مسجد فينسبري بارك بلندن.. عش تنظيم القاعدة الذي أصبح منارة للتسامح

 

“مسجد التسامح” هو اللقب الذي بات يحمله مسجد فينسبري بارك في العاصمة البريطانية لندن، ويعد المسجد الأشهر في المملكة المتحدة وربما في أوروبا بأسرها، لما شهده من أحداث تاريخية ودراماتيكية كانت موضوع كتب ودراسات وأفلام وثائقية عدة.

فوصوله لمرحلة يصبح فيها نموذجا للتسامح والتعايش الديني لم يكن بالأمر السهل أو الهين أو المفروش بالورود، بل إن الطريق إلى هذه المكانة كانت صعبة وشاقة، وتطلبت سنوات من العمل، أزال خلالها عنه لقب “عش تنظيم القاعدة” كما كانت تصفه تقارير المخابرات البريطانية، وانتقل المسجد من موطن للتشدد إلى فضاء للوسطية والاعتدال كما تصفه صحيفة إندبندنت البريطانية.

كان المسجد مسرحا لأحداث عدة لم تؤثر على مرتاديه فقط، بل أثرت على صورة المسلمين في العاصمة لندن وفي كل أنحاء المملكة المتحدة، فقد تعدت رمزية المسجد كمكان لأداء العبادة، وألصقت به تارة أوصاف المتهم بدعم التطرف وتارة بوقوعه ضحية له.

قيل إن عددا من المنتمين لتنظيم القاعدة تخرجوا منه وتأثروا بأفكار راجت داخله، عندما كان المسجد في قبضة أبو حمزة المصري الذي يوصف بأنه من أبرز رموز التشدد في العالم، ثم ما لبث أن أضحى المسجد في موقع الضحية لعمليات عنصرية، ولعل أبشعها ما حدث في رمضان عام 1438 الموافق 2017، عندما قام عنصري متطرف بدهس المصلين خلال صلاة التراويح.

توالت الأحداث على هذه المؤسسة الدينية حتى باتت قبلة للمسؤولين البريطانيين ولأفراد من الأسرة المالكة يعدونها نموذجا يحتذى به، ومثالا إيجابيا للدور الذي يجب أن تضطلع به المساجد في بريطانيا، وحصل إمامه على وسام الشجاعة الذي تمنحه الملكة، لمواقفه الشجاعة ضد الكراهية والعنف، والآن وقد انقضت 25 سنة على تأسيس هذا المسجد أصبحت له سيرة تستحق أن تروى، وقصة ملهمة في مواجهة التشدد الديني والتطرف، فما حكاية مسجد فينسبري بارك؟

أبو حمزة المصري.. حارس حانات متهور يحتل المسجد

 

كانت بداية مسجد فينسبري بارك جيدة، وأعطاها الأمير “تشارلز” -نجل الملكة إليزابيث- دفعة قوية، عندما أشرف على افتتاحه سنة 1994، وعقدت السلطات البريطانية الآمال على المسجد، ليكون فضاء للتعايش في منطقة تشهد تنوعا ثقافيا وعرقيا، نظرا لحجمه وقدرته على استيعاب أكثر من 1800 شخص للصلاة، وأيضا لخصوصية محيطه، حيث يقع بين أحياء تضم جاليات باكستانية وبنغالية وجزائرية ومصرية، فضلا عن قربه من ملعب نادي أرسنال الذي يعد من أكبر أندية العاصمة لندن.

كل تلك الآمال التي كانت معلقة على المسجد سرعان ما خابت سنة 1997 بوصول شخصية ستحدد مصير “فينسبري بارك” عدة سنوات، وستحوله إلى محج لعدد من المتطرفين والمتشددين، وتهدد بإغلاق المسجد نهائيا، وذلك عندما ظهر أبو حمزة المصري القادم من حراسة الحانات في لندن، وبسط سيطرته على المسجد، وسريعا تمكن هذا الرجل الغامض من لفت الأنظار، أولا بسبب التساؤلات عن سبب فقدانه ليده وعينه، وتحوله من رجل متهور إلى شخص يحمل أفكارا متطرفة وعنيفة، ويسعى لتحويل المسجد لمنصة يشيع عبرها أفكاره.

تضاربت الأقوال حول سبب فقدان أبو حمزة المصري لعينه ويده، فتارة يدّعي أنه فقدها عندما كان يقاتل رفقة المجاهدين الأفغان ضد الاتحاد السوفياتي، وتارة أخرى يعترف خلال التحقيق معه في الولايات المتحدة أنه فقد عينه بسبب انفجار متفجرات، أثناء اشتغاله على مشروع عسكري للجيش الباكستاني، وهو ما ألزمه وضع عين زجاجية طيلة حياته.

أما عن سلوكه في المسجد فإن التقارير الأمنية التي أنجزتها المخابرات البريطانية تنقل عن بعض العاملين فيه، كيف سيطر أبو حمزة على المسجد، من خلال تعنيف المسؤولين وإهانتهم وتوجيه الشتائم لهم، بل وأحيانا من خلال ضربهم بغرض الضغط عليهم لترك المسجد، ليصبح تابعا له وحكرا على أتباعه، وحتى لا يعارض أحد قراراته وأفكاره، فبات الخوف هو السائد في المسجد، ومن تحدث بما يخالف آراء أبو حمزة تعرض للتعنيف والطرد.

استقطبت سمعة أبو حمزة وأفكاره المتطرفة عددا من الشباب الذين يميلون لمثل هذا الخطاب، خصوصا خلال تلك الفترة المشحونة، وتدريجيا غصت جنبات المسجد بمريدي أبو حمزة ومن يؤيدون أفكاره، بينما بات أهالي الحي من المسلمين العاديين والمعتدلين يتجنبون الصلاة فيه، لما رأوه من سلوكيات مخالفة لقيم الإسلام.

حادث دهس عنصري أمام مسجد فينسبري يودي بحياة عدد من المصلين في يونيو/حزيران 2017

 

“تحول إلى فندق لتنظيم القاعدة في لندن”.. تقرير المخابرات

لم يطل مكوث أبو حمزة المصري إلا سنة واحدة قبل أن يثير قلق السلطات البريطانية، ففي سنة 1998 أطلقت لجنة المؤسسات الخيرية تحقيقا بشأن المسجد، وعلى إثره توصلت إلى معطيات عن تعرض القائمين المعتدلين للإهانة من طرف أبو حمزة وأتباعه، كما أنهم باتوا يقيمون في المسجد، خلافا لقواعد المؤسسة، وهو ما استرعى انتباه المخابرات البريطانية، وأثار انتباهها بشأن الأوضاع المستجدة داخل المسجد.

وفي سنة 1999 استطاع رضا حسين -وهو أحد عملاء مكتب المخابرات البريطانية (MI5)- اختراق المسجد من الداخل، وقدم نفسه واحدا من أتباع أبو حمزة، ليكتب تقريرا مطولا عن الأجواء داخله، ويخلص للقول إنه “تحول إلى فندق لتنظيم القاعدة في لندن”.

وبالفعل فقد جذب خطاب أبو حمزة المتطرف عددا من الأسماء التي ظهر أن لها علاقة وطيدة بتنظيم القاعدة، ومن بين هؤلاء زكرياء الموسوي الذي يوصف بأنه من العقول المدبرة لهجمات 11 سبتمبر/أيلول، وأيضا رشيد ريد الذي حاول إدخال مواد متفجرة إلى طائرة تابعة لشركة الخطوط الجوية الأمريكية في ميامي من أجل إسقاطها، قبل أن يتمكن الأمن من إحباط مخططه.

ومباشرة بعد أحداث 11 سبتمبر في الولايات المتحدة، حصلت اللجنة البريطانية للجمعيات الخيرية على تسجيلات صوتية لأبو حمزة المصري، هي عبارة عن خطبته في أول جمعة بعد إعلان الولايات المتحدة عمليتها العسكرية في أفغانستان، وبناء على هذا التسجيل قررت اللجنة أنه يروج لخطاب سياسي وديني متطرف، وهو ما يتعارض مع الوضعية القانونية للجمعية التي أسست المسجد، وبناء على هذه الخلاصة فُتح تحقيق ضده بدعوى مخالفته القوانين.

تحرير المسجد.. معركة المخابرات وقيادات المسلمين المعتدلين

رغم الخلاصات التي توصلت إليها اللجنة البريطانية، فقد واصل أبو حمزة إلقاء خطبه في المسجد طيلة سنة 2002، ومع بداية سنة 2003 شهد المسجد حدثا قلب مصيره رأسا على عقب، بداية بقيام الشرطة البريطانية بإنزال أمني قوامه 150 رجل أمن يراقبون الأوضاع دون التدخل، وبالتنسيق مع عدد من قيادات المسلمين في بريطانيا الذين يحملون أفكارا معتدلة، وتمكن هؤلاء من دخول المسجد الذي بات وكرا لرجال أبو حمزة، ووفق مخطط محكم الخطوات قام قادة الرابطة الإسلامية في بريطانيا بإخراج المنتمين لفكر أبو حمزة المصري، دون أي خسائر بشرية تذكر.

ورغم إغلاق المسجد المؤقت حتى ينفض عنه أنصار الخطاب المتشدد، فإن أبو حمزة أصر على إلقاء خطب الجمعة أمام بوابته، لكنها لم تحظ بحضور المصلين بقدر ما تابعتها وسائل إعلام عالمية، فقد بات الرجل يعد رمزا للعنف والتطرف في بريطانيا، وأصبح مثيرا للجدل ومطلوبا للمخابرات الأمريكية.

لم ينته مسلسل استعادة المسجد من يد أبو حمزة سنة 2003، بل تواصل حتى صيف عام 2004 باعتقال أبو حمزة المصري من طرف الشرطة البريطانية، بموجب قانون مكافحة الإرهاب، وذلك على خلفية حصول المخابرات على معطيات تفيد بإرساله أموالا لتنظيم القاعدة، وأيضا مساعدته شابا على السفر إلى أفغانستان للقتال، ودعمه لمسلحين قاموا باختطاف سياح في اليمن، وهو الحادث الذي أسفر عن مقتل ثلاثة مواطنين بريطانيين سنة 1998.

ويمكن القول إنه في سنة 2004 كُتبت للمسجد شهادة ميلاد جديدة، وذلك عندما قررت لجنة الجمعيات الخيرية تسمية لجنة إشراف جديدة تحمل أفكارا معتدلة وحازت على دعم عدد من الجمعيات الإسلامية في بريطانيا، وأيضا على ثقة الأجهزة الأمنية في البلاد، فأغلق المسجد من أجل تطهيره وتنظيفه وإصلاحه قبل إعادة فتحه أمام المصلين من جديد.

شبح التطرف.. ماضٍ أليم وتحديات تواجه المسجد

صحيح أن المسجد تخلص من أبو حمزة المصري وأبعد أنصاره، لكن التخلص من شبحه والصورة السيئة التي ألصقها بالمسجد لم يكن بالأمر السهل، فقد جعله عرضة لكثير من الشبهات والتهم. ففي سنة 2008 قام بنك “أتش إس بي سي” (HSBC) بإغلاق حساب المسجد، ولم يستطع القائمون عليه فتح حساب جديد.

استند البنك في قراره إلى معلومات تضمنتها قاعدة البيانات السرية التي وضعتها مؤسسة تومسون رويترز، تربط المسجد بجهات إرهابية، وذلك قبل سنة 2005، فضلا عن علاقة مع مجموعات إسلامية أخرى، وقد قررت إدارة المسجد رفع دعوى قضائية ضد مؤسسة رويترز تومسون، وفي سنة 2017 أقرت المؤسسة بخطئها، وقررت أداء الخسائر المادية التي تسببت فيها للمسجد.

ومن الأمثلة على صعوبة التخلص من الصورة السلبية التي تشكلت لدى البعض باعتباره مؤسسة دينية لإنتاج الخطاب المتطرف، ما تعرض له سنة 2015 بعد الهجوم على مجلة شارلي إيبدو الفرنسية من رسائل تهديد بالقتل والكراهية، بعد أن تبين أن منفذي الهجوم كانت لهم علاقة بأحد الشيوخ المتشددين الذين مروا من المسجد خلال سنوات سيطرة أبو حمزة المصري، بل إن شخصا حاول إضرام النار في بناية المسجد لولا أن الأمطار الغزيرة حالت دون نجاح مخططه.

وفي سنة 2016 قام شخص آخر بإلقاء لحم الخنزير الفاسد أمام بوابة المسجد.. كل هذه الحوادث تظهر حجم التحديات التي واجهت إدارة مسجد فينسبري بارك من أجل محو صورة أبو حمزة المصري من ذاكرة البريطانيين، وفصل المسجد عن سيرة هذا الرجل.

“علامة الجودة المرئية”.. جائزة رسمية لمسجد يكافح التطرف

مع مرور السنوات ظهر حجم العمل الذي قام به المشرفون الجدد على المسجد تحت إشراف مديره محمد كزبر، فحصل المسجد على جائزة مرموقة تُمنح للمؤسسات العاملة في محاربة التطرف بكل أشكاله، ليكون ثالث مؤسسة دينية تحصل عليها منذ إنشاء الجائزة التي تمنحها الحكومة، وتحمل اسم “علامة الجودة المرئية” (Visible Quality Mark)، وبررت لجنة منح الجائزة اختيارها للمسجد لانتهاجه سياسة “عدم التسامح مع خطاب الكراهية والتشدد”، ونجاحه في تغيير الصورة المغلوطة التي ألصقت به.

أما الزعيم السياسي البريطاني “جيرمي كوربن” الذي كان منتخبا محليا في منطقة فينسبري بارك، فلم يخفِ إعجابه بالعمل الذي قامت به إدارة المسجد للحصول على هذه الجائزة، مؤكدا أن ساكنة الحي يستحقون تتويجا جاء بعد معاناة طويلة مع الخطاب المتشدد.

وحتى بعد وصوله لقيادة حزب العمال، ظل “جيرمي كوربن” صديقا وفيا للمسجد يتردد دائما عليه لحضور عدد من فعالياته التي تحتفي بقيم التعايش والتسامح الديني، ومن بينها تنظيم إفطار في الشارع خلال شهر رمضان، وتقوم فكرة الإفطار على تنظيمه في الشارع المقابل للمسجد، حيث يحضره الجميع مسلمين وغير مسلمين، كما يتميز بإلقاء كلمات من طرف قيادات الديانات المسيحية واليهودية ورجال الأمن.

وتنصب كل الكلمات على أهمية إعلاء قيمة العيش المشترك والتسامح ونبذ العنف، وبعد أذان المغرب يتشارك الجميع وجبة الإفطار في مشهد إنساني راق، إذ يتقاسم المسلمون وغيرهم الأدوار في توزيع الوجبات، وهناك من سكان الحي غير المسلمين من يجلبون وجبات أعدوها في منازلهم، وهو ما جعل مبادرة إفطار في الشارع تصبح نموذجا تحتذي به المساجد البريطانية.

وقد منح ذلك لشارع مسجد فينسبري بارك ألقا جديدا عنوانه التعايش والتسامح، بعد أن كان نفس الشارع منصة لأبو حمزة المصري يلقي فيه خطبه المتطرفة أمام عدسات وسائل الإعلام العالمية.

وسام الإمبراطورية البريطانية.. ثمرة مواجهة العنف بالسلام

رغم الجهود التي بذلها المسجد من أجل نبذ كل قيم الكراهية والإقصاء، فإنه لم يسلم من اعتداءات العنصريين وأنصار اليمين المتطرف، وكان أخطر هذه الهجمات ما تعرض له سنة 2017 من طرف شخص يحمل أفكارا يمينية متطرفة، فقد دعس مصلين كانوا يؤدون صلاة التراويح، مما أسفر عن مقتل شخص وإصابة تسعة، وبرر منفذ الهجوم جريمته بأنه يريد أن ينتقم من المكان الذي كان فيما مضى ملاذا للمتطرفين.

في المقابل يقول المشرفون على المسجد إن النجاح الذي حققوه في تحويل فينسبري بارك لنموذج للتعايش والتسامح الديني، أزعج عددا من أنصار اليمين المتطرف، إذ كانوا يجدون فيما يحدث على عهد أبو حمزة المصري مادة دسمة للتحريض على المسلمين ووسمهم بالإرهاب.

لكن هذا الحادث أظهر للبريطانيين مجددا إيمان القائمين على المسجد بقيم التسامح، وكيف أنهم بالفعل لا يحاربون التطرف والعنف بالقول فقط وإنما بالفعل أيضا، وذلك ما بدا جليا من السلوك الراقي الذي أظهره إمام المسجد محمد محمود أثناء عملية الدهس، فقد قام المصلون بإلقاء القبض على المهاجم وحاولوا ضربه، لولا أن الإمام منعهم من ذلك، وقام بحمايته إلى حين وصول الشرطة، إيمانا منه بأن العنف لا يواجه بالعنف، وخلال تلك السنة أجمعت جل الصحف البريطانية على وصفه بأشجع إمام في بريطانيا، وبأنه نموذج لقيم التسامح.

وفي شهر أبريل/نيسان من سنة 2019، كرم الأمير “ويليام” دوق كامبريدج إمام المسجد في لندن، ومنحه وسام الإمبراطورية البريطانية في قصر باكنغهام، وذلك تقديرا لموقفه. ويعد هذا الوسام أرفع وسام يُمنح لإمام مسجد. وتعليقا على هذا التكريم قالت “أليسون كينغ” الناطقة باسم الحكومة البريطانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إنه لدليل قوي على أهمية دور المسلمين في بريطانيا في شتى المجالات.

وقد توّجت مسيرة المسجد الأشهر في بريطانيا بهذا التكريم الملكي، اعترافا بدوره في محاربة الكراهية والعنف والتطرف، بعد أن سلك مسارا صعبا طيلة سنوات، للانتقال من ظلام التشدد إلى رحاب الاعتدال وتقديم أفضل صورة عن المسلمين في أوروبا.