة على الاحتفاظ بالأمل والتفاؤل رغم كل الصعاب، وبقدرة الإنسان على عدم فقد مشاعره الإنسانية الفطرية.

شخصيات الفيلم.. قصص مختلفة لعوالم متقاطعة

عبر النوافذ المتجاورة تنشأ صداقة بين نادين (أمينة خليل) وزوجها رمزي (محمد سرحان) وبين جارهما عادل (محمد خان) الذي يعيش وحيدا، ويسافر دائماً إلى أوروبا. وتعاني نادين من عدم الإنجاب، وتبحث عن وسائل للعلاج، ورغم أن رمزي لا يشعر بأن هناك مشكلة كبيرة، فإن عادل الذي يكبرهما في العمر يحاول أن يخفف عنهما بالإعلاء من شأن الحب.

ومن قرية قريبة من القاهرة تأتي الشابة الصغيرة رضا (نجلاء يونس) لتعمل في تنظيف حمام مركز تجاري كبير تحت إشراف “الريسة” أم عطية (سهام عبد السلام). وتتبادل رضا الحب مع مصطفى (علي قاسم) أحد موظفي أمن المركز، ويعمل كلاهما لتحسين شروط حياته، فتنتقل رضا لتعمل بائعة في إحدى متاجر المركز، ويسعى مصطفى لتأسيس شركة صغيرة للنقل.

يقوم عماد (محمود اللوزي) المحاسب بتحاليل دم تقلق زوجته نادية (نهى الخولي) التي ترعاه وترعى أولادهما. ومن المنيا تأتي ابتسام (منى الشيمي) للعمل ممرضة في أحد المستشفيات الكبرى، وتحب في صمت الدكتور مجدي (مينا النجار)، ولكنه لا يشعر بحبها، وعندما يقرر السفر إلى أمريكا لمدة ثلاث سنوات يطلب منها رعاية والدته المريضة التي تعيش وحدها.

وفي الإسكندرية تنتهي العلاقة بين فريدة (مروى ثروت) وشريف (سيف الأسواني) عندما تدرك أنه يرتبط بوالدته (سلوى محمد علي) أكثر من ارتباطه بها. والقصة السادسة عن داليا (سلمى سالم) وابن عمها أشرف (هاني سيف)، وهما مخطوبان عن حب قديم، ولكن أشرف يقرر إنهاء الخطوبة والسفر إلى ماليزيا والعمل هناك.

عشم.. بطل الهامش الذي يربط الجميع

عشم (شادي حبشي) هو شاب هامشي لا يجد عملا سوى بيع البالونات وتسلية الأطفال في الشوارع، وهو الشخصية التي تربط بين القصص الست، إذ نراه في بداية الفيلم يتحدث مع الفتاة رضا في الحافلة التي تحملها إلى المركز التجاري في حي مدينة نصر لاستلام عملها.

وبحكم حياته في الشارع في قلب حي مصر الجديدة حيث تسكن جميع الشخصيات وحيث يوجد المستشفى التي يعمل بها الدكتور مجدي وابتسام، يلتقي عشم مع رمزي في الشارع، ومع نادية وهي في سيارة أجرة عندما يحاول أن يبيع لها بالونة، ويراه الدكتور مجدي والشرطة تقبض عليه لأنه يبيع بدون ترخيص، ويلتقي مع فريدة عندما يصبح عاملاً في مصعد العمارة التي تسكن بها. وفي النهاية يلتقي مع ابتسام في الشارع، ويوحي اللقاء ببداية علاقة بينهما.

تبدو كل شخصيات الفيلم من مختلف الطبقات والأجيال والأديان، من مدينة نصر إلى مصر الجديدة، ومن القاهرة إلى الإسكندرية، وكأنهم أسرة واحدة، منهم فيهم، يربط بينهم العشم. عندما تمرض أم عطية تذهب إلى المستشفى، وترعاها ابتسام، وتزورها رضا. وفي نفس الشارع يتحرك الدكتور مجدي في اتجاه، وأشرف في الاتجاه المعاكس، ويلتقيان في النهاية في مطار القاهرة، وكل منهما يجلس إلى جانب الآخر من دون أن يتعارفا. إنه عالم صغير واحد، مكانه مصر في الزمن الحاضر، زمن إنتاج الفيلم، ولكنه مصغر للإنسانية كما تراها المؤلفة.

لا توجد أحداث درامية كبرى نتابع تطورها كالميلاد والوفاة والزواج والطلاق والغيرة والخيانة والصراع والنجاح والفشل، وإنما نحن نتابع حركة مشاعر إذا جاز التعبير. لا يوجد أخيار وأشرار، وإنما بشر يرغبون في استمرار الحياة وتحقيق قدر ما من السعادة في ظل كل الظروف.

فوضى الحياة.. شخصيات تشيخوف تبعث في القاهرة

من أكثر شخصيات الفيلم تشيخوفية (نسبة إلى الكاتب أنطون تشيخوف) الممرضة ابتسام التي تحب الدكتور مجدي، رغم أنه لا يشعر بحبها على الإطلاق بسبب اهتمامه بعمله، تماما مثل أشرف الذي يضحي بالحب المتبادل بينه وبين داليا بسبب طموحاته العملية.

ومن الشخصيات التشيخوفية أيضا أم عطية التي تعامل رضا في البداية باعتبارها “الريسة”، وتحقر من شأنها، ولكنها لا تجد غيرها يزورها في المستشفى عندما تمرض. وأم عطية وحيدة مثل عادل.

والأطفال في الفيلم عابرون، وهم لا يستكملون الأجيال فحسب، وإنما يمثلون البراءة الكاملة في مواجهة الواقع المعقد. هذه طفلة الأسرة التي تعيش معها ابتسام تسألها عن معنى رباعية صلاح جاهين التي تكتبها وترددها، وهذه أخرى تلتقي معها داليا في الملاهي، وتحكي لها عن والدها الذي ذهب للعمل في ليبيا، ولكنه في رأيها يحب امرأة أخرى غير والدتها.

ثم هناك المجنون (أمجد رياض) الأشعث الهائم على وجهه في الشوارع، ونراه يعبث مع عشم، ونراه يحاول الانتحار من فوق أحد المباني أثناء مرور عماد وهو يقود سيارته.

عناق الأديان.. إنسانية تشكل هوية مصر الثقافية

تعبر ماجي مرجان في فيلمها عن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر على نحو غير مسبوق في عمقه وجماله وبساطته. ففي ذروة قلق نادية على زوجها وهو يجري التحاليل تركب سيارة أجرة لأنها لا تعرف قيادة السيارات، وعندما ترى السائق يعلق صورة المسيح تطلب منه أن يذهب بها إلى كنسية الزيتون التي يقال إن العذراء ظهرت على سطحها.

وهناك نرى نادين التي تنشد الإنجاب، ونعرف لأول مرة أنها مسيحية، وتشترك نادية ونادين من دون أن يتعارفا في إشعال الشموع في الكنيسة، وفي لقطة واحدة سريعة بعد ذلك نرى نادية تعدل من وضع آية قرآنية في منزلها، ونعرف لأول مرة أنها مسلمة.

ومن المعروف في مصر أن تقليد إشعال الشموع في الكنائس لا يقتصر على المسيحيين، وإنما يشمل المسلمين أيضا، سواء في المدن الكبيرة أم الصغيرة. وهو أمر طبيعي لأن المسلم يؤمن بالميلاد العذراوي للسيد المسيح، ويؤمن بنبوته، وأن العذراء هي المصطفاة على نساء العالمين، أي عالمنا والعالم الآخر، ولكن هذا التقليد ربما لا يحدث إلا في مصر.

وفي الحوار بين نادية وسائق الأجرة تعرف أن اسمه إبراهيم (إبراهيم كمال)، وأن زوجته مريضة، فتعده بأن تساهم في تكاليف علاجها إذا جاءت تحاليل دم زوجها عادية. وعلى نحو تشيكوفي خالص يرفض إبراهيم الفكرة اعتزازا بكرامته. وعندما تظهر التحاليل عادية تفي نادية بوعدها، ولكن بأن تطلب منه تعليمها قيادة السيارات حتى لا تجرح كرامته، ويكون تبرعها لزوجته مقابل عمل يقوم به.

والمشهد الأخير في الفيلم لنادية تقود السيارة، وتستمع في الراديو إلى أغنية ليلى مراد مع نجيب الريحاني في فيلم “غزل البنات” الذي أخرجه أنور وجدي (1949)، وتقول في الأغنية “رايحين ع البلد اللي تجمع شمل العشاق، نفرح ونغني ونودع عهد الأشواق”. ومنذ بداية الفيلم عندما نرى نادية وعماد في منزلهما لأول مرة نشاهد نفس الأغنية تذاع في التلفزيون.

ليلى مراد المغنية ونجيب الريحاني الممثل ليسا فقط من رموز الفنون المصرية في القرن العشرين، وإنما يعبران أيضاً عن الهوية الثقافية المصرية الحديثة التي تبلورت في النصف الأول من ذلك القرن، فهي مصرية يهودية أسلمت في شبابها، وهو مصري مسيحي ذو أصول لبنانية. وهذه الهوية الثقافية قائمة على التعدد، وفي التعدد تكمن حداثتها، كما تتفق مع طبيعة تكوين الشعب المصري.

بصمة المونتاج والموسيقى.. لغة تكمن في ثنايا الصوت والصورة

“عشم” عمل فني كلاسيكي المضمون من حيث رؤيته الإنسانية، وحداثي الشكل من حيث البناء الدرامي المركب، وشاعري من حيث الأسلوب، ومصري من حيث الهوية الثقافية.

يبدأ الفيلم بتقديم شخصيات القصص الست، ثم يتابع تطور كل قصة متنقلا بين كل منها في نفس الوقت في 87 دقيقة. وهو بناء يواجه تحديات درامية عدة، أهمها التعمق في التعبير عن العلاقات بين الشخصيات، وقد نجحت الكاتبة المخرجة مع أغلبها، ولكن التعبير كان إخباريا أكثر منه دراميا في قصة فريدة وشريف.

ويقوم المونتاج الذي اشترك فيه أحمد عبد الله السيد وهشام صقر بدور حاسم في مثل هذا البناء، حتى أن الفيلم يصنع على أساس المشاهد التي صورت، وليس التي كتبت. ورغم التحديات فقد جاء العمل سلساً إلى حد كبير، وتضافر شريط الصوت مع شريط الصورة، حيث قام بالميكساج أحمد جابر، سواء في استخدام المؤثرات الصوتية الواقعية، أو الموسيقى التي ألفها أحمد مصطفى وخالد الكمار وأشرف عليها هاني عادل.

والفيلم مصور ديجيتال بالألوان، وفي حدود كاميرا الديجيتال تمكن مدير التصوير رؤوف عبد العزيز من الإمساك بجوهر الأسلوب الذي يقوم على تصوير مشاهد واقعية من الحياة اليومية العادية والحوار العادي بين الشخصيات، ولكنه يعتمل بالمشاعر الداخلية، والتفاصيل الصغيرة التي تبرز هذه المشاعر.

لغة الفيلم.. أسلوب شاعري يميز السينما المستقلة

تتكامل مفردات لغة السينما مع التمثيل في صياغة الأسلوب الشاعري الذي ينتمي إلى السينما الخالصة، فالفيلم هو كل لقطة فيه من البداية إلى النهاية، والمعنى في العلاقات بين اللقطات، ولا يلخص في جملة أدبية. وكل العاملين في الفيلم وراء الكاميرا من السينمائيين الشباب الذين لا يمتلكون خبرات كبيرة، ولكن لديهم طموح لا حدود له من أجل التجديد، ومن أجل الوصول إلى الصدق الفني.

وكل الممثلين والممثلات مختارون بعناية، وتديرهم مبدعة الفيلم بمهارة، وأغلبهم ربما يمثلون لأول مرة ويمنحون الفيلم طزاجة واضحة، ويلمع منهم بقوة شادي حبشي في دور عشم، ونجلاء يونس في دور رضا، ومنى الشيمي في دور ابتسام، ونهى الخولي في دور نادية، ومينا النجار في دور الدكتور مجدي.

وتكمن شاعرية الأسلوب في الإيقاع الهادئ المتأمل، وفي استبعاد المواقف القطعية، والآفاق المفتوحة للعلاقات الإنسانية، حتى أشرف والدكتور مجدي نراهما في المطار، وليسا مسافرين، ولا أحد يدري ماذا سيحدث بين ابتسام وعشم، أو بين رضا ومصطفى، بل جاءت تحاليل دم عماد عادية فعلا أم يقول ذلك لزوجته ليهدئ من روعها.

“عشم” تجربة فنية جديدة بكل معنى كلمة التجربة وبكل معنى كلمة جديدة، وهو يؤكد مكانة منتجه محمد حفظي ودوره الكبير في تطور السينما المصرية المستقلة، ومكانة مؤلفته كعلم من أعلام هذه السينما.