طرابلس.. شوقا إلى الركن الخامس

طرابلس، المدينة الوادعة المهمشة في شمال لبنان، هي أم الفقراء كما يسمونها، لها في قصص الوداع والانتظار حكايات مثل باقي العاشقين، مشغولةٌ مثل أخواتها حواضر الإسلام بالاستعداد لموسم الحج وعيد الأضحى.

في هذا الفيلم الذي أنتجته قناة الجزيرة الوثائقية بعنوان “شوقا للركن الخامس”، نلقي شعاعا من الضوء على أشواق الفقراء للمشاعر، وكيف يعيش في وجدانهم حلم زيارة البيت الحرام ومسجد النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم.

تشتهر طرابلس بالتعايش السلمي السمح بين المسلمين والمسيحيين، فهذا الأب إبراهيم سَرّوج وكثيراً ما يلقبه المسلمون بالشيخ إبراهيم لكثرة تسامحه وتواصله مع جيرانه المسلمين.

تحتوي مكتبته العامرة على الكثير من الكتب التي تدعو إلى التسامح والحوار بين الأديان، يقول عنه الشيخ ناصر الصالح رئيس المحاكم الشرعية ولجنة الحج، إنه صديقه، وإن مكتبته تعتبر مصدراً للكتب المهمة في جميع الأديان.

تأشيرات الحج.. تقلب على جمر الانتظار

سارت بنا أقدامنا إلى جسر “أبو علي” حيث سوق البسطات لنلتقي طالب طيارة، وهو صاحب بسطة ملابس عتيقة ينتظر تأشيرة الحج، بينما حصلت عليها زوجته نهى مدني.

يقول طالب إنه نظراً لعدد التأشيرات المحدود التي تُمنح للبنان، فإن المواطن الفقير مضطر لمراجعة النواب والوزراء والسياسيين من كل الأطياف حتى “يتواسطوا” له ليحصل على تأشيرة.

مثله رشيد عواد، وهو صاحب معمل خياطة في حي الصحافة، ينتظر هو أيضاً تأشيرته، وحتى زوجته لم تحصل بعد على التأشيرة، فهو يتمنى أن ترافقه لأنه يحتاج الى مساعدتها. يقول رشيد إنه لن يستجدي نفقات الحج من أحد، إنه لا ينتظر هبات من أحد، إما أن يحج من ماله الخاص وإلا فلا.

فريال بارود، تقول عن أمها إنها تقدمت للحصول على تأشيرة الحج على مدى السنوات الخمس الماضية، ولكنها قوبلت بالرفض في كل مرة. لم يتسرب اليأس إلى قلبها، وما زالت تحاول.

تقول فريال “إنه لأمر مستفز حقاً أن نحصل على حقوقنا المشروعة بالتزلف للسياسيين والنواب، حتى مكاتب الحج التي من مهامها تيسير الحصول على التأشيرة بالطرق المشروعة، فإنها أصبحت تبيع التأشيرات لمن يستطيع أن يدفع، حتى إن ثمن التأشيرة قد يصل إلى ثلاثة آلاف دولار”. وتضيف بحسرة “هل يتوجب علي أن أذهب وأستجدي تأشيرة الحج لوالدتي من البطريرك، أو من سمير جعجع؟”.

حج البر قديما كان متعبا والمشقة كبيرة
حج البر قديما كان متعبا والمشقة كبيرة

في أكروم، القرية الجبلية في شمال طرابلس، تنتظر عائلة الأدرع تأشيرات الحج. وبينما كانت زوجة محمد الأدرع تحلب بقراتها، كان رفيق دربها يلاطفها ويقول “أنا أستطيع عمل فنجان القهوة، ولكنني أجده أطيب طعماً عندما أتناوله من يدك”، فتجيبه بعصبية لا تخلو من دلال “دعني أنهي عملي أولاً ثم أحضر لك القهوة”.

إلى السفارة السعودية في بيروت، رافقتنا فريال التي تريد أن تسأل عن سر رفض تأشيرة والدتها في كل مرة، كان هنالك طابور طويل من مئات البشر، أكثرهم مثل حالة أم فريال. إنتظرنا طويلاً ولم نفلح في الدخول، فانتهزنا فرصة كوننا فريقاً صحفياً وطلبنا إجراء مقابلة مع السفير بخصوص حادثة سقوط رافعة في الحرم المكي، وتم تحديد المقابلة بعد نصف ساعة من الآن، وللأسف اعتذر السفير في اللحظة الأخيرة، ولكن غنيمتنا كانت أكبر عندما حصلنا على ختم تأشيرة على جواز سفر أم فريال، وذلك من خلال سكرتارية السفارة، يبدو أن سلاح الإعلام يعمل بشكل فعال في كثير من الأوقات.

ذكريات الحج في الزمن الجميل

قابلنا الحاجة أم زكريا لتحكي لنا حكايا الحج في الزمن الماضي، تقول إن حج البر متعب والمشقة كبيرة، ولكننا رغم ذلك كنا نطير شوقاً إلى البقاع المقدسة فلا نحس بالتعب، ونستهين بكل الصعوبات. كانت التحديات كبيرة، فمن ندرة المياه على الطريق إلى حر الصيف اللاهب وزمهرير البرد القارس شتاء، ولكن التحدي الأكبر لقوافل حجاج البر كان قطاع الطرق، ولذلك حرص الخلفاء والأمراء منذ بدايات دولة الإسلام على تأمين طرق الحج بتسيير دوريات الجنود ما أمكن، وكان للسلطنة العثمانية الحظ الأوفر من هذه الرعاية والحماية.

يقول الشيخ رامي الفري من جمعية مكارم الأخلاق إن قافلة الحج المنطلقة من أرض السلطنة العثمانية كانت تمر من طرابلس متجهة إلى القدس ومنها إلى أرض الحجاز حيث المشاعر المقدسة، وكانت السلطنة توليها اهتماماً بالغاً، بل ويتفاخر السلاطين بتأمين حاميات الجنود التي ترافق القوافل طوال طريقها.

وداعٌ على أنغام التواشيح

وعلى أنغام التواشيح والتراتيل الدينية وأناشيد الشوق إلى لقيا الرسول الكريم، يودع أهل طرابلس حجاج بيت الله الحرام، وينتشر في الأجواء عبق الحنين إلى الديار المقدسة، وتكثر وصايا المودعين للحجاج بالسلام على الرسول والدعاء لهم في المواطن الشريفة كلها، وتسبقهم أفئدتهم إلى حيث تمطر سحائب الرحمة في عرفات ومنى والكعبة والروضة الشريفة.

على أنغام التواشيح والتراتيل الدينية وأناشيد الشوق إلى لقيا الرسول الكريم، يودع أهل طرابلس حجاج بيت الله الحرام
على أنغام التواشيح والتراتيل الدينية وأناشيد الشوق إلى لقيا الرسول الكريم، يودع أهل طرابلس حجاج بيت الله الحرام

وبينما تنطلق القافلة الأولى من بساتين طرابلس حاملة الدفعة الأولى من الحجاج، وبينهم أم فريال، ما زال بقية طالبي الحج هذه السنة ينتظرون على أمل أن يتم نشر أسمائهم ضمن المقبولين.

ويتوافد على بيت الشيخ مصطفى -وهو حاج سابق- كل الذين ينوون الحج هذا العام ليشرح لهم مناسك الحج بالتفصيل، ولينقل لهم خبراته في احتياجات الحاج على الطريق وفي الديار المقدسة، والاحتياطات الطبية التي ينبغي على الحجاج مراعاتها والعناية بها.

ثم يذهبون إلى المراكز الصحية لأخذ المطاعيم اللازمة لرحلة العمر هذه، ويتزودون من الملابس اللازمة وبعض المأكولات الجافة التي يكسرون بها جوع الطريق الطويل.

ويشهد شارع لطيفة بحي الزاهرية في طرابلس كل عام على تجمع الحجاج من أجل الانطلاق بالحافلات إلى مطار بيروت، ويشهد على كمّ العواطف ودموع الوداع وآهات الحسرة والحزن من الذين لم يحالفهم الحظ بالسفر، ولم يحصل طالب طيارة على التأشيرة هذا العام أيضاً فاكتفى بتوديع زوجته نهى وعيونه محملة بالأسى والدموع وبعض الأمل في المقبل من المواسم. وهي بدورها أوصته أن يأخذ أدويته في مواعيدها، وقلبها تتصارع فيه المشاعر بين فرحٍ للسفر وحزن وأسى على ترك زوجها المريض خلفها.

تلك المنازل قف بنا يا حادي

في السادس من ذي الحجة وقبل يومين فقط من بدء المناسك، أذنت السلطات السعودية بإرسال طائرات إلى بيروت لجلب حجاج لبنان، وهذا يعني أن حجاج حملة المهاجر الطرابلسية التي يقودها الحاج مصطفى سوف تتوجه إلى مِنى مباشرة في ليلة التروية، ها هم يستقلون الحافلات من جديد، وقد بدا التعب والإرهاق على محيا الحاج رشيد عواد، ولكنه سعيد جداً ومبتسم، إنه في الديار التي حلم برؤيتها منذ سنين.

على جبل عرفات تشرئب الأعناق إلى الله، وتلهج الألسنة والقلوب إليه بالدعاء أن لا يردهم خائبين
على جبل عرفات تشرئب الأعناق إلى الله، وتلهج الألسنة والقلوب إليه بالدعاء أن لا يردهم خائبين

ويشكو فريق التصوير في الفيلم من صعوبة حمل كاميرا كبيرة الحجم لتصوير هذا الحدث الجسيم في خضم هذا الازدحام المنقطع النظير في هذا الموسم، وقد اضطروا مراراً إلى إبراز وثائقهم وتراخيصهم للسلطات ورجال الأمن الذين يتخذون تدابير استثنائية للحفاظ على أمن الحجاج، ولكن كل هذه الصعوبات تهون حين ينجحون في التقاط تعابير الفرح والأمل والرجاء والخوف في وجوه الحجاج، ويسجلون يوميات العاشقين والمتيمين بهذه الأرض المباركة.

وعلى جبل عرفات تشرئب الأعناق إلى الله، وتلهج الألسنة والقلوب إليه بالدعاء أن لا يردهم خائبين، وأن يقبل منهم حجهم ويحط عنهم خطاياهم، وتتشوف القلوب إلى سحائب الرحمة أن تمطرهم، وإلى برد السكينة أن يتغشاهم.

إلى عرفات الله يا خير زائر
عليك سلام الله في عرفات

على كل أفق بالحجاز ملائك
تزف تحايا الله والبركات

لك الدين يا رب الحجيج جمعتهم
لبيت طهور الساح والعرصات

أرى الناس أصنافا ومن كل بقعة
إليك انتهوا من غربة وشتات

ويا رب هل تغني عن العبد حجة
وفي العمر ما فيه من الهفوات

وأنت ولي العفو فامح بناصع
من الصفح ما سودت من صفحاتي

في يوم العيد، يوم الحج الأكبر، تتردد الكاميرا بين طرابلس والمشاعر المقدسة، ففي طرابلس يقيم المسلمون صلاة عيد الأضحى أفواجاً في الفلاة، ويذبحون أضاحيهم تشبهاً بالحجاج، وطمعاً في المغفرة والرحمة، وأملاً في أن تتاح لهم فرصة الحج في الأعوام القادمة.

في يوم العيد، يوم الحج الأكبر، تتردد الكاميرا بين طرابلس والمشاعر المقدسة
في يوم العيد، يوم الحج الأكبر، تتردد الكاميرا بين طرابلس والمشاعر المقدسة

أما في منى فقد توكل الشيخ مصطفى برمي الجمرة الكبرى بالنيابة عن النساء وبعض الرجال في حملته، حيث نبأ الحادث الأليم ووفاة عدد كبير من الحجاج نتيجة التدافع قد خيّم بالحزن على المكان، وشيء من الخوف والرهبة في قلوب بعض الحجاج.

وذهبت نهى إلى الكعبة المشرفة لأداء طواف الحج، وكان الشوق قد بلغ مداه لأنها لم تكن أدت طواف القدوم، فلم يمنعها الزحام الكثيف من أن تصعد إلى الدور الثاني من المسجد الحرام لرؤية الكعبة، وقبالة الحجر الأسود بثت أشواقها، وبكت عند النظرة الأولى، وهاج القلب بالدعاء، فقد قال لها الشيخ مصطفى إن الدعاء مستجاب عند رؤية الكعبة أول مرة، ثم طافت مع بقية حجاج الحملة طواف القدوم والإفاضة سوية، وسعوا سعي الحج.

في هذا اليوم ظهرت خبرات الشيخ مصطفى المتميزه، حيث أجرى اتصالاته وقام بمراسلاته ليؤمِّن للحملة زيارة مميزة إلى مركز خياطة ستار الكعبة ومتحف مكة المكرمة، حيث اطلع الحجاج على مراحل حياكة الستار، كما زاروا مجسماً يظهر ما في داخل الكعبة من الكنوز والآثار، ورأوا صوراً تظهر مناسك الحج في مراحل مختلفة من الزمان. كانت زيارة ممتعة وتجربة جديدة أثْرت خيال الزائرين.

إلى الحبيب خذوني

وتشد الحملة رحالها إلى المدينة المنورة، حيث يرقد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكثير من صحابته الكرام، وتختلط مشاعر الشوق واللقاء والحب والصفاء لدى رؤية القبر الشريف، وتنهمر العبرات لتبلل أرض الروضة الشريفة، وهم يذكرون ويبتهلون بالدعاء، كيف لا وهم يتذكرون حديث الرسول صلى الله عليه وسلم “بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة”.

في منى فقد توكل الشيخ مصطفى برمي الجمرة الكبرى بالنيابة عن النساء وبعض الرجال في حملته
في منى فقد توكل الشيخ مصطفى برمي الجمرة الكبرى بالنيابة عن النساء وبعض الرجال في حملته

ثم يذكرهم الشيخ مصطفى بأن هذه هي آخر فرصة للتسوق، ويقول لهم “ولا تنس نصيبك من الدنيا”، فأسواق الملابس والألعاب لها حظ من وقت الحاج ومن جيبه أيضاً، فيحرص حجاج طرابلس مثل غيرهم أن يحضروا لذويهم الهدايا من الملابس والتحف والألعاب والمسابح والتمور، فهدية الحاج لها قدسية خاصة في نفوس الناس.

العودة إلى طرابلس

في حي الزاهرية في طرابلس يهرع ذوو الحجاج بالذهاب إلى محطة الحافلات حيث ينتظرون قدوم الحجاج، وترصد الكاميرا لحظات لا يجود بها الزمان إلا قليلاً، الفرح والسرور يعمّ الأرجاء، ورائحة المسك والعنبر والبخور تعطر المكان، والعبرات والبسمات والحبور تظهر بادية على وجوه الرجال والنساء والأطفال، وأكف الشكر والثناء ترتفع إلى الرحمن حامدةً شاكرةً أن أقر أعين الجميع وعادوا سالمين غانمين مغفوراً لهم بإذن الله.

في حي الزاهرية في طرابلس يهرع ذوو الحجاج بالذهاب إلى محطة الحافلات حيث ينتظرون قدوم الحجاج
في حي الزاهرية في طرابلس يهرع ذوو الحجاج بالذهاب إلى محطة الحافلات حيث ينتظرون قدوم الحجاج

ويحرص الأب إبراهيم سروج أن يكون أول الحاضرين وعلى رأس المهنئين، وهو يأكل التمر ويرتشف زمزم ويردد “وسقاهم ربهم شراباً طهوراً”.